··''في وقت ما لم تكن لديّ خبرة كافية بثقافة الصورة لكنني كنت أدرك، وهذا ما اكتشفته فيما بعد، أن الصورة مرتبطة بتقاليد الروبورتاجات في مناطق العالم الأكثر سخونة واضطرابا، في هذه اللحظة بالذات وللصدفة أو ربما العكس كانت بلادي الجزائر تخوض حربا أهلية بشعة وكنت مستعدا لها، أقصد كنت مستعدا للذهاب إلى هناك ومعرفة الحقيقة، ثم ذهبت··''· ''برينو بوجلال'' مصوّر فوتوغرافي يعمل في وكالة ''VU''، من مواليد 1961 بمدينة مونتريال، من أب جزائري وأم فرنسية، يقول عن تاريخ عائلته بأنه تاريخ مضطرب ومؤلم، خاصة من جهة والده، شبيه بالتراجيديا اليونانية إن صح التعبير، بعدما أنهى دراسته الجامعية عمل كدليل سياحي في جنوب وشرق آسيا، ينتابه إحساس عميق بالحنين لموطن الجذور الأولى· ومن أجل هذا يختار مهنة المصور الفوتوغرافي، حلم طفولته، ليؤرخ لجزء من حياته، لأن -حسب اعتقاده- الذاكرة الشفوية والبصرية خائنة، يقول: ''اخترت هذه المهنة لأنها تقرّبني كثيرا من مواطن الغربة، يمكن أن أشبّه هذا بالعراف أو ما يسمى بقارئ الغيب والصمت··''، وكانت رحلته الأولى حاسمة لأنّها، كما وصفها، أبانت له عن قناعات جديدة فيما يخصّ تجربته كمصوّر فوتوغرافي وأنضجت لديه فكرة أن يصبح فوتوغرافيا لما للصورة من أهمية· الاسم واللقب، برينو بوجلال، إنها المزاوجة بين اللغة، لغة الأسماء، هو كذلك تزاوج الهوية والانتماء، حكاية التاريخ ومأساة الأوطان وأحقاد الماضي، أمه فرنسية وأباه جزائري، لا يعرف إن كان هذا نعمة أو نقمة عليه، لم يجرّب هذا الإحساس كثيرا بحكم أنه كان بعيدا عن وطنه ولم يحس نحوه بأي رغبة في التعرّف عليه إلا في السنوات الأخيرة، بالضبط عندما قرر أن يصبح مصوّرا، انتقل من الأبيض والأسود إلى الألوان: ''مجال التصوير الفوتوغرافي بحاجة لمجهودات واجتهادات كبيرة، تجديد وتطوير وتحديث، وأنا لست إلا قادم جديد يطرح الأسئلة ويبحث عن الإجابات على من هم أقدم مني في مهنة السحر الذي أسر الحواس··''، طريقته أو أسلوبه في التصوير بسيط وشبه كلاسيكي كما يصفه لكنه نافع ومفيد له، لا تأطير، يعني أن تكون الصورة متحررة من الإطارات بعكس المصورين الآخرين واستعمال آلة تصوير غير محترفة بعكس التي يستعملها كبار المصورين العالميين، طريقة عمل استلهمها منذ رحلته الأولى للجزائر في ماي ,1993 يقول عن هذه الرحلة: ''كانت البلاد ضحية أسوأ الكوابيس، العنف الوحشي والقتل المدمّر، الشوارع والطرقات فضاءات خطيرة، من المستحيل أن تلتقط صورة واحدة دون أن تلفت انتباه أحد وهذا بحد ذاته يعتبر مجازفة خطيرة··''، للتحايل على اللحظة المكلفة للحياة أبدع طريقة تصوير ذكية، استعمل علبة خاصة بالتصوير للهواة يخفي بداخلها آلة تصويره وعند التقاطه للصّور لا ينظر للعدسة الأمامية للآلة مباشرة كما يفعل أي مصوّر بل يوجهها معتمدا على حدس الفنان نحو الهدف ثمّ يلتقط الصور، يقول:''رسمت رحلتي الأولى الخطوط الأولى لتقنية التصوير خاصتي، إنها ولادة طريقة عمل جديدة مختلفة، البعض ينظر لها على أنها طريقة قديمة لكن بالنسبة لي مفيدة