لم يكن إلا قدرها وما تقدر عليها أن تبتلى البلاءات وتجذبها صيرورات وتشرع في طلي جدرانها بتلاوين ثقافات جديدة قياسا إلى حالة السكون التي كانت تعيشها وتصنع لها عرشا مستديما وواقعة سياسية محافظة -لا أطياف تتنفس معها- وجمهور من علماء الدين هم قوام وعز وهم ذخائر وأسلحة دفاع وهم ثقافة أحادية، مانوية باسطة ذراعيها فقط للخير وللشر وحدهما في المطلق هكذا ظلت المملكة العربية السعودية رابطة في جأشها عقائديا، ورابطة في جأشها اقتصادا وسياسات وأعراف. وعلى ذلك النحو واصلت السعودية تبتغي طموحا يندر عند جيرانها كما يندر عند الأصدقاء، ليست هي المكان الديني الجامع للخلاصات النبوية فقط وليس معها ثمة معنى للإنوجاد على أرض مقدسة تستبقى دائما للطوائف برؤساء القبائل وطقوسهم المختلفات بل هي اليوم عكس، هاهي اليوم يسودها تفكير جديد يشي برغبة عميقة في تجاوز خطها الوهابي الصارم، ليس فقط من أجل صوغ سياسة جديدة قائمة على الاعتراف والمسامحة والتقبل للآخرين بل لأنها من الداخل تقدر على الإنصات لنداءات أعماقها، هو العمق الذاهب إلى “سعودية" متجددة ثقافية وتعني لها المملكة ما تعنيه إلا بوصفها المحج، ومساحة الرؤيا، ومطار الوافدين إليها إن من زار المملكة وجاب متأملا في حراكها لا يلبث على المكوث طويلا عند قدسيتها وروحانيتها، فذلك في الخطاب الديني سائد، قائم، منتشر، تنتجه هي وتصدره للعالم الإسلامي على مزاج موحد هو مزاجها، وعلى نكهة لا يشوبها خطل أو نزق من ذلك النزق الذي قد يلمح للرائين إن هم زاروا بلاد أخرى واستوطنوا مواطن قريبة، يقين مرجعي أن السعودية - وهابية - بترولية - ملكية- قامت على نمط تنموي متأمرك - وليس عيبا - لكن مطارحات كثيرة اليوم وأسئلة تدور حول واقعها وخياراتها، فيبدو أن الذين لاموها أو احتكموا إليها أو تملقوا إنجازاتها لن يعود لهم هذا الفضل عليها في أن يعتاشوا منها أو يقتاتون من لحمها أو أن يسوقوا لها ما لم تطلبه منهم أو يسوقوا ضدها ما لم تعشه فعلا أو دار على مسرحها يوما من أيام ما بعد تفجيرات الخبر. لسان حال كل سعودي وكل من يعرف المملكة يلهج بالدعاء كما بالتضرع، هما إثنان على منطقتي تباعد قاتل يعيشان بفعل التاريخ وقوته وبفعل الحضارة ومصادرها وبفعل الدين نفسه وقابلياته لتأويلات وأفكار ورؤى متاخمة لوثوقية الوحي وبقاءاته على الجمود الذي يرتضيه وهابيو المملكة دونما الحاجة للصرف أو التعديل، التركيب أو الزحزحة. هما إثنان إذن، السلفي والليبرالي في السعودية لهما المنابر والسلطة، لهما القبيلة والولاءات، لهما الأعراش والنفط، إن المنطقة التي يتواجد فيها السلفي السعودي، هي منطقة مشدودة بآصرة آل سعود وذخائر ونعماء المال ووفرة الحاجة إلى درجة البطر، والمنطقة التي يتواجد فيها الليبرالي هناك أيضا هي منطقة مسرفة التطرف ولا يبرز من خلالها ميلا إلى إدماج “الديني" كحلقة عسيرة على التعويض والاستبدال.. إن السلفي والليبرالي في السعودية لا يلتقيان، ولا تشتم بينهما رائحة ولا يتجاسران على مقعد متجاور سوى محاولة الحوار الوطني الذي بدأ هناك من مدينة “قطيف" مع أوائل الألفية وقذف به في المجتمع والإعلام ليجري الحديث يومها عن السعودية الجديدة بعدما خضبها دم غزير ساح وتوزع بين الجنبات في الرياض وفي المنطقة الشرقية، ما كان مطمورا ظهر وبزغ بالفعل لا تحت العنوانين الإمبرياليين المذكورين فقط بل تحت عناوين الاختلاف والحداثة والأقليات، مؤتمر قطيف هو وحده الذي بلور الإرادات وعكس بوصلة مغايرة لبلاد هائلة القداسة، تعج بالروح ويؤنسها الدين ويدير قطاعها الحيوي ما هو امتثالي، دغمائي كالوهابية والمشائخ والقبيلة والصحراء.. هي اليوم إزاء المساءلات وإزاء الوقت الضروري وليس خيارها الانكفاء والأحادية فضلا عن التجافي أو القعود عن بذل وسع في التغيير، في السعودية اليوم كل شيء آخذ طريقته نحو اتجاه ما، ليس هو بالضبط الصياغة المثلى، لكن مجازا تحدث أفعالا تلوح بنوايا حسنة يجب أن تذكر وأن يأتي على الذكر كذلك أن المملكة كما لو أنها رافضة أن يلعلع فيها فقط أصوات الخطباء، الهدنة هي الوضع الموصوف آنيا للإتيان على ذكر ملامح