يأتي النسخ في كلام العرب على ثلاثة أوجه: 1 - بمعنى الإزالة والمحو: كقولهم نسخت الريحُ آثار القوم أي أزالتها، ومنه قوله تعالى: ''فينسخ اللَّهُ ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته'' الحج: .52 2- بمعنى التحول من شيء إلى شيء، وانتقال ما فيه إلى الشيء الثاني، وهذا مأخوذ من قولهم: نسختُ الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى كتاب آخر· 3 - بمعنى البدل، وهذا مأخوذ من قول العرب، نسخت الشمس الظلَّ: إذا أزالته وحلَّت محلَّه· أما في الاصطلاح: فهو بيان انتهاء حكم شرعي بخطاب شرعي متأخر عنه· فالحكم الأول يسمى منسوخا· والخطاب الذي جاء متأخرًا وقصد به انتهاء العمل بالحكم الأول يسمى ناسخا· دليل مشروعية النسخ جاءت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة تدلُّ على وقوع النسخ وجوازه، فدليله من الكتاب قوله تعالى: ''ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها'' البقرة: .106 وقوله تعالى: ''وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفترٍ بل أكثرهم لا يعلمون'' النحل· ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها''· أما الصحابة فقد أجمعوا على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع ما سبقها من شرائع· ومع وجود هذه الأدلة على جواز النسخ، فهناك طائفة من المسلمين تنكر النسخ، كما أنكره النصارى واليهود، وماذاك إلا افتراء وعناد منهم، فليس هناك ما يمنع وقوع النسخ في حكم الله، فإنه يحكم ما يشاء، ويفعل مايريد· وقد وقع النسخ في الشرائع المتقدمة: فقد أحلَّ الله لآدم أن تتزوج بناته من بنيه ثم حرَّم ذلك، كما أبيح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ ذلك فأحلَّ بعضُها· طريقة معرفة الناسخ والمنسوخ· إن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم، لهذا لا يحل لمسلم أن يقول فيه إلا بيقين· فلا يعتمد فيه على قول مفسِّر أو اجتهاد مجتهد من غير نقل صحيح، لهذا لا يقبل نسخ آية أو حديث بغير أحد وجوه ثلاثة وهي: 1 - النص الصريح بأن هذا الأمر ناسخ لكذا، كقوله تعالى: ''قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينَّك قبلة ترضها، فول وجهك شطر المسجد الحرام'' البقرة: .144 وقوله تعالى: ''علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن'' البقرة: .187 فهذه الآية صريحة في نسخ النهي عن الوطء في ليل رمضان· وحديث ''كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها''· 2 - إجماع الأمة بلا خلاف يعتدُّ به على أن أمر كذا منسوخ، ومعلوم أن الإجماع يستند إلى دليل· 3 - تعارض الأدلة المتساوية تعارضًا تامًا، مع معرفة الأمر المتقدم زمنًا من المتأخر، بمعنى أن النَّصين إما أن يتعارضا من جميع الوجوه، أو من وجه دون وجه، فإن تعارضا من وجه دون وجه جمع بينهما، وإن تعارضا من جميع الوجوه، فإن كان أحدهما قطعيًا والآخر ظنيًا، أو كان أحدهما أقوى من الآخر في الثبوت عُمل بالأقوى، وأهمل الآخر· وإن تعارضا من جميع الوجوه، وتكافآ في الثبوت، وعلم الأمر المتقدم منهما والمتأخر صرنا إلى النسخ· أما أن تعارضا من جميع الوجوه، وتكافآ في الثبوت، ولم يعلم المتقدم والمتأخر، فلا يصار إلى النسخ بالاجتهاد، بل يجب التوقف عنهما، أو التخيير بينهما· وعلى هذا فلا يعتمد في النسخ على: الاجتهاد من غير دليل، ولا على أقوال المفسرين من غير سند، ولا على مجرد التعارض الظاهري بين النصوص، ولا على ثبوت أحد النَّصين في المصحف بعد الآخر، لأنه ليس على ترتيب النزول· أنواع النسخ، قسَّم علماء التفسير النسخ إلى ثلاثة أنواع: 1 - ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته: ومثاله قوله تعالى ''والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج'' البقرة: .240 فكانت المرأة إذا مات زوجها لزمت التَّربص بعد انقضاء العدة حولاً كاملاً، ونفقتها في مال زوجها ولا ميراث لها· فنسخ ذلك بقوله تعالى: ''والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا'' البقرة: .234 وهذا النوع هو الذي اتفق معظم العلماء على وقوعه وألفّت فيه الكتب· 2 - ما نسخت تلاوته وبقي حكمه: ومثَّل العلماء لهذا بما روي أنه كان في سورة الأحزاب: ''الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله'' فنسخت تلاوتها وبقي حكمها، إذ قال عمر رضي الله عنه: قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده''· 3 - ما نسخت تلاوته وحكمه: ومثل العلماء لهذا بما روي عن عائشة رضي الله عنها: ''كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يُحرِّمن، فنُسِخْن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهُنّ فيما يُقرأ من القرآن'' رواه مسلم· وقد أنكر بعض العلماء هذا النوع، وحجتهم في ذلك أن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها· نسخ القرآن والسنة بالقرآن والسنة، يتم هذا في أربعة أوجه: 1 - نسخ القرآن بالقرآن، وهذا أمر جائز لدى الجميع دون خلاف بين القائلين بالنسخ، وما تقدم من أمثلة يغنينا عن الإعادة· 2 - نسخ السنة بالسنة، وأجمع العلماء على جوازه، غير أن بعضًا منهم منع نسخ السنة المتواترة بالسنة الآحادية· 3 - نسخ القرآن بالسنة، وهذا قد أجازه جمهور العلماء، واستدلوا بأن الكتاب والسنة كليهما وحيٌ من الله، غير أن الإمام الشافعي ذهب إلى منعه وعدم وقوعه، ولعلّ منعه راجع لعدم وقوعه· 4 - نسخ السنة بالقرآن، وهذا أمر جائز لدى العلماء، غير أن بعضهم فهم من كلام الشافعي منعه·