إن الوقوف مع بختي بن عودة، بصفته مثقفا ناقدا لا يخلو من مزالق ومطبات. لأن الظروف التي جاء فيها بختي بن عودة حرجة وحساسة جدا. بل إن معالمها غير واضحة بما فيه الكفاية كي يستطيع مثقف من هذا النوع تحديد الهدف ووضع استراتيجية له ومنهج. على خلاف الوضع الذي أنتج قضية دريفوس أو مفهوم غرامشي (المثقف العضوي)، الذي تبناه العديد من اليساريين سواء العرب أو غيرهم إبان حقبة الحرب الباردة أو انقسام العالم إلى معسكرين. لذا يتوجب علينا العودة إلى الزمن الذي ظهر فيه بختي بن عودة: -1 بدأ بختي نشاطه الفكري في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. حين نعود إلى هذه الحقبة كانت الجزائر تعيش مرحلة التحول من النظام السياسي الاشتراكي إلى النظام السياسي الرأسمالي. وقد تجلت في أحداث الخامس من أكتوبر من سنة 1988. أي نهاية هيمنة الحزب الواحد مما أدى ببختي بن عودة إلى مراجعة مجموعة من المبادئ والقرارات التي كانت تشكل أرضية مفاهيمه وإدراكه للواقع، بحيث أنه لم يندفع مع هذه الأحداث ولم يجر ضد التيار في الآن ذاته. وهنا أمكن الحديث عن تحول فكري كبير لديه. ذلك أنه لم يتخندق سياسيا. بل اتجه إلى تغليب ما هو ثقافي عما هو سياسي: “لكن اليوم أصبح العالم أحادي القطب. لم تعد الأنظمة كما كانت عليه في القرن الماضي. تبعا للمعطيات الجديدة التي يشهدها العالم حاليا، أي مرحلة العولمة إنتاج مجموعة من المفاهيم السياسية التي جاءت بها الأوضاع الجديدة مثل الضربات الاستباقية، الإرهاب، الحرب على الإرهاب، الفوضى، الخلاقة...إلخ. وصول ما كان يسمى اليسار في الماضي إلى هرم السلطة، تراجع الاعتقالات السياسية والاغتيالات في صفوف ما يسمى بالمثقفين. وهيمنة الأنترنت على الساحة الإعلامية والثقافية". لكن ستشهد الساحة السياسية الجزائرية اغتيالات من نوع آخر هي الاغتيالات الإرهابية الأصولية. -2 تفاعل مع حرب الخليج في بداية التسعينيات. ليس من باب حرب بل كان ينظر إليها من زاوية التحولات العالمية. -3 تفاعل بختي بن عودة مع التحول الكبير الذي عرفته الساحة الجامعية الجزائرية بانتعاش التيار الأصولي: في هذا الإطار لم يدخل في صراع سياسي مع هذا التيار الصاعد، بل حول الصراع معه إلى اتجاهين الأول أنه خرج بالصراع من الجامعة إلى خرجها وبالضبط إلى الصحف أي الكتابة. والثاني أنه حاول تركيز مفاهيم الحداثة ليصد بذلك ترسانة المفاهيم الأصولية اللا تاريخية. -4 تعامل مع تراجع اليسار الماركسي سواء في الجزائر أو في المعسكر الشرقي. بختي فهم أن النضال السياسي في تلك الحقبة كان كما لو أنه دون جدوى. فهو لم ينخرط مع الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان آنذاك في السرية ثم خرج إلى العلنية، ليعرف من بعد تغيرا كبيرا في توجهه بتغيير اسمه ورؤيته. مما يؤكد نضج رؤيته ووضوحها. -5 كما يجب التذكير بأن بختي لم يكن يعمل ويفكر بمفرده بل علينا العودة إلى مجموعة من المثقفين النقاد في مجالات مختلفة، بحيث نجد في الأدب أمين الزاوي، في المسرح عبد القدر علولة، في علم الاجتماع عمار بلحسن في المسرح والصحافة احميدة عياشي وغيرهم كثيرون. ضمن هذا السياق، يمكن مناقشة توجه بختي بن عودة. تعامل بختي مع جريدة الحدث التي كان يشرف عليها آنذاك احميدة عياشي. التفاعل مع المسرح الطلائعي لعبد القادر علولة. العمل إلى جانب الدكتور أمين الزاوي بقصر الثقافة. -6 تابع أحداث البيروسترويكا مع غورباتشوف. في الوقت الذي كان عددا من المثقفين والسياسيين ساخطون على غورباتشوف لأنه - بحسبهم - هو سبب تفكك الاتحاد السوفياتي. بختي أدرك أن هذه حتمية تاريخية وبدأ يتطلع إلى المستقبل في الكتابة الثقافية. لم يمجد الغرب الجديد بعد سقوط المعسكر الشرقي ولم يأسف على الاتحاد السوفياتي كما أنه لم يكن ينظر بنرجسية إلى الماضي بل تطلع إلى المستقبل، مستقبل بلده الذي كان يراه في الحداثة أولا وتحديث المجتمع الجزائري خاصة. -7 شاهد تفكك الاتحاد السوفياتي، كما ورد آنفا، حين كان الاتحاد السوفياتي يتفكك إلى دول مستقلة عرف أن الديمقراطية