يتجاسر فكر الشيخان، الغزالي وحاج حمد، وحيث لا ثالث لهما كمنتميين منشقين على المؤسسة المشيخية واعتدادها بمقولاتها، إنهما معا يصيغان فكرا حول القرآن ومدارسه وأنظمة معانيه وشبكات مفهومياته على النحو الذي لم يفعل في قرنهما - قرن الواحد والعشرين - غيرهما وحيث لا يزالان يلقيان الغمط والتضليل والتطنيش لأن نفسها بيئة العالم الإسلامي بمؤسسات إنتاج خطابه كما بصانعي الجمعة والمنبر والخطابة، بيئة هؤلاء ملوثة، ملبدة، غائمة، تشكو العقم واليباس وفقدان التجديد.. لقد حاولت مدرسة “إسلامية المعرفة" المزج الرهيب والساحر بين الفكرتين الإسلاميتين اللتين أنشأتهما وصهّرتهما نيران التجربة الحضارية الكبرى وهما مدرسة الفتوى ومدرسة الرأي وفيما جنحت الأولى واستسلمت لصنف واحد دوغمائي يفري فرية الناس ونوازلهم في فتوى تقوم مقام المستبد الرشيد الذي تملأ الأرض عدلا وشهدا وعسلا وفراديس، وبينما لم تجنح مدرسة الرأي إلا لخلوف نظرات ورؤى ومسامحات، فما استطاعت أن تسود وتتقدم وتصمد أمام ممانعات رجال الدين الذين لن يقبلوا أبدا خارجا من صلبهم ومن بين أعطافهم يذهب إلى الساحة ناشدا المرحمة والإنسية والأنسنة.. إن الاشتغال على مدرسة “إسلامية المعرفة" كفيل للوقوف أمام المحطة النقدية لمدارس الفكر الإسلامي الإصلاحي وغير الإصلاحي، الأصلاني منه والحركي، يعني ذلك ما يعنيه جملة الإلغاءات والمحوات والإبعادات التي مارستها الحركة الإسلامية بقاداتها الشبان الذين تمشيخوا، وبشيوخها الذين شبّبوا فتاويهم وفذلكاتهم حتى صارت توزن بميزان المشهد الانترنتي، فتاليا إسلامية المعرفة كانت العتبة والمنصة لممارسة نقدية حية، راهنة وفعّالة لكن هؤلاء الداخل خانق، حلقات الفقه لا تليق، السلطات تضيق، المنابع تجفّ، فلقد كان وظل الشيخ النقدي المغامر الشجاع الدكتور طه جابر العلواني يشرح السر والداعي والرهان والمعنى من إسلامية المعرفة في كتبه وفي نظمه، في رسائله الصغيرة، وفي متونه التي جمعت مدونات الفقه الأصولي، فريده وغريبه فخريج جامعة الإمام سعود بالرياض مكننه خصوصيته النادرة كعراقي مهاجر - عارض صدام حسين - من التلاق والتواطن مع ثقافات مغايرة وترحّل في غير ما موطئ وأرض وبلاد من بلدان الغرب وحيث كانت وجهته الولاياتالمتحدةالأمريكية وبالضبط في واشنطن مدشنا تيارا حديثا متلازما مع تيار الحداثة والحداثة البعدية من زاويتها المهمة في علم الاجتماع المعرفي والديني والألسني وكذلك علوم أخرى، مسار طه جابر العلواني يحفل ويمتلئ ببنات أفكار حكيمة وجريئة وهي تنشز عن أطروحات الحركة الإسلامية كما تنشز عن تطرفات فكر اليسار الإسلامي وجماعة 15 / 21 من تقدميي تونس بزعامة صلاح الدين الجورشي واحميدة النيفر وهي ليست فصيلا تسنده الطوبى والمثال أو هو يحتمي بعقيدة الطريق على ما كانت تذهب إليه تنظيرات أبو الأعلى المودودي وسعيد حوى وقبلهما مصطفى السباعي وحسن الهضيبي وحسن البنا. لم تأت فكرة “إسلامية المعرفة" إلا من بلورة حية نابضة وإجرائية قام بها أفذاذ من جماعة أمريكا المصنفين ضمن الرواق النهضوي المستمر والممتد منذ بروز خطاطة محمد اقبال، عن تجديد الفكر الديني بإلماحات وبهارات من قدامى ومعاصرين كالشاطبي وابن خلدون وابن عاشور والشيخ الثعالبي وخير الدين، لقد أشارت الكراسات الأولى في النقد الثقافي لحركة الإسلام التي حرص على إفشائها رجال من نوع اسماعيل الفاروقي - توفي في الثمانينيات - وطه جابر العلواني وجمال برزنجي ومالك بدري وعبد الحميد أبو سليمان وجمال الدين عطية وغيرهم من جماعات الإسلام المهجري المعاصر الحداثي، أشارت كراسات هؤلاء الرجال إلى استحالة الإسلامية الحركية واقعا ونظرا وخطابا ومنظومة في بلوغ مأرب إخراج المجتمعات العربية الإسلامية إلى عهود النور والألق الحضاري والشهود على الناس، وظفت طاقاتها - هذه الجماعة في واشنطن - وصلاتها الفكرية والأكاديمية لإحداث عدة شروخات، بنيوية، ذهنية، إبداعية وجمالية وسط الحقل الإسلامي لكن المسألة كانت وجودية تصورية وليست نسقية سياقية، فإن الإسلام السياسي رغم استيهامات بعض رموزه بالغرب وحبهم الباطني له ولطريقة عيشه كالغنوشي والترابي وعباسي مدني وعصام العطار وعدنان سعد الدين وكثيرين من رموز تلك الفترة ووجهاء المرحلة، إلا أنهم لما يتصلون بالداخل فلن تكون عندهم ضرورة لتكوين الشعب وتدريبه على لغة توكفيل، وكالفن، ومارتن لوثر كينغ وجون ديوي وماركس وهيغل وروسو وزولا، بل البحث عن ذرائع سلسة تهتم بسوقه على محمل الفدا والموت والشهادة أو على طهرانية فطرية أو على رفض كامن للغة المستعمر وثقافته. ثمة تسليم وبداهة براهنية “إسلامية المعرفة" وقلقها النهضوي المشروع وضربها بالمطرقة الصحّ، أي الشبر للجامع والأشبار للجامعة وفق المقاربة البنابية وهي مقاربة تتجه إلى عالم الروح وأخلقه السلوك العربي الإسلامي حتى ضمن التقليد الغربي لكن ذلك لن يعني مطلقا تديين العمل الدنيوي وأسلمة السلوكية الإسلامية وإلحاق اليومي والحياة اليومية لمسلمي “الدار البيضاء، كوالاميور" بعصر الصحابة الكرام وفضائلهم. لاقت إسلامية المعرفة وتيارها انحرافا وعداء مقيتا وحروبا سرية كثيرة، كانت هي ومعهدها المعروف المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن محل معارك الرمز والقيمة والمساجلة ففضاء المعهد وأنديته ما فرغت من ملتقيات المحاورة والتخاطب بالحسنى وإدارة الجدالات وتخليق الشأن العمومي وإذكاء الإنسية والأنسنة في الجسد الفكري الإسلامي وقد استضاف المعهد باحثين متخصصين من كل بقاع العالم ممن لهم باع في السوسيولوجيا والإنسانيات ومشمولات أخرى من العلوم الإنسانية، بل إنه كان يطلب من أصدقائه ومريديه مزيدا من الاجتهاد في حقول تغطي، المعرفي، اللساني، البسيكولوجي، الميديائي، الفلسفي، الميثيولوجي، الطب العقلي، ثم حصل فكر نوعي مزدهر إذا ما قيس بتوجهات