مرحلة ثقافية يكون فيها “الثقافي" ندا “للديني" و«للمشيخي" ولفظة “الثقافي" هنا هي المعنى والقصد تماما بكلمة الليبرالي، فإن من عادة سعوديي الراهن التلفظ جزافا بالاصطلاحات الضخمة، تلك التي يجري فهمها على نحو أفضل في لبنان والمغرب ومصر مقارنة بما يتداول هناك خاصة في حقل الإعلام. حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية شرح يطول، كما خصص لها الدكتور عبد الله الغذامي كتابا مهما، كتاب في النسق وفي البنية وفي النقد الثقافي ذلك الذي يموضع السعودية الثقافية في حقل لم تملكه من قبل وفي أسئلة جوهرية تخرج بها على العالم العربي وترسم لوحة بأكثر من لون وأكثر من قراءة نمطية لا تفضي إلا إلى نافذة واحدة يطل منها الكل السعودي، وحيث السلفي يتراجع من قناعته ميلا واحدا والليبرالي يغرق في الالتباسات وتذبذب المفاهيم. كتاب الغذامي هذا طريف، إفضاحي، أربعائي، أصاب في العرين وترك الجرحى يواصلون نزيفهم، لا تصدق العنوان الكبير في السعودية إذ هي لن تستطيع بسرعة التنصل عن جلباب الأب والعثرة ستكون دائمة والمحافظ هناك نسيج وحده لوحده، فحتى المحافظ السعودي وحده مختلف تماما عن محافظ تونس والجزائر والأردن.. سعد البازعي مثال جيد ومعروف عند المثقفين العرب، نازل الغذامي في الخطيئة والتكفير وفشل في الاندماج الشخصي مع الحداثيين مع أنه من النسق الحداثي في التفكير وتلك هي مخاوف اللحظة التاريخية التي تمر بها السعودية، أي أن تكون الحيرة انتصارا للقدامة والفكر القديم وللوهابية ولولاية الوهابي على حساب طموح مجتمعي واثق، غير أنه محتشم، راغب غير أنه يتمنع، كذلك ما يحدث للمرأة هناك، خصلات شعر بارزة على استحياء تواجه “المطاوعة" في أسواق جدةوالرياض وأبها لكن يعدم أن تنزل المرأة إلى سيارتها وهي السائقة، فتوى أفتاها عبد العزيز بن باز وظلت تهيمن على المناخ العام لمبدأ الحريات في بلد كبير جدا، ومرغوب جدا (لم يسلم من شرق أوسطية شيمون بيريز). فوجئ متتبعون كثيرون للسعوديين وهم أكثر من يشتري كتب الأدب والأدب المكشوف والمجلات الجريئة وأفلام السينما الوقحة كما يفاجئ أي واحد فينا من ظاهرة الهوس الكروي الموجود بسبب شهرة نادي أهلي جدة أو الهلال أو النصر وهي فرق من مدن سعودية معروفة جدا، كما يذهب الشباب السعودي إلى لبنان وباريس باحثا عن الليبرالية والموضة وتقتني المرأة المنقبة أضعاف ما يتصوره عقل من ألبسة الإثارة والتبرج والفتنة، وينتشر اليوم الهوائي المقعر فوق كل سطح وعلى كل رأس وداخل كل فوهة، حالها هو مقالها غدا إن تم تمرينها ببطء وبيسر على تهجئة حرف الثقافة أي هي الحداثة عندهم وهي الليبرالية وهي السعودية التي تتجدد وتتعدد وينشرع بابها على خطاب جديد يبقى فيه الديني للديني والدنيوي للدنيوي، أن ينفك السلفي عن جريرة تكفير وتخوين الآخر وأن ينفك العلماني عن بناء أرضه وبناء ما فوق أرضه بأصولية مبتدعة كان لجأ إليها الشيخ عبد الله القصيبي الذي خرج عن ربقة المؤسسة ونادى إلى الإلحاد خلاصا ودواة ومذهبا أخيرا يكون هو الدين الحق وتكون الوهابية هي فصل من فصول خراب العمران -كما كان يقول-. هذا البلد فيه ثورة ثقافية هامة، وواقعة فكر ونقد وصولات في الرواية والمسرح، جمهور كبير يتعاظم ينزل إلى ساحة الحرم الشعري وهو غير مبتئس لا البلد ولا هذا الجمهور، صرنا نسمع عن الغذامي أكثر وعن غازي القصيمي وعن تركي الحمد وعن شادية ورجاء عالم وإبراهيم بادي، سعد السريحي وعبده خال.. ليست هي صورتها وليست تستحقها تلك التنمنطية الفاجعة، إن الأفكار التي تؤسطر لا تعمر طويلا فالقصيمي المذكور، والعثيمين هما نتاج وحاصل عملية واحدة، لكن يبرز من المنطقة ذاتها - منطقة القصيم - سلمان العودة وهو مختلف تماما عن الطينة التقليدية التي أنجبتها “الحوزة السنية" في المملكة وهذا هو المراد اليوم في شأن الحجاز أن يطلع على مساحة الديني مجدد من الداخل تفكيكي، قابل للتطور باستمرار وعلى مساحة الدنيوي المثقف النقدي لا الشيخ الفاضل في الإلحاد كما كان الشيخ “عبد الله القصيمي". عبد الوهاب معوشي هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته