لم تكن ''تات'' المدينة الهادئة تَعِدُ نفسها - ذلك اليوم - بقادم أفضل منه، فلطالما جلجلت الصحراء لذكره، وارتعدت أفئدة فرسانها ما لاح له ظلّ، أو وشى بأنه هو نفسه القادم··· أما في عرف الفاتنة الحكيمة ذات العشرين عاما، فهو كغيره رجل من بني هلال يخطب ودّها، وفارس مفتول العضلات، يهتزّ خيلاء·· كلما لاحت له ابتسامة معجبة على شفة عربية··· ربط الزغبي فرسه إلى موثق شديد بظاهر الخيمة الحمراء، قبل أن يمنح لعينيه الفرصة لتجولا سويعة في المكان·· لم ير في حياته بيت شعر أو مدر أجمل أو أوسع أو أعلا من هذا·· بل إن تلك المائة السادسة من التاريخ الإسلامي - كلها - لم تعرف أعرابيا بذاك الثراء·· راح يتذكر منزل غانم والده، المسمى مجازا ''قصرا''، كان بناءً من الطين شامخا، مهيبا به بضع عشرات من الخدم والحشم، والعبيد والجواري، ونساء والده الأربع منهن أمه، وإخوته الذين لا يكاد يحصي لهم عدا··· أخيرا وقع بصره على مدخل الخيمة حيث لا زال الخُطّاب يتدافعون، بعضهم من أمراء بني هلال، وآخرون من أشراف العرب والأمازيغ··· كانت حليّهم وأزياؤهم تنبئ بمجد عظيم، وجاه واسع··· أما هو فمنذ مجادلته الشهيرة مع والده التي أنقذته من الموت حرقا، صار همّه دفع ذئاب الفلاة وثعالبها وحيّاتها عن الوكر الذي اتخذه لنفسه بأحد جبال إفريقيا··· لفت انتباهه لياقة القوم، الشغوفين بمظاهر المدنية التي صار يمقتها اليوم، وكيف أن الأميرة التي أجبرت زوجها السابق الشريف هاشم على تطليقها لمّا رفض الارتحال معها من الجزيرة إلى هذه البلاد البعيدة، تضع خدما على الباب ينبّهون كل داخل بوجوب ترك حذائه خارجا··· لو قدّر لأحدنا أن يرى وجهه الأبيض الجميل المشمول بسحر رجولي خالص وخاص، لظنه -على جلاله- لمجنون، حيث علقت به ابتسامة غامضة، أما هو فكان يداعب نفسه بالسؤال ''هل حقا طلّقها الشريف هاشم لأنها آثرت الرحيل مع قومها من بني هلال، أم بسبب طبائعها المدنية المقيتة هذه التي لا تتلاءم مع ما يروى عنها من الحكمة؟''·· امتدّت يده إلى قدميه لتخفي أحد نعليه تحت إبطه، وتضع الآخر مع أحذية باقي الخطّاب·· لم تفارقه ابتسامته الذاهلة وهو يلج باطن الخيمة، ليرى العز الذي تناقلته أشعار الهلايل وأخبارهم عن بيت الجازية المصون··· وهي ذي لم تستطع أن تخفي أثرا خفيفا لابتسامة معجبة حين نادى حشمها عليه بالدخول، ولا هو استطاع أن يخفي انبهاره بهذا الحسن الغرائبي حين وقعت عليها عيناه·· ''أيها القادمون من أعماق الصحراء، من نخلات نجد وظلالها الوارفة··· يا من تحملون زهر الدنيا في يد وورودها في أخرى··· هذه حبيبة قلبي···''·· راحت أنفاسه تنشد هذه الكلمات المعذّبة··· بينما كان الحشم قد انتهوا من تنضيد الموائد، ونودي ''أن حيّ على الطعام''··· كانت وجبة من أفخم المآكل والمشارب، تتراءى لبدويّ جلف، اعتاد مسامرة خشاش الأرض، ومعاشرة سباعها وهوامها، شيئا من الترف الزائد، ربما يصفها خياله الشاعري بأنها محاكاة لأهل الجنة في إحدى لياليهم الساهرة·· سرح به فكره في ذلك بعيدا، قبل أن يعود إلى تناول ما وضع بين يديه بقوة ونهم شديدين·· ''انظر إليهم يأكلون، لا تمتدّ أيديهم إلى الطعام حتى تمتدّ يدها·· إذا أخذت من الطعام بقليل أخذوا أقل منه، وإن زادت لم يزيدوا، يا لفجيعة قبائلكم فيكم أشباه النساء، تراكم جئتم بعولا أم تبحثون عن بعل··؟''