تكمن أهمية هذه المقاربة في أنها تقرأ أو تؤول ظاهرة الربيع العربي باعتبارها ظاهرة خطابية تحمل بعدين: البعد المضموني المتمثل في المواقف والأفكار التي اتخذتها الشعوب العربية في بياناتها وشعاراتها، وفي البعد الشكلي أي معرفة الأشكال التعبيرية التي عُبر بها عن تلك المضامين. هللنا طويلا للثورات العربية، بل تركنا هذه الأحداث تصنع لنفسها مفاهيمها وخطاباتها، فالجميع يغرد (ب) للربيع العربي، والآخرون بثورة الياسمين، وعبرت المظاهرات عن خطاباتها التي لا تخرج عن “الشعب يريد تغيير النظام". طبعا لا نختلف في أنه من حق الشعوب أن تثور ضد الظلم، وأن تخرج إلى الشوارع لتطالب بالتغيير، فهي مطالب مشروعة بل مكفولة من طرف قوانين حقوق الإنسان، على غرار الحق في التمتع بثروات البلد والإغناء منها، غير أن دراسة هذه الثورات كظواهر خطابية هي من الأهمية بمكان من أجل فهم عميق لهذا الحراك. تكمن أهمية هذه المقاربة في أنها تقرأ أو تؤول ظاهرة الربيع العربي باعتبارها ظاهرة خطابية تحمل بعدين: البعد المضموني المتمثل في المواقف والأفكار التي اتخذتها الشعوب العربية في بياناتها وشعاراتها، وفي البعد الشكلي أي معرفة الأشكال التعبيرية التي عُبر بها عن تلك المضامين. من المهم الإعتماد على المقاربة الفوكوية للخطاب (نسبة إلى ميشال فوكو) باعتباره حدثا تاريخيا انبثق عن مرحلة تاريخية تتحكم في إنتاجه مجموعة من القواعد والقوانين، سواء ذات المصدر الخارجي أو ذات المصدر الداخلي، ومن جهة أخرى فإن قراءة الخطاب تحتاج إلى مجاوزة الجانب السطحي والمباشر للغة إلى ما يختفي وراء بنائها اللغوي، هنا ستبرز الحاجة إلى التأويل أو تبرز إرادة التأويل للوقوف عند اللامفكر فيه داخل هذه الخطابات: السؤال المطروح: إلى أي مدى تعبّر خطابات الربيع العربي عن الرغبة في التغيير والإنعتاق؟ هل تهيأ الخطاب العربي لاستيعاب التجربة الديموقراطية سواء كممارسة خطابية أو إجتماعية أو سياسية؟ الربيع العربي جدل الدال والمدلول نبدأ من مصطلح “الربيع العربي" الذي رافق الحراك العربي منذ أن انطلقت شرارته الأولى بتونس، وصار اليوم بمثابة العنوان الكبير لما يحدث عربيا، وسنحاول أن نحلله باعتباره بنية خطابية تتشكل من دالين (ربيع) و(عربي)، وما يتضمناه من دلالات سواء اللغوية أو الإيحائية. سنؤكد على الطابع المراوغ للغة، فاللغة البشرية وُجدت من أجل تحقيق التواصل، هذا الأخير مرهون بالمعنى، فلا يمكن أن توجد اللغة خارج وظيفتها الدلالية. غير أنّ الطبيعة التواصلية بين البشر تأخذ أحيانا مسارات منحرفة تخلق نوعا من صعوبة الفهم مردّ ذلك إلى سببين: سبب بنيوي يتعلق بكيفية بناء اللغة في الخطاب، والسبب الثاني متعلق بالمتلقي وطبيعة التلقي ذاته، حيث نعلم أنّ تلقي الخطابات المختلفة تتدخل فيها عوامل أكثرها سيكولوجية (ترتبط بالطبع البشري)، تتأثر بعوامل إجتماعية وسياسية وأخلاقية... وعلى هذا الأساس، فإنّ استقبال الرسالة يختلف من شخص إلى شخص، وقد يلعب المستوى البنيوي للخطاب دورا مؤثرا في هذا الإختلاف، خاصة وأنّ الخطابات مع كثرة تداولها تكتسي بفعل عنف الممارسة دلالات مضافة تكون بمثابة تراكمات دلالية تغلف المعنى الجوهري للخطاب، وتبعده قدر المستطاع عن متناول الجماهير. الأكيد، أنه لا يوجد أي فعل مقاوم دون أن يتأسّس أيضا خطابيا، بمعنى