كانت القاهرة ما بعد الإفطار تعج بالمركبات والمارة والباعة الجائلين، جنباً إلى جنب مع الاعتصامات التي تشهدها ميادين رابعة العدوية والنهضة، المؤيدين للرئيس محمد مرسي. فيما بقى ميدان التحرير يؤيد عزله... الرحلة من القاهرة إلى محافظة الشرقية وحاضرتها "مدينة الزقازيق"، تستغرق حوالي ساعة من الزمن على الطريق الزراعي وأقل بقليل على الطريق السريع (الصحراوي)، حيث لا تتعدى المسافة أكثر من 08 كلم. ومدينة الزقازيق (وريفها) التي تقع شرق دلتا النيل، اشتهرت في التاريخ المصري بعدد من الشخصيات التي صنعت مجد التاريخ المصري الحديث، وهي مدينة حديثة نسبياً، حيث أسسها محمد علي باشا (مؤسس مصر الحديثة) بعد إنشائه الترع وتعميم طرق الري والصرف لأراضي مديرية الشرقية لإصلاح أراضيها الزراعية، وتوسيع دائرة العمران فيها لزيادة إيرادات الحكومة من ضرائب الأطيان من جهة، وزيادة ثروة السكان ورفاهيتهم من جهة أخرى. وتستمد الزقازيق أهميتها من وقوعها على مفترق طرق بين القاهرة ومدن القناة ودمياط. فجنوبا توجد القاهرة وغربا توجد ميت غمر والمنصورة، وشرقا توجد الإسماعيلية، وشمالا بورسعيد ودمياط. وحسب المعلومات التاريخية فإن المدينة أصبحت إداريا رأس المديرية عام 1883م، بعد أن كانت بلبيس هي كبرى مدن المديرية، وقد تم نقل ديوان المديرية والمصالح الأميرية ونزل الموظفون في مكاتب أعدت لهم مؤقتا، ومنذ تلك الفترة سميت البلدة رسميا الزقازيق. وفي سنة 1836م تم بناء أول ديوان أقيم لأعمال موظفي المديرية والمصالح الأميرية الأخرى ومستخدميها على اختلاف أعمالهم، ثم أخذت في الاتساع والعمران بسبب وجود المصالح الأميرية بها واتخاذ التجار وأرباب الحرف والصناعات مقرا لأعمالهم، خاصة بعد إنشاء السكك الحديدية وتفرعها من محطة الزقازيق إلى القاهرة والمنصورة والسويس وبورسعيد. وتختلف الروايات التاريخية حول تسمية المدينة باسمها الحالي، بين من يروي أن ذلك نسبة إلى أسرة السيد أحمد الزقزوقي الكبير، وهو أحد فروع عائلة بركات الوكال الذي أنشأ كفر الزقازيق قبل مجيء محمد علي إلى مصر.. وبين رواية أخرى تربط المسمى ببحر مويس نوع الذي كان يجود بنوع من الأسماك يسمى الزقزوق، نظرًا لإصداره صوت الزقزقة، فسميت المدينة بذلك؛ نظرًا لوجود هذا النوع النادر من الأسماك بها دون غيرها من المدن التي يجرى بها بحر مويس. قررنا قطع المسافة من وسط القاهرة نحو مدينة الرئيس المعزول محمد مرسي، حيث درس وعاش وعمل بجامعتها (جامعة الزقازيق) قبل أن يقوده القدر نحو عرش مصر المحروسة، كأول رئيس مدني منتخب لمصر ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. كانت القاهرة ما بعد الإفطار تعج بالمركبات والمارة والباعة الجائلين، جنباً إلى جنب مع الاعتصامات التي تشهدها ميادين رابعة العدوية والنهضة، المؤيدين للرئيس محمد مرسي. فيما بقى ميدان التحرير يؤيد عزله. المسافة بين حي الدقي بوسط الجيزة (غير البعيد عن ميدان التحرير) وبين موقف (عبود) حيث حافلات السفر نحو الشرقية، بدت بعيدة أكثر من