·· كلّما مضغ هذه الكلمات مدّ ملعقته إلى قاع الصحن، عائدة بالثريد وحبّات تمر، والمفاجأة ألا أحد غيره اصطكّت أسنانه بنوى التمر الذي يلج الفم دونما سابق إنذار، حيث خلا أول الطعام ووسطه منه، لكأن الذي أعد الوليمة تخيّر للتمر مكانه الباطن عن عمد··· وقفت كمزهرية يضارع سناؤها شهب السماء، وتتدلّل روائحها على عطور الأرض·· اختفى كل جمال حولها وتضاءل كل جلال فاشرأبّت لها الأعناق وتطاولت الأفئدة، وتكلّمت فجلت عن منطق تستلهم منه رقيقات البلابل عذب الألحان: ''أيها السادة رزقكم الله السعادة، وحسن العبادة، أيكم زار الصحراء وأتانا منها بأنباء؟''·· تدافعت الألسنة·· الكل يدعي أنه كان بها قريبا، يرفعون أصواتهم بذلك، إلا هو ظل صامتا مهموما، كمن يلعن حظه·· قال أحسنهم هيأة: ''يا أطال الله عمر الأميرة، لقد كنت بها من شهر خلا، وحصل لي فيها غرائب شتى يحار فيها فكر الأريب ويعجز عن نظمها خيال الأديب''· وراح يقصّ عليها صنوفا من المغامرات عن لقائه بعليّ بابا، وكيف أنقذه من أربعين لصا، فرّ نصفهم لمجرد تعرفهم على شخصه، ونصف هلكوا رعبا لمّا زجر فرسه، واستلّ سيفه من غمده·· وعن الأسد الذي اعترض طريقه، كيف شطره نصفين دون أن يرفّ له جفن، أو يمسّه ثلم، أو يتغير من أثر الغبار لون ثيابه··· وهو اليوم بين يديها ليس عليه من وعثاء السفر شيء·· لاحظت كل ذلك، وعلّقت عليه بابتسامة ماكرة وجميلة· أما أعظمهم شرفا - وكان من أولاد الملوك، يضع على رأسه تاجا ''لم يحلم به غانم في أعزّ أيام دولته، بل يساوي كلّ ما ملكت يمين غانم وأب غانم وجدّه، ولن تؤثّر ثيابي وسيفي وفرسي وكهفي في هاته المعادلة'' حدّث صاحبنا بذلك نفسه - فقد قال (أي عظيم الشرف) - وهو يرمق ذيابا بعين مستفهمة -: (قد كنت بها -أصلح الله الأميرة- من أسبوع، أجمع من أمرائها ما استحققنا عليهم من ضرائب وإتاوات، ثم إني في مقفلي منها راعني جبل لم أر كعظمه بين الجبال، فتاقت نفسي لصعوده ففعلت، وكنت أوصيت الخدم والفرسان أن يحرسوا متاعنا حتى أرجع، ثم إني حين بلغت القمة، وجدت بها كأكبر ما يكون من أعشاش الطير، وبينما أنا كذلك أتفكّر في غرابته، إذ بالعنقاء تهوي إليه وبين مخالبها فريستها رجل يستصرخني، وقد رآني وعرفني، فوالله ما شعرت بنفسي إلا والسيف في يدي، ومثلي لا يستجار إلا أجار، فضربت جناحيها مرتين أو ثلاث، فأفلتته الخبيثة، ثم عمدت إلى رقبتها فقطّعتها، ودفعت بالعشّ من على الجبل فإذا هو أدناه، حيث تركت رحالي ورجالي، فوالله لم تعرف الإنس ولا الجن من يوم ذرئهما في الأرض وليمة كتلك·· فمكثنا -على تلك الحال- ثلاثا، ثم سألت الرجل عن قصته، فقال إنه السندباد، وأعطاني هذه الريشة الذهبية·· والله لولا أنه أقسم عليّ ما كنت لأمسكها··''· قال ذلك واجتذب من جيبه ريشة محلاة بالذهب قدّمها للجازية فأمسكتها بلطف، وأردف: ''ثم إنه أخبرني أنّه كان من الأربعين لصا الذين قصّ علينا الأمير خبرهم - وهو صادق فيما يقول - إلا