زمن رمضان زمن أنتروبولوجي، زمن رمضان زمن سياسي واجتماعي وديني ولغوي، بيد أن روحيته صارت تغيب في مهالك اليومي وسخافاته، لهاث المائدة وكسل العشيات، صخب الأماسي وضجيج أبواق السيارات، السباب، اللعان، التجريح، الإجرام المحلي والهياج العصبي والعصبوي، سمات رمضانية هي كثيرة وعلى وفرتها تزيد وتزدان نكوصا وركضا بدائيا تمعن في تطبيع الواقعة الرمضانية وحملها على محمل العنف والغضب والعته.. إن الفرد المسلم منا يمرض أكثر ويتبين عوره وتنفسح عوراته للمشهد الديني السالب بسلبية هذا المسلم الغزائري، العليل، السقيم سقم الروح والخاطر وسقم الجسد والبدن، سوسيولوجيا رمضان ملأى بالأعطاب وهي عجفاء محرومة لا ماء الحياة سيعيدها إلى لحظتها التعقلية إن حضر ولا الإنتاج الديني في الفكر والدعوة والخطابة سيعمل عمل الواثق الموثوق، يكثف رمضان فيما يكثفه من التجليات والرمزيات ما يشي بقوة الدين الإسلامي ومنظومته التعبدية، لكن السواد الأعظم من المسلمين ليسوا على أحوال رمضان جيد معنون بالطمأنينة والصفاء وطيبة الخاطر، ويعيشون على نقمة لا توصف وستراس يومي وضجر، ستراس المتروبول بتوحشه وبرباريته هو الذي يطبع المنظومة الرمضانية ويطغى عليها ويملي عليها الشرط والقيمة، وكل ذلك يؤشر إلى واقعة إسلامية خطرة في حواضرنا وقرانا، إذ يعدم السلوك المدني وتتراجع الجماليات ويتأخر فعل التهذيب بمقدار كبير، صيرورة الحالة الرمضانية هكذا وعلى هذا النحو وهذا الشكل يقحمنا في «الديني» و«العقدي» أي يقحم الثقافة بوصفها مدخلا من مداخل الأنسنة والتمدين والأخلقة في الموضوعات الدينية كما في شؤون المسجد وأحوال المصلين، فضلا عن فصول الخطاب ومداولاته أو أشكال الدرس الديني وأنماطه. يسبغ الشهر الرمضاني هذا لونه وطقسه على ما عداهما من ألوان وطقوس ويتحكم في سوسيولوجيا الأهواء والرغبات، حيث يصير الصوم بذاته حاجة في النفس أو ليعقوب أو لزيد أو لشيخ أو لجماعة أو لوجهة أو لاتجاه أو لصنف في التلاوة أو نغمة في الصوت أو غنة في الملحن، بل إنه شد رحال وترحال نحو الجوامع والصوامع الذائعة الصيت أو الأخرى الأقل حظا في الشهرة والإستقطاب والإقبالات. يحدث نقاش مزاجي الميل بلا ضابط أو مقياس، نقاش عالق بأهداب المسجد وأحواله، حيث أين يمكن للمصلي أن يصلي صلاته التراويحية ومع من يستروح تعبدّه وتنسكه، والأجدر بالحق أن الجوامع في المساء صارت تمتلئ عن بكرة أبيها بالجموع الخاشعة وغير الخاشعة والناس لا تستنكف من الذهاب ولا هي تتقاعس عن انتزاع تذكرة الحضور التراويحي مما يشكل ذلك نضوج الرؤية السوسيولوجية الرمضانية الطقوسية واستبعاد المفهوم الطوعي لكل أشكال الإلتجاءات إلى الدين بوصفه روح أو ذوق أو خلاص أو عقيدة أو إيمان، إننا عنينا بالمقدمة - قبل هذا القول - أن الأجواء الرمضانية تستبطن منسوبا متعاظما من العنف والإفتراس والحيونة تتداخل وتتصادم مع روحية المناسبة واستعمالاتها داخل الديانة الإسلامية، لكن هزء وهزالة الوضع الديني العام لمسلمي