الاعتياد، لأن فترة ما بعد المغرب في شهر رمضان تعد فترة الذروة، حيث يخرج القاهريون للشوارع والمقاهي والأعمال بكثافة. بينما تبدو المدينة بكامل زينتها الرمضانية.. فوانيس رمضان، سهرات في كل مكان وشعارات تملأ الجدران، تشير معظمها إلى تأييد ما عرف ب "ثورة 03 يونيو" التي أنهت حكم الرئيس المعزول بقرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية. وبالكاد تجد شعارات تدين هذا الفعل وتؤيد بقاء مرسي رئيساً لمصر لإتمام عهدته. الأمر في القاهرة يبدو محسوما، وهو ما يعزز فرضية أن محافظة الشرقية، خاصة حاضرتها التي يعد مرسي أحد أبنائها، لها رأي آخر قد يكون متعاطفا مع حكم جماعة "الإخوان المسلمون". الحديث في الحافلة الصغيرة التي نقلتنا نحو الشرقية بدا في الغالب لا يختلف كثيراً عن الهموم اليومية للمصريين منذ تاريخ الثالث من جويلية الجاري.. سائق الحافلة يتحدث عن قرار القيادي في جماعة الإخوان "عن تشكيل حكومة رابعة العدوية تحت إشرافه ورئاسة طاقمها من قبل الداعية صفوت حجازي"، ينفجر الركاب بالضحك، تعلق سيدة خمسينية بالمقولة الشهيرة "خليهم يتسلوا". بينما يعترض شاب ثلاثيني على العبارة مذكرا إياها أنها مقولة "مبارك" بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر 0102 أشهرا قبل قيام الثورة، حيث علق مبارك على تشكيل الأمان الشعبي من قبل حركة كفاية وغيرها من الحركات الثورية بالقول:«خليهم يتسلوا"، فلم يمض شهران على ذلك حتى أضحى المصريون يتسلون ويتندرون على سنوات حكمه الثلاثين!. يرد آخر أن هناك فارقا موضوعيا بين المقولتين، مؤكدا أن حكم الإخوان لن يعود أبدا. تشتعل مشادة كلامية عنيفة بين الرجل والشاب الثلاثيني الذي بدا مؤيدا لمرسي. يسأله السائق "هو انت شرقاوي"، قبل أن يضيف "حتى الشراقوى صوتوا لأحمد شفيق ضد مرسي في عقر داره"، تضيف السيدة الخمسينية "ما هو حتى شفيق شرقاوي.. احنا صوتنا لرجل دولة وليس لرجل جماعة، واديكم شفتم النتيجة لما الصعيد ايد مرسي حصل للبلد ايه". ولعل من ميزات الثورة المصرية أنها أضافت للمواد الأساسية التي يستهلكها المصريون، مادة جديدة تسمى "النقاش السياسي"، إذ لا يجتمع اثنان في مصر اليوم إلا وكانت السياسة ثالثتهما. في التاسعة ليلاً وصلنا الزقازيق في ذروة ديناميكيتها، وسط البلد يعج بالمركبات والمحلات التي تشرع أبوابها والمقاهي كاملة العدد، وزينة رمضان لا تخطئها العين أينما صوبت. على المحطة نصب تذكاري للزعيم المصري أحمد عرابي ممتطيا صهوة جواده، وهو ضابط تدرج في المناصب العسكرية حتى أصبح وزيرا، وينحدر من "قرية هرية رزنة" التابعة لمركز الزقازيق. ويعد من أشرس الشخصيات التي حاربت الحكم المستبد ممثلا فى الخديوى توفيق والتدخل الأجنبي، وقام بثورة وقف فيها ومن ورائه الجيش والشعب ليحققوا مطالبهم حتى أذعن الخديوي للمطالب العرابية وسقطت الوزارة، وانجرت الثورة العرابية للعصف بحكم الخديوي، وحارب الإحتلال الإنجليزى وظل يقاوم لولا خيانة بعض الضباط الشراكسة والبدو فى موقعة كفر الدوار، حتى