الإسلاميين الغارقين في ضحالات الإنشاء وضلالات الإفتاء والإفتاء المضاد، الذي ما ردّ على ذبابة قادمة من إسرائيل. كانت الجماعة متطلعة ولا تربط الهوية برباط اللغة ولا تربط اللغة برباط المستعمر، فإن أقلامها القوية كانت أيضا تحفر في مكان مدهش وإنجاز حر طليق خلاق وعبقري باللغة الإنجليزية، فلقد أبدع من مدرسييها البيداغوجيين بهذه اللغة برفيز منظور، سيد حسين نصر، فضل الرحمن، علي مزروعي، منى أبو الفضل. مثلت المدرسة ومعهدها الدولي ميدانا لتخصيب الهويات والطوائف والأعراق، فإن برفيز وفضل الرحمن هما باكستانيان وسيد حسين نصر إيراني وعلي مزروعي كيني مسلم ومنى أبو الفضل زوجة الدكتور طه مصرية، وهذا قسط من أقساط أخرى عمل عليها روّاد ومسيرو “هذا المعهد" حتى يفي بوعوده في إصلاح آخر هذه الأمة وتأهيلها من بين الأمم التي يؤهلها العلم النافع والجامعة المتفوقة والمناهج المزدهرة والإنسان المرفّه والوسائل الابتكارية. لم يفرق المعهد بواشنطن بين عربي و أعجمي إلا بتقى الفكر ونزاهة المسعى ونظافة السريرة، تلك عوامل وعناصر لا يستغنى عنها في استنهاض الهمم واقتياد الوجدان وصناعة الحاضر المشرق ذلك الذي لا تصنعه المشيخات والملالي بل الانتلجانسيات والأدمغة.. لقد تناغم الشيخان محمد الغزالي وأبو القاسم حاج حمد ومعهما كذلك عبد الحليم أبو شقة صاحب المصنف التحرري في فقه المرأة المعنون “بتحرير المرأة في عصر الرسالة" مع أطروحات المعهد 1 ثم مع تجربة جامعة العلوم الإنسانية والإسلامية “SISS" السايس في فيرجينيا وجسد التناغم في نهايات القرن الفائت امتدادا للبيريسترويكا الإسلامية التي نونت مجموعة كبيرة من الكوادر الإسلامية بعثها وخلقها كملحمة شعوب وإثتيات وأقليات ودياسبورات إسلامية عربية وأعجمية وأخرى من العالمين حتى تؤدى الرسالة وتبلغ الأمانة وهي في ذلك الطرح المتغاير مع الإسلام السياسي كما قلنا تفرد مشروعها للتفكير والمجاهدة المدنية والتوعوية وتنشد ميثاق عمل عالمي يستبق مفاهيم كثيرة ليست موجودة في طيات ومطويات الخطاب الإسلامي الحركي، الجهادي والمقاوماتي، السلفي والرسمي. إن الإنتلجاسيات الإسلامية مغدورة في محيطها وتعمل دوائر سياسوية، خفية وظاهرة على إرباكها أو التشويش عليها أو إغراقها في المهاترات الاجتماعية التي تأكل خلايا الجسد الإسلامي برمته. في المعسكر السني يصعب إزاحة النظام المشيخي وميكانيزمات اندراجه في النسيج الاجتماعي لأسباب حصرنا بعضها في هذه المداخلة، إذ أن الشيوخ يزدادون ضراوة كلما استعانوا بالشعبوية والدمغجة والمنطق الصوري وحيث إن المنشقّين يدفع بهم إلى أجواء الكراهية المضادة، ولذلك يقال في المملكة العربية السعودية عن الشيخ سلمان العودة أو عن سفر الحوالي أو ناصر العمر كونهم من مشائخ الليبيرالية.. إنها لفتة وعبارة دالة فاضحة لحجم الإغلاق الذي تتعرض له الثقافة الدينية النقدية والمثقف الديني المستنير.