طنجة جاكرتا يكثف من هذه الفكرة البائسة من أن الشهر صار يمور بالتحولات العاصفة نحو الممارسة الرديئة للقلب والعقل والذوق والسلوك مما يشفع لبعض التأويلات المتطرفة التي صدرت من أحد القيادات العربية الرسمية اللاّئيكية في منتصف السبعينيات من كونه مضعفا لحصيلة التنمية ومن مبطلات الجهد والاجتهاد وشغل السواعد، وبالرغم أن البورقيبية كانت تروم مسح كل الأعباء والشوائب المحسوبة على السلوك المسلم المائل إلى البطر في الغذاء والمشرب والكسل والسهر المسرف والغيبيات والأرواح الشريرة، لكن العملاني في معالجة الظاهرة الرمضانية كان ينبغي أن يتم من داخل الحقل السوسيولوجي الذي يسمح بتهذيب وتشذيب المنظومة الدينية والتقليل من الحضور الاستهلاكي للمفردة الدينية دونما رعاية المصالح التحسينية التي يوليها الفكر الإسلامي التعبدي الفقهي جزءا معتبرا من أولوياته. إن الحشود تقوم بأسلمة مبالغ فيها نهارا وتشترك لغات وحواس ورغبات في مطاوعة المنع والمحظور ويغطي ذلك القسم عن باطنية إسلامية مرضية تفضح الأشهر البواقي من غياب الحقيقة الدينية الروحية عن واقع مسلمي هذا القرن، السباب واللعان، الإصطدامات الكلامية الوافرة، حوادث الدم والشرف والعرض، السرقات والخيانات، الهروب المتكرر من ساعات الدوام في العمل، العبوس والتجهم والجفوة والجفاء، مشاحنات دامية بين ذوي الأرحام والقربى، الاعتداءات اليومية على النساء والرجال والولدان، الفحش في القول والنظر وإتيان الطابوهات والمسافحات، وكل ذلك ليس هو إلا النزر الأيسر من السلوكية الرمضانية المتوحشة المترامية التفاصيل على ساحة اليومي، وإذ لا يكون اليومي إلا اعتقالا للّيلي وأمزجته، فبعدئذ تصطلي الرغبات وتستعر وتتفجر، ليلا يطلق سراح رمضان نحو دنيوية لم تكن إلا في المخفي، والمكبوت والمنسي، في رمضان يتخذ الليل متخذ السيد على سدته، سدة الوقت وسدرة الشهوة، يتم ترحيل الديني نحو الجوامع ويتفرّق الناس بين مصلين وغير، وبين نساك متهجدين مستزيدين في العشر الأواخر وفنتازمات ليلة القدر والاعتكاف، وآخرين متهجدين في محاريب الغنا وطيش الموسيقى ونزق الرؤوس، يحول الأهل الرمضاني صومهم وإفطارهم إلى عملية مراوحة ومقاسمة بين دنيوة للديني ودينونة للدنيوي، كما تعطي المسألة الصومية في عالم الإسلام وحاضره مدخلا منهجيا في تأويل الظاهرة الدينية - كونها اجتماعية وأنثروبولوجية وذاكرتية ومعرفية وجسدية - على الرغم من أن النخب الإسلامية باعدت العلم عن الدين وباعدت الدين عن الروح وباعدت الروح عن الجسد، ولذلك يأتي الصوم الإسلامي - في ظاهره ومبناه - فعلا تعجيزيا يؤدّى وفقط دونما تحقيق متوقّع للنتيجة التي ينبري المسلمون لتبيانها لغيرهم من أهل الكتاب أو اللاّمؤمنين، إنه زمن رمضان، زمن أنثروبولوجي، زمن سياسي، ديني ولغوي، على أن نتشوق إلى روحية كامنة فيه فلا نجدها يتبع ذلك انصرافنا إلى الانقسام والمذهبية الفوضوية والجهلانية وعدم تقدير أولي اللب والنّهى من العلماء - من غير رجال