دخل الجيش الإنجليزى البلاد وفرض الحماية على مصر، فنُفي عرابى إلى جزيرة مالطة ومعه قادة الثورة، وعاش هناك باقى حياته. وقصته موحية جداً لما يحدث اليوم بمصر، حيث يجد الكثير من المصريين علاقة تشابه بين ما حدث في الثالث من الشهر الجاري (عزل مرسي ) بالثورة العرابية، ليؤكدوا أن التاريخ يعيد نفسه مع القوات المسلحة المصرية من جديد. وعلى عكس القاهرة التي تشهد عددا من الاعتصامات السياسية مع أو ضد عزل محمد مرسي، فإن مدينة الرئيس مرسي بدت غير معنية بهذا الاصطفاف. حيث لا فعاليات سياسية، لا اعتصامات، ولم نلحظ وجود صور للرئيس المعزول أو شعارات تدين عزله. الزقازيق بدت وكأنها خارج النسيج المصري المولع بالسياسة وبأحداثها المتسارعة. مدينة تجارية بامتياز لا تعبأ كثيراً بحديث الشاشات والصالونات وحتى الاعتصامات! المقاهي تبث مسلسلات رمضان، والشوارع تعج بالحياة الطبيعية، لا يعكر صفوها حديث الاصطفاف السياسي. أسأل أحد المارة عن بيت "الرئيس محمد مرسي"، يجيبني بطريقة مصرية:«قصدك بيت المعزول.. هو في عمارات الجامعة مش بعيد من هنا"، نستقل سيارة أجرة ليوصلها السائق أمام بوابة البيت الذي ظل يسكنه مرسي حتى تاريخ ترشحه للرئاسة. عمارة عادية بالقرب من جامعة الزقازيق مخصصة غالبا لأساتذتها. لا وجود لأي حراسة أمنية. نسأل أحد الجيران (الشاب أحمد أباظة )، يؤكد لنا أن الحراسة انسحبت منذ تاريخ "الانقلاب العسكري"، أسأله هل تعتبره "انقلابا"؟، يجيب بثقة: "نعم انقلاب بكل معاني الكلمة، الرئيس مرسي منتخب ديمقراطيا ولا ينبغي أن يذهب إلا بالصندوق". وعن ذكرياته مع أسرة الرئيس، يؤكد أنها أسرة مصرية عادية، يشيد بالرئيس المعزول وأخلاقه وتديّنه وصلواته بالجامع. الأمر كذلك أيضاً بالسيدة نجلاء، عقيلة الرئيس التي وصفها ب "الست الطيبة"، لكنه يبدو أكثر حذرا في الحديث عن أبنائه.. يضيف:«أبناؤه ربنا يسامحهم اعتقدوا أنهم يمكن أن يصبحوا كأبناء مبارك، خاصة عبد الله وأسامة، بعد فوز والدهم بالرئاسة". أطلب منه التقاط صورة له، بإلحاح يرفض تماماً، مؤكدا أنه لا يريد أن يظهر في أي وسيلة إعلام، إنه يقول ما يقول ولا يريد جزءا ولا شكورا، حسب قوله. نسأله.. يوجد أي أحد من أسرة الرئيس بالبيت؟ يخبرنا أن أسرة الرئيس غادرت الزقازيق منذ انتخاب مرسي رئيساً لحزب الحرية والعدالة قبيل الانتخابات الرئاسية، حيث انتقلت إلى العيش في شقة مستأجرة بحي (التجمع الخامس) الذي تقطنه البرجوازية المصرية الجديدة بالقاهرة. وتفحصنا الشارع لنجد على حائط العمارة عبارة "إلى السجن إن شاء الله"، وتوقيع ثورة 03 يونيو. نسأل أحمد، يؤكد أنه ربما كتبها بعض الناشطين المحسوبين على فلول نظام مبارك! وعبارة أخرى تحاكي شعار جماعة الإخوان المسلمون مستبدلة الاسم ب«جماعة الإخوان الكذابون". ومفردة "أعدوا" التي تتوسط السيفين في الشعار بعبارة "اكذبوا"! نستكشف رأي أحمد حول فترة حكم مرسي، يؤكد لنا أن العام الذي قضاه مرسي في الحكم لم يكن نموذجيا أو حتى بالحد الأدنى من الإنجاز، لكنه يجدد أنه يرفض