وهذا هو المهم··''، يقول وهو يطأ الأرض الجّزائريّة لأوّل مرّة وكان سنّه آنذاك 32 سنة، في تلك اللحظة لم يلتقط إلا صورا عادية وبسيطة وغير متطلّبة، يعني انه لم يأخذ صورا محترفة بالمعنى الفني:''في وقت ما لم تكن لدي خبرة كافية بثقافة الصورة لكنني كنت أدرك وهذا ما اكتشفته فيما بعد أن الصورة مرتبطة بتقاليد الروبورتاجات في مناطق العالم الأكثر سخونة واضطرابا، في هذه اللحظة بالذات، للصدفة أو ربما العكس، كانت بلادي الجزائر تخوض حربا أهلية بشعة وكنت مستعدا لها، أقصد كنت مستعدا للذهاب إلى هناك ومعرفة الحقيقة، ثم ذهبت''·· في يوم وصوله كاد يلقى حتفه مرتين، لكنه رأى ناس لا يعرفهم يقتلون: ''لم أكن أعرف ماذا كنت أفعل هناك وكنت أجهل ما يحدث لكنني شعرت بأنه عليّ البقاء··'' · في هذه الرحلة يلتقي برينو بوجلال بتاريخه، هويته وثقافته المزدوجة، والده غادر الجزائر في منتصف خمسينيات القرن الماضي، ومنذ تلك اللحظة انقطعت أخباره عن عائلته ودفن ماضيه في بئر النسيان والإنكار، ورغم صمت والده الذي رفض التحدث في الأمر كلما سأله، فإن برينو بجهوده الخاصة عثر على عائلته:''لم يفهم البتة محاولاتي الحثيثة لمعرفة ماضي، كنت ألقى منه الرّفض وكأنّه يخفي عني أشياء لا يرغب أن أعرفها، ترى هل كان يهرب من أصوله أو يشعر بالخجل منها؟''·· عند عودته إلى فرنسا نشر مجموعة من الكليشهات الملتقطة في رحلته الأولى في بعض الجرائد الفرنسية وحصل بفضلها سنة 1994 على منحة ساعدته في القيام بروبورتاج حول الجالية التركية في مدينة بوردو، بعدها بأشهر انضم للعمل مع الوكالة الفرنسية المشهورة ''فِىس'' لكنه ترك العمل وعاد لعمله السابق كدليل سياحي في جنوب شرق آسيا بين سنتي 1995 و,1997 وفي سنة 1997 التي يعتبرها سنة حاسمة في حياة والده، وهذا بعدما أقنعه بالعودة إلى الجزائر، معا سيقومان بأهم سفر في حياتهما: ''أعتبر رحلتنا الثانية أشبه برحلتي العمر، سفران كنقطتين فاصلتين للحقيقة والتواصل مع اللامنطقي وغير المفهوم الذي كان يربط بيننا ظاهرا ويفرّقنا باطنا··''، في المجموع زار الجزائر خمس عشرة مرة على مدار عشر سنوات، حيث زار الشرق والغرب الجزائري وأثناء هذه التجربة كان تتجمع لديه مادة خام من الصور لتصبح فيما بعد أهم مشروع فوتوغرافي، الذي سيصدره في شكل كتاب فوتوغرافي بعنوان ''َّمٌٌىَِّّفَُّْى َُِّّْي''، يكتب: ''وجود هذه الصور الكثيرة المكدسة فوق بعضها وأخرى منظمة بطريقة استعراضية أوحت لي هذا الكتاب، عندما نظرت إليها وأمعنت النظر فيها لليال وجدتني كتبت رواية دون أن أدري، رواية لا تشبه الروايات التي يكتبها الروائيون الكبار لكنها في نظري كانت رواية فوتوغرافية''، لكن علاقته بالوطن تبقى موشومة بالحذر وبأفكار مضطربة وغامضة حول ما يجري في البلاد وكل هذا، حسب رأيه، يعوزه الفهم المطلق، ورغم ذلك يوافق على تمثيل الجزائر في مهرجان خاص بالصورة الفوتوغرافية في مالي سنة ,2003 وفي السنة نفسها يرفض المشاركة في سنة الجزائربفرنسا: ''ما حدث في البلاد ليس من السهل نسيانه أو الاقتناع بما تسوّقه السلطة، لست مناضلا حقوقيا ولا مقاوما، أدرك أن الفنان مطالب باتخاذ مواقف شجاعة، أردت أن أعبّر عن اختلافي مع الحكومة··'' اليوم يعمل برينو في وكالة ''Vu''، يشرح أسباب خياره هذا بأنها إمكانية التقريب بين الرؤية الشخصية ووثائقية الموضوعات: ''لا أؤمن بالموضوعية الزائدة عن اللزوم في العمل، أسلوبي في التقاط الصورة بسيط جدا، أنظر إلى الموضوع بطريقتي الخاصة، التقط الصورة من زاويتي الشخصية، في مجمل الأحوال هي صور تعبّر عن فكرة ما، تحمل قضية خاصة مهما كانت الظروف التي التقطت فيها ذات الصورة أو تيمتها التي تناقشها، ولكن تبقى الرؤية والمغزى من التقاطها هي النقطة الفاصلة بين مصور وآخر، هكذا هو الأمر بالنسبة لي، مثلا، تهمني كثيرا إشكالية النساء في الضواحي أو المهاجرين دون وثائق، انظر لهذه القضية بشكل مختلف عن مصوّر آخر، أظن الاختلاف في الرؤية هو الذي يجعل من الفوتوغرافي يضع لمسته الفوتوغرافية الحساسة''، لذا لا يخوض برينو بوجلال إلا في القضايا التي يرى أن لها علاقة بتاريخه وماضيه أو أنها جزء من هويته، كالضواحي الباريسية أو عالم الهامش الفرنسي: ''إنه عمل ترحال ولقاءات، ليس في الخارج ولا في الداخل لكن على الحافة''، وإفريقيا التي عبرها من الشمال إلى الجنوب عبر عشر محطات: ''مرة أخرى أجدني في دروب الغربة دون أن أدري''·· العودة إلى وطن الجذور الأولى هي محاولة فهم واستيعاب للمستقبل بشيء من المسؤولية والعقلانية، وبرينو بوجلال جرب هذا: ''كان عليّ الذهاب إلى هناك للتقدم بحياتي المهنية وأيضا الشخصية، قبل أن أوثق روابطي مع عائلتي الجزائرية لم يكن بمقدوري أن أكون أبا، اليوم لديّ ابنة صغيرة عمرها أربع سنوات تعرف من هي ومن يكون أباها··''، يصرّ على مسؤولية الأشخاص في تنشئة هويتهم والحفاظ عليها: ''إنها مسؤولية الأشخاص لرفع السّتار عن صمت التاريخ وتاريخ العائلات للتقريب بينهم، هذا العمل مرهق ومؤلم لكننا مطالبين بتأديته دون إملاءات أو طرح أسئلة عمن نحن ومن أين قدمنا··''· يقول: ''كنت مقتنعا بأنني كنت هنا إلى يوم من أيام ماي سنة 1993 حيث وجدت نفسي في الجزائر··''، لا يخجل عندما يعترف بأنه يجهل الكثير عن جزائر أبيه الذي غادرها قبل ثورة التحرير، محدثا قطيعة مع عائلته التي بقت هناك، بل بدل اسمه والذي أصبح ''ملِّفٌ-َفمت'' بدلا من''موكُِّفٍمج''، لذا كان كلّ شيء بالنسبة لبرينو بوجلال مبهما ومشوشا، مسألة الهوية والانتماء بالنسبة للمهاجرين من التابوهات لذا وجد نفسه شجاعا وهو يدعو نفسه ويحرضها على العودة إلى الجذور، فكانت رحلته الأولى أشبه بعبور بوابة الماضي من جديد: ''نزلت من الطّائرة وفي يدي دليل أزرق ووجدت نفسي في أتون حرب أهلية أجهل كل شيء عنها··''، متعجبا من جهله بما يحدث هناك، كان الاكتشاف أو المكاشفة عنيفة وصادمة، شاهد رجال الشرطة يُقتلون في وضح النهار وفي الليل يسمع إطلاق الرصاص والانفجارات في كل مكان، زد على ذلك اعتقل مرتين في ظرف 48 ساعة ولا يعرف السبب، غادر العاصمة بحثا عن عائلة والده التي تسكن في الشرق أو هكذا قيل له ودليله اسم القرية التي قدم منها والده، قرية صغيرة في ضواحي سطيف، لقد كان الالتقاء بهم مشحونا بالأحاسيس المضطربة، رغم أنه بعد عودته إلى فرنسا كان رافضا لفكرة العودة من جديد، يقول إنها كانت تجربة صعبة، ولمدة قاربت الثلاث سنوات تجاهل كل ما يحدث في الجزائر، ذلك العنف غير المفهوم الذي يصعب شرحه، وعندما قرر والده العودة، ولأسباب مجهولة، وهذا بعد غياب دام أربعين سنة، كان أشبه بالقطيعة وافق على مرافقته، كانت الرحلة الثانية سنة 1997 التي تعرف بأنها أكثر سنوات الأزمة دموية، كان الجو في البلاد جنائزيا، ورغم ذلك تقرر العائلة تنظيم عرسا يليق بعودة الأب والابن، لم يفهم لماذا كل هذا الاحتفاء والاحتفال بهذه المناسبة رغم أنه في اليوم يعود المئات من المهاجرين إلى الديار، كما وصف اللحظة تلك بأنها أشبه بعرس كبير حظره كل سكان البلدة الريفية الصغيرة إلى أن شرحت له إحدى بنات عماته بأن الناس تحتفل لتنسى المأساة، ومنذ سنة 1999 تكررت زياراته، مكتشفا المناطق المجهولة، الجذور والأصول والبدايات القديمة، يقول إنها أمكنة تاريخه الشخصي، لا ينسى عائلته مركزا عليها اهتمامه الكبير: ''فكرت كثيرا فيما مضى بأن كل هذا كان خياري الإرادي لكن كان متأخرا شيئا ما، اكتشفت فيما بعد بأن المكان الوحيد الذي أجد نفسي في آمان به هي عائلتي''، يقول شارحا، يعمل بآلة تصوير بسيطة ذات لون فضي عتيقة والسبب حتى لا يثير الفضول أو الشكوك: ''حتى لا يقول لنا إنه المغترب الذي يلتقط صور للبلاد··''، لذا تكون الصوّر الملتقطة ضبابية، لكن ليست كلها والتأطير أعرج أو بالأصح المستقيمات الجانبية للإطار المحيطة بالصورة غير متساوية، لكن الجيد والإيجابي أنه تخلى مع مرور الوقت ونضوج تجربة التصوير من الأبيض والأسود منتقلا إلى الألوان: ''تقنية التصوير خاصتي مرتبطة كثيرا بصعوبة التقاط الصوّر هناك''، وفي سنة 2002 زار بن طلحة التي أبيد فيها في ليلة واحدة 400 شخص:''بدا لي الوقت معلقا والناس أشباه أموات على قيد الحياة، تلك الحياة التي تشبه الجحيم''، متذكّرا، كم بقى هناك؟ نسي، ربما عشر دقائق أو عشرين دقيقة أو ساعة، ثم حظرت الشرطة وطلبت منه مغادرة المكان من أجل سلامته الشخصية، التقط خمس عشرة صورة تحكي مأساة المكان وناسه، يضيف:''بدا لي أنني كنت في قلب الظلام··''، تدريجيا انتقل من التصوير العفوي إلى التصوير الروبورتاجي والوثائقي، في ربيع 2003 زار الجزائر شرقا وغربا والتقى بالناس وتحدّث معهم في شتى المواضيع، صوّر المدن، جبال القبائل وملاهي وهران والناس، خاصة وجوههم: ''الوجوه خرائط تحكي طوبوغرافيا حيواتهم··'' هكذا يقول، على كراسة صغيرة يكتب القصص التي يحكيها له الناس، قصص الفساد والجريمة وأحلام الناس البسطاء التي تموت في صمت مجرم، حكايات العائلات ونضالها اليومي للعثور على ذويهم المفقودين، صراع المرأة في مجتمع ذكوري ورجالي، شباب يحلمون بعبور البحر، روتوشات بسيطة لكنها صادقة وثرية بالمشاعر المتناقضة وبرينو بوجلال في كل هذا يرسم بورتريه جزائر قاسية القلب ولكنها كذلك جزائر محبوبة ··