الدين- كذلك تعطي المسألة الصومية - في شهر فضيل كهذا - اعتبارا للاجتماعيات والخواطر الطبقية والفوارق بين السكان وأنماط عيشهم وطرائق صرفهم، يتحرك الميسور المسلم كل سنة نحو مسجده الأنيق في حيّه النظيف وكأنه يتحرك نحو سوقه ومكتبه ومكان لهوه، تبرز لا مبالاة أليمة عند قطاع كبير من هؤلاء الميسورين الذين يقتنون ما يشتهونه مما لا يحتاجون وإلى مجاراة للرغبوية وآلهة السوق وينكص عباد الله الضعفاء الحقراء أعقابهم فلا يقدرون على سد الرمق وتعويد البطن على الشظف والتنازل عن حق الجوع والعطش، يصرف كثيرون منهم الشيء الخرافي والفلاني المعلوم منه والمجهول على الهدايا والمجاملات والملاطفات في الوسط المهني والأسري ويتقدمون بالهبل وبالخبل نحو تسجيلات العمرة والحج مكرر في استعراضية اجتماعية ودينية ولهوية، طافحة بالخيلاء والسنوبيزم وهي غالبة عند معظم هؤلاء المسلمين، ينزل المسلم من أصاغر القوم إلى الدناءات والحقارة فيخل في عمله ويشتط ويسرق من الساعات والدقائق ما يندى له الجبين وتعافه نفس وتسمو عنه مهجة، التراخي والعجز وإطلاق العنان لكل شيء والفلتان وهو يتوازى مع الميسور المسلم في المساس بمعالم هذه الفريضة الروحية وإنزالها منزلة الصغار والهوان والعجز والقعود والانبطاح، في منطقة بريطانية معروفة بالحضور الكثيف للمسلمين وخاصة في فترة القيام الليلي تقوم هناك جامعة علمية بتخصيص إحدى باحاتها للمصلين على أن تساعدها السكوتلنديار والفرق الأمنية المدربة على التنظيم والترتيب يطلب مسلم سعودي مصطحب بحرمه الإذن بالدخول بالسيارة حتى باب الصلاة، لكن الشرطي البريطاني يفاوضه للمثول إلى النظام العام الخاص بالمارة في هذه الباحة ولا تكون حجة السعودي المسلم إلا كونه مصطحبا لأنثاه التي يخاف عليها من تحرّشات المصلين ثم لا يكون إلا خاطره تحت لطافة السلوك البريطاني وأدبه على شرط أن يوصل الذكر أنثاه إلى الصلاة ويعود لركن سيارته في الحظيرة المخصصة التابعة ملكيتها لجلالة المملكة المتحدة التي لا يظلم عندها أحد وها هو المسلم البئيس لا يعود رادا الجميل، مؤتمنا على وعد، محترما لنفسه، لأنثاه ولدينه، بل مثيرا ريبة الشرطة البريطانية الموصومة بالحكمة واللباقة والإقتدار.. تقدم العواصم الأوروبية حاليا نموذجا فريدا في التعاطي مع المسألة الرمضانية ويمارس هناك المسلمون طقوسهم وشؤونهم التعبدية بحرية وفرح وعناق يقل مثيله أداءً وإخلاصا عنه في بلاد عربستان أو عجمستان، فهم مؤطرون ضمن النظام العام وترد عليهم أوزارهم وشائن أعمالهم بالعقاب الدنيوي العلماني فيدفعون الأتاوات والضرائب ويطلبون بالانضباط ولا يبخل عليهم من كرم الغرب السميح، رمضان في بلاد الغرب يعاش بأفضلية الروحي والذوقي والنوعي والعقلاني عكسه الحاصل عندنا حيث يجري تأليه الأرضي والشهواتي بتدنيس السماوي المتعالي، شأننا في رمضان هو شأننا في كل الرمضانات والأشهر وخيم في عاقبة خسرانه فرب صائم لم ينل من صومه إلا الجوع والعطش!!!. a_maouchi@live. com