أنّه في فراره ذاك وقعت عليه العنقاء حتى منّ الله عليه بنا، وكتب له الفرج على أيدينا، فلله الحمد والمنة··'' قال ذلك وسكت، وعاد يرمق ذيابا المبتسم، كمن ينكر عليه··· أو أن بينهما خصومة من قديم·· وسكتوا جميعا·· ''أيها البؤساء، ما أشقاكم··· ما أقل علمكم بالدنيا، ومعرفتكم بالرجولة··· ما أكثر أحلامكم، وأخزى أوهامكم··· يا لجهلكم بالنساء، وسوء ظنكم بهنّ، تحسبون المُخَدَّرات في البيوت آذانا لترهاتكم، تملئونها بأكاذيبكم، وتستعيضون عن نقص حيلتكم، وجبن أنفسكم عن ركوب المعالي، بأحاديث مختلفة عن بطولات لا تكون إلا في أذهان سقيمة عليلة، تُوَلِّد من الأخيلة ما يخجل من ادّعائه الأطفال···'' حدّثت الجازية بذلك نفسها، قبل أن يسلب فكرها شيء من الرجل الهادئ الجميل الأشعث الأغبر في طرف المجلس··· استشاطت غضبا -أو كذلك تظاهرت لتخفي شرودها - ثم رفعت صوتها قائلة :''أيها السادة، لقد جئتموني بأقاصيص، وإنما طلبت دلائل، فمن كان منكم محدّثي بشيء، فليشفعه عندنا بما يظهر لنا حقيقته··· من قال إنّي فارس أغلب أربعين، دعونا له من فرساننا مثل ذاك العدد لنرى، ومن قال إني أقهر العنقاء، وضعناه في أحد الأقفاص، مع نسر، ومن قال خضعت لسيفي الأسود، جعلناه معها في غرفة واحدة، يبيت معها ليلته··· أيها السادة إني سائلة فأجيبوني أيّكم زار الصحراء، وجاءنا منها بأنباء··؟''· هنا·· وهنا فقط، وقف الجَعْدُ، خفيف اللحم، الذي وصفته هي نفسها لإحدى جواريها بالقول: ''شَعرو مسال وخدّو هلال ونابو خلال وركبتو تضرب العاتي من الجمال''·· واستأذن بالكلام· مرّت لحظات صامتة، أخفت ما لجّ في قلبيهما من نار الحب الناشئ الساعة·· كان يداري بجسارة ضياع أنفاسه في وجهها الأسمر الملتهب حسنا وحياء·· بالكاد كان يستطيع تنظيم دقّات قلبه، وهو يتأمل عيونها الجوزية الغارقة في بحر لجيّ من السّحر والنّبل والحكمة·· استوقفته بيدها قبل أن يتكلم - كأنها تشفق عليه-: ''أيها الوافد علينا من لا مكان نعلمه، أو باسم نعرفه، أو شارة مجد نراها، إنّا إن كنّا لا نعتق الأمراء إن كذبوا، فحسب العامة أن ترى منا الحزم إن تجاسرت على ساداتها بغير حق، فاسأل لنفسك الصدق توهب لك الحياة، ولا تأتنا بقول إلا جئت معه بدليل·· فإن لم تكن على ذلك من شيء فلتهرب الساعة''·· ''آه يا لجلال الربّ، ما أبهى كلماتك أيتها السيدة الهلاليّة·· الآن فقط أدرك لِمَ أحبك الشريف هاشم، ولِمَ طلقك، ولِمَ هو يقضي أيّامه في قرض الشعر والبكاء على أطلالك···؟'' خاطب بذلك نفسه، ثم قال مجاهرا: أحنا ما فينا من يهرب ** غير اللي يسلّ السيف ويضرب يا جازية العربان: آنا رحت للصحرا وجبت خبارها ** ولا كذبتيني هذي ليك ثمارها ومد يده إلى جيبه فاستخرج ما كان يخفيه فيها من نوى التمر الذي وجده بباطن الصحن·· قالت بسرور حذر: ''الآن جئت بالحقّ، فاجلس مُرحّبا بك··''·· ثم نادت على وصيفاتها فجيء بالشراب··· حتى إذا شربوا وطربوا، وسرى السّرور إلى وجوههم وتراقص على محيّاهم الحبور، وسمعوا من القصيد ألوانا ومن الغناء ألحانا، دعت ب ''شارة'' فأسندت إلى أعلا عمود بالخيمة، ثم نادت عليهم: ''يا وجوه الخير، من فيكم يطيح بهذه الشارة؟''