دون أن يتجسد في خطابات، وإن كان ما أقصده في سياق هذا الموضوع هو الشعارات التي رفعها المتظاهرون ضد الأنظمة الفاسدة. فهذه الشعارات عبّرت عن إرادة هذه الشعوب في التغيير والثورة ضد الواقع الفاسد، ما يجعلها تمثل حدثا تاريخيا؛ فالخطابات هي أيضا أحداث تاريخية كما يعرفها ميشال فوكو، لم يكن لها أن توجد لولا أنها وليدة ظروف تاريخية. الخطاب وإرادة الكلام ما يميز هذه الشعارات على اختلافها، أنها عبرت أيضا عن إرادة الكلام والرغبة في كسر أطواق الصمت. فمن طبيعة الأنظمة أنها تنتج وسائلا وآليات لاستعباد الخطابات، وتكميم الأصوات وقهرها، وفي أحسن الأحوال تقنينها والحد من حركتها وفعاليتها كما تتجلى فيما يسميه فوكو بجمعيات الخطاب وبالحقول المعرفية وكلها تمثل مبدءا لمراقبة الخطابات، من خلال بعث دائم للقواعد، كما تتجلى في المؤسسات التعليمية ومراكز البحث والجمعيات السياسية أو الفلسفية أو الدينية. تختزل هذه الشعارات عقودا من القهر الذي طال إرادة الشعوب العربية على التعبير، فالحراك الثوري حركته هذه الرغبة، إن لم نقل أنها كانت المحفز الأساسي، صحيح أن المجتمعات العربية عانت ومازالت تعاني من سياسات تجويع وإفقار مبرمجة للطبقات الشعبية الواسعة على حساب حقوقها في الثروات التي تتمتع بها أوطانهم، لكن العطش الحقيقي كان إلى حريات أخرى معنوية كحرية التعبير. كان لسنوات قليلة من الصعب أن تخرج الجماهير وترفع شعارات على شكل “الشعب يريد اسقاط النظام" بكل هذه المباشرية والوضوح، فهذه الشعارات في ذاتها قد ساهمت في إذكاء الشعور بنوع من التحرر من الخوف، الخوف من الكلام، الخروج من أغلال الصمت. إنّ الخطابات التي انفجرت داخل الثورات العربية هي نتاج لأنظمة القمع والإخضاع، فقد ثبت تاريخيا أنه أينما توجد سلطة قهرية توجد مقاومة، وقد تجسدت مثلا في الحركات التحررية من الاستعمار الأوروبي، ففي ظل الاستعمار تشكّلت معالم خطابات مقاومة واعية بشرطيتها التاريخية وبأهدافها. الخطاب والجسد: التحرّر المزدوج كانت لحظة احتراق جسد (محمد البوعزيزي) لحظة رمزية جعلت الجسد خطابا يعبّر عن رؤية للعالم، رؤية مسكونة بحسّ تراجيدي. كان الجسد البوعزيزي يتحدّث عن أحداث القهر والتجويع عن آلام سنوات من الظلم وقتل الأحلام ومصادرة حقوق المواطن التونسي / العربي. إنّ الجسد كما يكتب فوكو في (جينيالوجيا المعرفة): “ساحة لتسجيل الحوادث... إنّه المكان الذي تفكك فيه الأنا". وتعبّر عن تفككها وتمزقها، فعليه تتجلى آثار التاريخ على شكل كدمات وجروح وأوشام واحتراق داخلي وخارجي؛ لقد حاول فوكو أن يصحّح التصوّر الذي يقول أنّ الجسد لا يخضع إلا لقوانينه الفيسيولوجية فقط، الواقع أنه خاضع لأنظمة خارجية تاريخية تؤثر فيه، وتحاول تشكيله والإمساك به والتحكم فيه كأنظمة الغذاء والأنظمة الإجتماعية والأخلاقية، وبهذا المعنى فالجسد يتشكّل تاريخيا من خلال علاقته الجدلية بمختلف الأنظمة. الجسد إذن كان ومازال ذلك الفضاء الذي وقعت وتقع فيه كل الثورات والتحوّلات، والدعوة إلى تحرير الخطاب هي أيضا دعوة إلى تحرير الجسد من سلطة الأنظمة: الجسد المقموع، الجسد المكبوت، الجسد المُعاقب، الجسد المنفي، الجسد المستبعد، وكل هذه الأجساد تحدّد علاقتها بالسلطة. بن علي لونيس* * أستاذ الأدب المقارن والنقد الأدبي (جامعة بجاية)