ضرورة اجتماعية وأن الرؤية الواحدة للواقع زائفة. لكنه ربط الديمقراطية بالحداثة. بالنسبة إليه لا ديمقراطية بلا حداثة ولا حداثة بلا ديمقراطية إنهما مصطلحان متلازمان. -8 نهاية اقتصاد السوق وبداية العولمة كانت من الاهتمامات الكبرى لدى بختي بن عودة. كان يدرك أن التحول الذي ظهر في الاتحاد السوفياتي سابقا له انعكاس أيضا على الغرب الرأسمالي الذي تحول من اقتصاد السوق إلى العولمة وأن هذه الأخيرة هي انعكاس لترسانة من المفاهيم السياسية الجديدة. -9 نهاية الحداثة وبداية ما بعد الحداثة في الغرب وانبهار الشرق بها. لم يكد بختي يهضم الحداثة الغربية وانبنائها على العلوم والفلسفة، حتى اصطدم بما بعد الحداثة، حينها أدرك السرعة التي كان يتحول بها العالم ويتغير ويتطور وهو يرى نقيض ذلك في المجتمع العربي. -10 هذه المعطيات وغيرها هي التي أنتجت في الأخير بطبيعة الحال هذه الوضعية الجديدة هذا المثقف الجديد أو أن المثقف التقليدي سوف يتكيف مع هذه المنظومة العالمية الجديدة ليصبح مثقفا جديدا يساير ويواكب التطورات العالمية، في هذا الإطار يمكن الحديث عن المثقف النقدي من طراز بختي بن عودة. لكن هذا لا يمنع من الحديث عن مثقف ناقد واحد بل أصبح الحديث عن مثقفين نقاد أي بصيغة الجمع وذلك عائد إلى طبيعة المواضيع أو التخصصات التي يتبناها كل واحد من هؤلاء المثقفين، ثانيا نوعية وسيلة وقناة الاتصال التي يستعملها كل واحد منهم. على سبيل اليوم هناك الجرائد والمجلات الإلكترونية، شبكة التواصل الاجتماعي والمكتبة الإلكترونية والعالم الافتراضي. هذه الوسائل وغيرها هي التي خلقت هذا المثقف الناقد الجديد. إن تظافر كل هذه المعطيات على أرض الواقع قد أنتجت العديد من المثقفين النقاد بالجزائر. -11 إن أول وجهة ذهب إليها بختي كانت فرنسا فكرا: ربما أن الحالة التي شخصها الفيلسوف وعالم الاجتماع السياسي باسكال بونيفاص، من خلال كتابة المشهور “المثقفون المغالطون" حيث يقول: “في فرنسا ينتشون (المثقفون) بنفوذ خاص يمكن العودة بأصله إلى عصر الأنوار وتجدره في مشهدنا وإلى زولا وقضية دريفوس Dreyfus. ببساطة ليسوا مفكرين أو علماء فقط. بالتأكيد، بإمكانهم رفع مستوى المعرفة وإبعاد حدود المجهول ومشاركتهم في نقاش المجتمع الذي يميز ويجعلهم يدخلون في هذا القانون المثمن للمثقف". ص16 / 17. على هذا الأساس سوف يتوجه فكر بختي بن عودة، إلى الفكر الفرنسي المعاصر وبالضبط إلى الفلسفة التفكيكية في شخص جاك دريدا، حيث حاول تنظيم ملتقى خاص بالفلسفة التفكيكية ودعوة الفيلسوف إلى وهران، حيث كان موظفا مع أمين الزاوي بقصر الثقافة. كما لو أنه أراد استيراد المنهج التفكيكي لإعادة بنية المجتمع العربي عامة والجزائري خاصة. كما أنه أنشد الحداثة من فكر أدونيس من خلال كتابة “صدمة الحداثة" لقد كان معجبا به إلى تلك اللحظة التي لقيه فيها كانت صدمته أنه لم يثر اهتمام دريدا. ومن هنا غير الوجهة إلى إيطاليا، حيث تبنى أطروحة جياني باتيمو، من خلال كتابه “الحداثة وما بعد الحداثة" هذا الكتاب الذي عوض صدمة الحداثة لأدونيس. -12 لم يفسح الزمان الطريق أمام بختي بن عودة، كي نعرف مواقفه علانية من حقوق الإنسان، بحيث لم يصرح علانية بذلك. لكن توجهه الفكري يعطينا نظرة كافية على ذلك لأننا حين نقول إن بختي مثقف ناقد ذلك أن العالم أصبح واحدا وأن حقوق الإنسان واحدة فالمثقف الناقد عليه أن يلتزم بهذه الحقوق والدفاع عليها في أي مكان كانت وهنا تكمن الإشكالية. أي أن المثقف الناقد يمكن أن يكون مغالطا بحسب مفهوم باسكال بونيفاص. لكن حين ينخرط هذا المثقف الناقد في السياسة يضع نفسه في التخندق أي أنه يكون ملزما باتخاذ موقف من قضية ما وهذا الموقف يحدده طبيعة الموقف السياسي أي أن هذا المثقف الناقد يمكن أن يتبنى موقفا مخالفا للحقيقة بالرغم من أن الحقيقة نسبية، ما نعنيه أن المثقف الناقد في هذه الحالة يمكن أن يكذب أو يقدم حججا غير صحيحة أو بعيدة عن الحقيقة للجمهور. إن اقتناع بختي بن عودة، بالفلسفة لدليل قاطع على اتباعه لهذا المنحى لو...