بينما تراجعت السياسة عندما تمكن الجزائريون من تجاوز محنتهم المأساوية بحيث دخلت الأحزاب التقليدية، مثل الأفالان والأرندي والأفافاس وحمس والأرسيدي وحزب العمال، في دوامة عقيمة، وطرأ على خطابها جمود كبير وتحولت إلى أجهزة مغلقة انجرت إلى صراعات هامشية أساسها الريع وأوهام الزعامة ما هو مستقبل السياسة في الجزائز؟! هل يمكن أن نتحدث عن السياسة اليوم؟! قصدت السياسة بمعناها الفعلي والثقافي والمجازي.. ما يلاحظ اليوم هو هذا الفقر إن لم أقل البؤس الذي أصبح يسم كل الخطابات السياسية للفاعلين، سواء كانوا نخبا تقليدية ممن تمتلك سلطة القرار أو نخبا معارضة على رأس المؤسسات السياسية والحزبية.. وقد يقول قائل إن ذلك يرجع إلى السنوات العصيبة التي عرفتها الجزائر في التسعينيات، بحيث كانت وبالا على تطور الديمقراطية والممارسة السياسية الجديدة الناشئة عندما أصبحت الكلمة / الفعل لأصحاب القوة والسلاح في ظل المعركة الشرسة التي قادتها الجماعات السلفية ضد الحكم، والفريق الذي أوقف المسار الإنتخابي وباشر مواجهة للمعارضة الإسلامية المسلحة بالقوة المفرطة، التي قلصت هامش الحريات وفتحت المجال على مصراعيه أمام الرأي الواحد والنظرة الواحدة باسم الدفاع عن الوطن وإنقاذ الجمهورية من السلفيين المغامرين الذين رفعوا شعار الجهاد من أجل إقامة الخلافة أوالدولة الإسلامية.. لكن هذا التغيير يظل يعاني من قصر النظر، لأنه حتى في تلك الفترة القاسية والضيقة والمليئة بالصخب والضجيج وقعقعة السلاح، كانت ثمة معركة حقيقية بين الخطابات السياسية ذات المسحة الإيديولوجية، بين أنصار المصالحة التاريخية والتسوية السياسية، وأنصار الحل الأمني الشامل والإستئصال، وكان هناك لاعبون فعليون على الساحة منتجون لخطابات سياسية واضحة تمثلت في تيارات العلمانيين والعصرانين المعتدلين والمحافظين والإصلاحيين والإسلاميين، حتى وإن تخلل ذلك شطط كثير في مثل هذه الخطابات. وبرغم حالة الإضطرابات خلال الحرب شبه الأهلية فقد تحولت الصحافة إلى قنوات لمثل هذه الخطابات السياسية، والشارع السياسي إلى فضاء فسيح وبليخ لصراع الإرادات والأحزاب إلى أذرعة لهذه المعركة التي اتخذت أشكال مختلفة ومتعددة، لكن في الجوهر كانت ذات طبيعة سياسية. وحتى عندما اتجهت الجزائر أو السلطة وممثلوها الذين دخلوا في معركة مفتوحة ضد الإسلام الراديكالي والمسلح نحو إعادة بناء شرعية جديدة حتى وإن كانت تعاني الهشاشة، فلقد كانت السياسة تمثل اللعبة الحقيقية في عملية بناء السلطة ومؤسساتها، فعرفنا انتخابات تالية للرئاسيات مبنية على إعادة إنتاج الحقل السياسي بعيدا عن اللامبالاة وبعيدا عن الفساد الذي يشكل أساس العمل السياسي فيما بعد، ولقد ظهر ذلك جليا في السنوات الأخيرة في المتقدمين إلى الإنتخابات التشريعية والمحلية بشكل خاص وبارز، وانتشرت مصطلحات غريبة في أدبيات الأحزاب، مثل “الشكارة". والمفارقة الصارخة تكمن في أن الجزائريين الذين عاشوا في ظل نظام الحزب الواحد، ظلت السياسة تشكل حضورا في حياتهم اليومية، سواء في الجامعات أو في المؤسسات أو في الفضاءات العمومية أوداخل النقابات التابعة للإتحاد العام للعمال الجزائريين، بين حساسيات الحزب الحاكم أوالمهيمن وبين الناشطين في الأحزاب السرية مثل الأفافاس، وحزب القوى الإشتراكية، أو في أحزاب اليسار المتطرف بل وحتى في الحساسيات الإسلاموية مثل جماعات الجزأرة والإخوان والسلفيين، واستمر ذلك حتى في سنوات الدم والعنف الفظيعين التي من شأنها إسكات الأصوات ومحو الفعل السياسي. بينما تراجعت السياسة عندما تمكن الجزائريون من تجاوز محنتهم المأساوية بحيث دخلت الأحزاب التقليدية، مثل الأفالان والأرندي والأفافاس وحمس والأرسيدي وحزب العمال، في دوامة عقيمة، وطرأ على خطابها جمود كبير وتحولت إلى أجهزة مغلقة انجرت إلى صراعات هامشية أساسها الريع وأوهام الزعامة وإعادة إنتاج أحادية قاتلة، وقد حال ذلك كله دون تجذرها داخل المجتمع وتجديد خطاباتها وتحولها إلى قوة منتجة للمعنى السياسي أو إلى قوة سلطة مضادة. وبالطبع يكون للسلطة دورها ومسؤوليتها في مثل هذا الوضع، لكن ذلك لا يعفي اللاعبين السياسيين من مسؤوليتهم في ذلك.. فمن هو الحزب الذي انكب على تعبيد الطريق إلى جيل ناشئ وصاعد من السياسيين، ومن هو الحزب الذي راح يشتغل بشكل يومي وسط المجتمع خارج المواعد الإنتخابية؟! ومن هو الحزب الذي أسس لسلوكات جديدة داخل مؤسسات مختلفة بشكل جذري عن سلوكات أجهزة السلطة؟! والنتيجة؟! هو هذا الحصاد المر المتمثل في موت السياسة كسلوك وثقافة في أوساط المجتمع، وبالتالي هذا الإنهيار للأطر الفعلية التي من شأنها الحفاظ على توازنات المجتمع وتوفير صمام الأمان في لحظات التحول الحرج، أوفي لحظات الأزمة العميقة. ويعني انعدام ذلك توفير الفرص لأن يكون العنف هو اللغة الوحيدة في التعبير عن المطالب المشروعة، والعدمية ذات الطابع التدميري هي الأسلوب المستعمل والغالب في ظل غياب مكونات السلطة المضادة ورموزها من قيادات وبنى سياسية وتعابير تستند إلى حيوية العقل السياسي.. لقد حدث لغط كبير حول مسألة رفع حالة الطوارئ، ولغط كبير حول السماح بميلاد أحزاب سياسية جديدة، واستنزف ذلك جهدا لا مثيل له في ترديد الشعارات.. والحقيقة المرة هو ما نعيشة اليوم من انحطاط، وانكماش وابتذال وبؤس، ماذا تحقق بعد أن استجابت السلطة لمثل تلك المطالب؟!! وهذا ما يدعونا اليوم إلى إعادة التفكير والتأمل جديا وبشجاعة في ما آلت إليه السياسة بمعناها النبيل والشامل، وإلا سيكون الثمن هذه المرة ليس باهضا وحسب بل مرعبا ومفزعا..