تستحق أن نحتفي بها، كأنها علامة علينا، كما يحتفي الإنسان بذاته حين يسمو على ذاته، وكما يبتهج حين يتحقق ويرتفع شأنه بين باقي مفردات الخلق، حين يُثبت لذاته وغيرِه استحقاقه شيئا ما، كأنه يقول هائنذا، شيئا يسجل به ملامحه ويكرّس انتماءه وجدارته بنقش اسمه على لوحٍ مجيد، ذلك الذي يبقى ليقرأه الإنسان والتاريخ، شيء شاهد وشيء مشهود، هاجس الإنسان المكنون النابع من جوهر التكوين والمتميز بشفاعة ذات ذلك الشيء عما نعرف من باقي المخلوقات، الشيء الذي أودعه الله فينا، وفطرنا عليه وميزنا به وشرفنا حين أنزلها آية في كتابه الكريم “ولقد كرمنا بني آدم"، ذلك أنها تترجمنا بلسان الحال، وتوقّع على شأننا برسم تلك الكرامة التي تعلن المسكوت عنه في منتديات البشر والمخزون في أرواحنا منذ ذلك التاريخ الذي أرادوا فيه محو ظلنا على الأرض وطمس صورتنا من المشهد، حين ظلِّ الظلُّ يبحث عن ظليله متقلبا في أتون ناره وانفصام وجده وآلام كرامته، كانت تلك البرهة إعلانا عاما للكرامة لمن ألقى السمع وهوشهيد، فمنذ أن تكالبت القوى والأطماع على قصعتنا، وطفقوا يمخرون في نسيج تكويننا ويسعون إلى تبديد معادلات مركباتنا المجتمعية وتشريد مفردات ثقافتنا وهويتنا، فهذه المنطقة من العالم التي تُدعى بلاد الشام هي الحاملُ التاريخي للعروبة ولغتها وحصنهما ووعاء تماسكها ونموذج قيم وعيش وحضارة، وقد تدحرجت النكبات من سايكس بيكو إلى الانتدابات وسياسات التدمير الممنهج إلى النكبة التي كانت خطوة نوعية مفصلية في الطريق إلى الغاية الاستراتيجية لإثخان الشام والعرب، كان قدر الفلسطيني أن يدفع النصيب الأكبر من الفاتورة في الحسابات الدولية المهيمنة المتربصة، وكان مفترضا أن يُكبَّلَ وتصادر هويته وتُحرفَ أحلامُه، أن يبقى أسير واقع جديد في جغرافيات اللجوء المجاورة محروما من ترجمة أحلامه وامتلاك زمام المبادرة لمباشرة أموره، وأن يظل متكئا على وعود تلك الأنظمة التي أفرزت النكبة والتي رفعت شعار التحرير وتحقيق العوة بالنيابة عنه، وأن يكون أسير الأونروا التي توفر له من مستلزمات الحياة البيولوجية حدّا حرجا يحجب طريقه إلى الثورة الشاملة، هكذا بين تكبيل وتأميل وتخدير وتحريف وتسكين، تاريخ بحجم كيد الليل والنهار، طمعُ العدوّ كما طمعُ الشقيق، بينما الضحية تنزف جرحها وتعمّق حنينها وتقبض على جمرتها وتستحثُّ الخطى للتحرير، تصفق لكلِّ خطيب ولكلِّ شعارٍ جديد، وتحاول تلمس طريق عيشها ولملمة شتات بنيتها واستعادة توازن ما اختل في مكونها، صار الشعار في الجوار مزادا بينما كانت المخيمات أتونا يُنضج الحالة القادمة ويلد الفجر الجديد، صار المخيم والشتات مرايا تعكس وتتفاعل مع المتغيرات التي اندلقت من المحيط إلى الخليج وباسم هذا الجرح انتكست أقوام وعلت أقوام، وكان لابد في هذه الصيرورة من كسر هذا السياق والقفز فوق هذا الزحام، كان لابد من أن يفيض الجرح على واقعين، واقع الحال وواقع الجوار، لم يكن ممكنا أن يتكرر الأمر مرتين، فما أفرز حال النكبة إلا حالة التكبيل، ولقد أدرك الحس الفلسطيني منذ البدء واستشرف النكبة قبل النكبة فما كان له وهو يستشرف الحال الآن بعدها أن يدعها لنفس آلياتها السابقة، فكان لابدَّ أن يكون هو المفاجأة وأن يدخل على كلِّ عناصر المعادلة، وهو المطارد والمحاصرُ والمكبل، وهو المقيَّدُ والمخيم، ها هو الآن ينتزعُ زمام المبادرة ويصفع القوى الغازية والقوى المحاصِرة، تلك كانت الانطلاقة، وسيكون الدرب طويلا وشائكا وداميا لانتزاع أيِّ مفردة من مفردات السيادة الكاملة من حقِّ التمثيل المقدَّس إلى حقِّ العودة الوافية، لكنها كانت أقصر الطرق بما أنها منذ لحظتها الأولى قد بلورت كرامتنا الكاملة.