·· فأخذوا يناوبونها واحدا واحدا، فلم يتمكّن منها أحد، ولا استطاع بلوغها أو ملامستها منهم رجل، حتى حان الدور على ذئاب بن غانم الهلالي، فقفز إليها مرارا حتى يئس منها، فانتعل الحذاء الذي كان قد أخفاه تحت إبطه، ثم قفز إلى الشارة فلم يصنع شيئا، فاخترط سيفه وقفز إليها فأطاح بها أرضا·· كان بديهيا أن يحتجّ هؤلاء الفاشلون الحمقى لدى الأميرة على تحايل الرجل، وتلك عادة في الناس معروفة أن يبرّروا قلة حيلتهم وقصورهم عن الإبداع بالأخلاق الرفيعة، وأن ينسبوا ذكاء الآخرين وحسن تخلصهم من مُلمّات الأمور إلى الخبث والحيلة··· سألته وفي عينيها شيء من الغضب وكثير من الإعجاب - وتلك مشاعر لا تتأجج إلاّ في قلب امرأة تتصارع فيه الحكمة والأنوثة:- ''لِمَ ضربتها بسيفك؟''، فأجابها بثقة ذهل لها الحاضرون، وفيهم من أرعد لسماعه: ''أنا رجل·· وما تعجز عنه كفّي، يفعله سيفي''·· هدأت الأصوات بعد هذه الكلمات، وأخذت تقلّ وتتضاءل، وساد صمت رهيب، خشية أن يكون جواب هذا الطويل المستثار على احتجاجاتهم موافقا لمقولته·· والحق أنهم كانوا جبناء لا يقوون على شيء، إلا مطاردة الجواري والغلمان في أفنية قصور آبائهم·· وكانت الجازية قد وكّلت بالباب من يخفي فردة من نعل كلّ داخل، فلمّا وصل إلى نعل ذئاب وجد فردة واحدة فظنّ أنه أخفى الأخرى فتركها·· فلمّا فرغ ممّا أمر به، أومأ إلى الجازية، فصفّقت للحضور تشير إليهم بالخروج، فهبّوا متثاقلين، كعادة أصحاب الشّرف والمعالي··· وشيّعتهم - هي خارجا- لترى منظر خطّابها يستكملون آخر فصول الإهانة، بل كم كان مضحكا مشاهدتهم وهم يغادرون برجل منتعلة وأخرى حافية، ما جعلهم مثار سخرية لخدمهم حتى·· إلا ذئابا فقد لبس زوج حذائه وهمّ بالانصراف، وما إن وضع قدمه في محمل سرج فرسه، حتى استوقفته يد رقيقة، لم يعرف مثل نعومتها في حياته·· نظر خلفه، فإذا بها الجازية نفسها، اعتدل سريعا في وقفته، وأشاح عنها خجلا ببصره·· قالت له في إجلال بالغ: ''يا طفل·· النار من يغلبها ؟'' قال ''ماؤها''، قالت: ''وماؤها من يغلبه؟'' قال: ''الثنية''، قالت ''وهي من يغلبها؟''، قال: ''فرسانها''، قالت ''ففرسانها؟'' قال: ''نساؤهم''، قالت ضاحكة متخابثة: ''فمن يغلب نساءهم؟''، قال:''أولادهن'' قال: ''فأولادهن إذن؟'' قال: ''همّ الزمان''·· كانت هذه نفسها أسئلة مجادلته الشهيرة مع والده··· وعلم أنها قد عرفته، رغم حرصه أن لا يُعْرَف· قالت: ''أئنك لذئاب بن غانم وهاته الخضراء؟صص تعني فرسه''، قال: نعم، يا جازية بني هلال· فاستدارت الجازية وأشارت إلى بعض جواريها أن زغردنّ، ودخل عليها ليلته بعد عرس لا زالت القبائل تحكي بهجته إلى يوم الناس، وكان منهما - بعد ذلك - عقب يشار إليه بالبنان، فيقال: ''فلان جيد كأنه من نسل الجازية وذياب''، ولا زال يروى عنهما الكثير من القصص التي يتسامر بها العشاق والحكماء، ويستظل بفيئها كل من سرى إلى نفسه ضجر··· قالت فاتنة الهلائل: ''هل تصدق يا ذئاب أني أحببتك قبل أن أراك؟''، ابتسم كمن يصدقها وقال: ''والأذن تعشق قبل العين أحيانا''، ختما ليلتهما العامرة بتلك الكلمات، وأخلدا للنوم···· (تمّ) ·