تنحيته بهذه الطريقة التي قال عنها "انقلابية". بوسط المدينة قصدنا "قصر الشلال" للاستراحة (مقهى ومطعم) يقدم وجبات ومشروبات رمضانية مصحوبة بأغاني التراث الصوفي، روائح الشيشة تعطر المكان، وشبان يتبادلون أداء الإنشاد والأغاني. طاولات تنتشر هنا وهناك وحديث عن المسلسلات وعن السياسة. حدثنا محمود الفولي، الشاب العشريني، عن تصويته لأحمد شفيق المرشح السابق للرئاسة، رغم أن شارعاً واحداً يفصل بيته عن بيت محمد مرسي الذي درّسه أيضاً في الجامعة. يقول: رغم كل ما كان يقال عن شفيق فقد كان مرشحي المفضل في الجولة الثانية، بعد أن خرج حمدين صباحي من السباق، والذي منحته ثقتي في الدور الأول. ويبرر ذلك بالقول.. مرسي لا يملك تجربة في إدارة الدولة أو في أي جهاز حكومي، فضلا عن أن خلفه "جماعة" تاريخها السياسي لا يدعو للتفاؤل.. أما أحمد شفيق فهو رجل دولة من الطراز الرفيع، تقلد مناصب وزارية ولديه تجربة رائدة في مجال الطيران المدني، وكذلك في المؤسسة العسكرية، حيث كان جنرالا في سلاح الطيران وهو أحد أبطال حرب أكتوبر ويتمتع بوطنية، في حين مرسي لا يمتلك ذلك الرصيد العملي والبطولي، حسب زعمه. يتدخل إسلام متهما شفيق بأنه من فلول النظام السابق"، يرد الفولي: لا تنس أن شفيق كان سيأتي في ظل نظام ثورة ويداه مكبلتان بالحراب الثوري في الشارع، فضلا عن أنه لا يملك لا حزبا ولا جماعة سياسية، وبالتالي كان سيعمل في ظروف مختلفة ولا يمكنه مجاملة عناصر النظام السابق.! نسأل "إسلام" عن الانتخابات السابقة، فيؤكد أنه صوت لحمدين صباحي في الدور الأول وقاطع الانتخابات في الجولة الثانية، لأنه لم يجد مرشحا ثوريا رغم أنه تمنى فوز مرسي على شفيق، نزولا عند نظرية "عصر الليمون" التي غالبا ما ترددت أثناء الانتخابات، والتي تعني اختيار الأقل سوءًا!. أسألهما إن كانا نادمين على عزل أول رئيس مصري من الزقازيق (مدينتهما)، يضحكان قبل أن يستطرد إسلام قائلا: لا بالعكس فالزقازيق والشرقية عموما قدمت لمصر ما هو أهم من رئيس فشل في إنجاز شيء.. فهي بلد البطل أحمد عرابي، والاقتصادي الكبير طلعت حرب، والفنان عبد الحليم حافظ، والكاتب يوسف ادريس، والشاعر صلاح عبد الصبور، وعالم الفضاء العالمي فاروق الباز، والسياسي المحنك أسامة الباز، والفنان الكبير أحمد زكي. وهنا يتدخل محمود ليضيف ضاحكا.. واللاعب عماد متعب ورشدي أباظة. يضحك الجميع وينتقل الحديث إلى الفن والأدب وأعلامه في مدينة الزقازيق. يسدل الليل ستائره على غفلة من الزمن، فيسعى الجميع لتناول السحور في مدينة لا يبدو أنها تركن للهدوء أوالنوم. أودعهما بسؤال عن إمكانية لقاء أحد أفراد عائلة مرسي الكبيرة. يرد إسلام أن اغلبهم انتقل إلى القاهرة بعد ثورة الثلاثين من جوان. أسأله مجددا إن كانت ثورة فعلا أم انقلاب عسكري. يبتسم ويرد بطريقة مصرية ذكية: هو حضرتك شايفها إيه؟! بينما يسألني محمود بذات الطريقة.. وهو اللي جرى في الجزائر في التسعينيات كان إيه؟ ثورة ولاّ انقلاب؟! أرد عليه بذات طريقة إسلام: هو حضرتك شايفه ايه؟!.