يؤمن رئيس الأوركسترا السمفونية الوطنية، بأن عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، هو ''العصر الذهبي'' للموسيقى الجزائرية، قبل أن تدخل البلاد في انتكاسة طويلة الأمد، قصمت ظهر الإبداع الموسيقي والغنائي، عندما قررت السلطة في منتصف الثمانينيات اعتماد الراي كطابع جماهيري. قطعت الموسيقى الجزائرية خمسين سنة من الوجود في ظل جمهورية جزائرية مستقلة، كيف تنظر إلى هذه المسافة الزمنية ومن أين تبدأ التقييم؟ لست من دعاة التشاؤم، لهذا في البداية أقول يكفينا بكاء على الأطلال، وعلينا أن ننظر إلى ما حققته الجزائر بأبنائها الفنانين، كل على طريقته. أفكر اليوم كثيرا في وضعية الموسيقيين الجزائريين، الذين أعتبرهم ضمير الأمة وقلبها الذي يشعر بقوتها أو ضعفها. لم يكن الموسيقي الجزائري يوما بعيدا عن جروحات الوطن، بل عشنا كلنا مآسي البلاد، وفقدنا أعز سنوات حياتنا نتجنب السقوط. لكن اليوم، أعتقد أن الموسيقي الجزائري تشبع من الوعي، فقرر أن يدرس وينهل من المعارف العلمية والأكاديمية الموسيقية ما يجعله قادرا على مواصلة الدرب. ما دمت اخترت الحديث عن فترة التسعينيات ما عدا الخوف الذي سكن القلوب، بماذا خرجت الجزائر من تلك المرحلة؟ التسعينيات فترة عصيبة للغاية مررنا بها كفنانين وموسيقيين، من جهة الإرهاب يضرب أطنابه في كل مكان وزمان، ومن جهة أخرى المجتمع لم يرحمنا. ومع ذلك بقينا قريبين من الناس، رغم نظرة النقص الموجهة إلينا، كنا دائما موجودين وأبلغنا الجزائريين رسالة عميقة وهي أن الثقافة هي الأصل وهي الشيء الجميل الذي سيبقى بعد تلك العاصفة. في عز الأزمة، قررت الجولة الجزائرية إنشاء وتدعيم مؤسسات وهيئات فنية وثقافية، مثل المدرسة العليا للفنون الجميلة، المعهد العالي للموسيقى، البالي الوطني، الأوركسترا السمفونية، ومعهد الفنون الدرامية، هذه الهيئات ستكون الخزان الذي يمول جزائر اليوم. وماذا بعد مرور العشرية السوداء بضحاياها وخيباتها؟ عشنا مرحلة انتقالية من الخوف إلى اللا خوف، من العشوائية إلى الإستقرار والاستمرارية. في التسعينيات كنا نقدم حفلاتنا أمام جمهور لا يتعدى الخمسين أو الستين نفرا، لكننا لم نتوقف وواصلنا العمل الجواري والتواجد في كل مناسبة، حتى فهم الناس مغزى أصرارنا، ونجحنا بفضل درايتنا الأكاديمية كيف نقربهم إلى الفن بعيدا عن الارتجالية والسطحية، وإن الفن ليس ''شطيح ورديح''. كلنا يذكر أن الدولة الجزائرية استعانت بالأغنية الشبابية خاصة الراي لكسر جدار الخوف الذي تحدثت عنه؟ كان ذلك اختيار السلطة، وهي مسؤولة عنه.. أعترف أن عملنا كأكاديميين كان ثقيل جدا، وليس بالسهل واليسر، نظرا لعمال الخوف، وقلة الوسائل المسخرة كالنقل والمأوى، كما لم تلعب وسائل الإعلام دورها في الترويج لجهودنا. أما القول أن أغنية الراي وما يشبهها من الأغاني الشبابية ساهمت في كسر شوكة الخوف، فأقول إن سنوات التسعين لم يكن هناك لا أغنية راي ولا سطايفي ولا شعبي ولا أي نوع موسيقي، العقول كانت منشغلة ببرهان الحياة والبقاء. تعد الثمانينيات إعلان ميلاد أغنية الراي واعتمادها صراحة بعد عقود من النكران؟ في الثمانينيات سادت عشوائية كبرى في كل المجالات، بما فيها الموسيقى والغناء، وعلى حساب الفن الراقي، توجهت سياسة الدولة إلى هذا الخيار؟! بحجة وضع جدار واقي يحول دون زحف اللا أمن. لكننا نسينا في نفس الوقت أسماء محترمة فقدناها برصاص غادر، علولة ومجوبي تحديدا. الرصاص الغادر اغتال الشاب حسني أيضا؟ لا أقول العكس، ولم أنس أن أغنية الراي دفعت الثمن في تلك الفترة، وأنا من المعجبين بصوت المرحوم حسني الذي كنت أصفه بإغليسياس الجزائر، وساحر ملايين الشباب، نجح في جذبهم إليه. ما يحز في نفسي أن الجميع ينسى أنه في التسعينيات كان للجزائر فرقة سمفونية وكان لها جمهورا خارقا للعادة، مختلف عن جمهور اليوم بكثير. كثيرون من الموسيقيين غادروا الجزائر أو فضلوا البقاء خارجا؟ من 94 إلى ,2004 كنا هنا لم نغادر، صحيح أن البعض رجح الهروب واللّجوء إلى دول أوروبية بعيدا عن الخوف، إلا أن آخرين بقوا في مراكزهم. كنا مستهدفين ولم نكن نبالي بالموت، بدليل الحفل الكبير الذي أقيم في متحف المجاهد برياض الفتح، ومنقول على المباشر، يومها دخلنا القاعة محاطين بالعسكر، كنا نتدرب خفية في فندق الأروية الذهبية، لدرجة أني لم أعد قادرا على البقاء بعيدا عن عائلتي.. كان ''الكمان'' إدانة كافية لتصفيتي. توصف سنوات السبعينيات بالفترة المزدهرة للفن والفنانين؟ بالعكس، هذا ما يظنه الجميع، في سنوات 1970 لم تكن الجزائر تملك الإطارات اللازمة في كل القطاعات، وكان علينا أن ننتظر الثمانينيات لنحصي أول الدفعات والإطارات. موسيقيا كان الجزائري يسمع كل أنواع الموسيقى المحلية والوطنية، بدءا بالشعبي، إلى السطايفي إلى الشاوي إلى أن جاء الراي ليكسر كل شيء. حظي فنانو هذه الفترة باهتمام خاص من الرئيس الراحل هواري بومدين، بدليل أنهم جابوا العمورة كلها؟ أعتقد أن العصر الذهبي للأغنية الجزائرية كان في عهد بومدين فعلا. فقد انتهج الرئيس الراحل سياسة الأسابيع الثقافية في الخارج وكانت جد ناجعة، أوصلت صوت وصورة الجزائر لكل مكان. آنذاك كنت ما أزال طالبا، لكن كنت أعلم أن التفكير لم يكن مركزا على الموسيقى الكلاسيكية. لهذا بعدما دخلت الميدان، كنت أدعو دوما إلى الترويج للموسيقى العالمية، تلك التي تكتب الإبداع الموسيقي للجزائر عبر الزمن. علما أننا بعد خمسين سنة من الاستقلال، ما زلنا لم نكتب كل الألحان الجميلة التي أبدعها الموسيقيين، وهذا هو هدف الأوركسترا السمفونية، حيث تعد الجزائر ثان دولة بعد المجر التي تعمل في هذا الاتجاه. ماذا عن سنوات الألفين والأموال الضخمة التي تضخ في قطاع الثقافة عموما؟ كلنا يسمع عن هذه الأموال التي تضخ في القطاع، لكني لا أعرف أين تذهب كلها، وتنحصر معرفتي على ما يوجه إلى الأوركسترا السمفونية وما ينجز منه. صحيح أن الموسيقي الجزائري ما زال لا يتقاضى أجرا يليق بقيمته الفنية ودرايته، إلا أن الجزائر اليوم أصبحت تملك أوركسترا بمستوى عالمي.