عدو الديكتاتوريات صديق الحرية يعتبر الكاتب الكبير ماريو فارقاس ليوصا من أبرز الوجوه الأدبية الروائية في أمريكا اللاتنية، فهو روائي لاتينو- أمريكي وبالتحديد من البيرو Peru قبل فوزه هذا العام بجائزة نوبل كان اسمه يطرح في كلّ مناسبة تذكر الجائزة لأنّه يمثّل إحدى القامات الإبداعية التي تزخر بها أمريكا اللاّتينية في مجال السرديات فلا يذكر اسمه اليوم إلاّ مقرونا بغارسيا ماركيز، وكارلوس فوينتس، وأونيتي ، وصاباتير، وأكتافيو باث وخورخي لويسر بورخيس... وغيرهم من عمالقة الفنّ السردي في القارة الجديدة. إنّ صوت ماريو فارقاس ليوصا اليوم من الأصوات المسموعة والمقروءة والمعبرة عن الضمير الإنساني المصاب بالحرمان من العدالة الاجتماعية والمهمّش في زوايا النسيان، والمسحوق بآلة العولمة المهددة لكل الكيانات الساعية على وجه الأرض إن الكاتب ماريو فارقاس ليوصا هو مبدع متعدد المواهب والنتاج ، فهو بالإضافة لكونه روائيا من الطراز الأول فهو كاتب مسرحي بامتياز، ومؤلف للعديد من القصص القصيرة والمقالات الأدبية والنقدية الرائدة ، والمعروف بالمساهمة بآرائه النقدية والجمالية ، مع التميز أيضا في كتابة السير وفي السياسة. عمل فارقاس ليوصا طوال سنوات في الصحافة المكتوبة والمسموعة، ومارس مهنة تدريس الأدب في الجامعات العالمية وانتهى إلى أن صار رئيسا للجمعية الدولية للكُتّاب PEN, وهي الجمعية التي أنشئت بلندن عام 1921 والتي كان من أهدافها تفعيل وتوطيد العلاقات الثقافية بين رجالات الأدب من مختلف أنحاء العالم من أجل غاية واحده هي: خدمة الأدب والرقيّ به إلى مستوى تبادل الأفكار وحرية التعبير. هذا المبدأ الأدبي العالمي مكّن الكاتب "البيرفي " وأمثاله من إيصال صوتهم إلى مختبرات السياسة العالمية وكذا احتجاجاتهم على كلّ أنواع القمع لحرية الرّأي والتعبير والوقوف إلى جانب الكتاب المهدّدين من طرف الأنظمة الشمولية القمعية والدكتاتوريات المقيتة ، وكذا العنصرية والتعصب الديني والعرقي ... إن الكاتب ماريو فارقاس ليوصا هو اليوم من أكثر الأصوات الأدبية شهرة في العالم ومن أبرز القامات الأدبية اللاتينو- أمريكية المعروفة عالميا " سواء كمحرر أدبي أو أستاذ أو ناقد أو كاتب ذي حسّ شاعري عميق المدلول اللغوي ، وكعارف وخبير بالحوار المسرحي الهادف ، وروائي متمرس في السرديات. إن فارقاس ليوصا هو خلاصة أبرز أحياء البيرو السابقين له والمعاصرين له والمتناهي عنهم جميعا مثلما يؤكد ناقد البيرو خوسي لويس مارين في كتابه " سرديات ماريو فارقاس ليوصا" . في حين يعتبره الكاتب والناقد خوسي ميقال أوفيادو بمثابة " المعادل الموضوعي لذاك البريق والتوهج الذي يميز السرديات اللاتينو-أمريكية اليوم". أما ناشره الإسباني الروائي كارلوس برّال فإنّه يرى فيه أحد العمالقة الكلاسكيين الأحياء ء والظاهرة الغريبة والاستثنائية لشخصية شعبية وعالمية " وبالموازاة مع ذلك يعرفه مترجمه إلى الفرنسية الكاتب ذو الأصل الجزائري ألبير بن سوسان Albert Bensoussan :"بأنّه كاتب أصيل ومجنون الكتابة وأحد الهامشيين ...من عباقرة القلم وأحد المفوهين الممتازين سواء في الخطاب السياسي أو الأدبي أو في حديثه عن قارته أمريكا اللاّتينية أو في برامج سياسية أو عن الديمقراطية التحرّرية أو المجتمع الحرّ. فهو الخطيب والكاتب الذي يتحرّى كينونة الكتابة ... فهذا الرجل القلم- هو الناطق ، لذا يتوجبّ قراءة ما يكتب وسماع ما يقول ؛ إنّه يمثل اليوم ما يمكن أن يتصوره الإنسان عن مغزى الكاتب والكتابة ، فهو يمثل الأمل لكلّ أولئك الذين يؤمنون بأن الأدب له مهمّة هي انقاد الإنسان في هذا العالم". في أعماله الأدبية لا يضيع منه إطلاقا التماس مع الواقع, فصوره الجمالية والبلاغية والسحرية والوهمية تمثل الحقائق التي نجدها متجذّرة في أعمق أعماق إنجازاته الأدبية حيث نجد وطنه البيرو وأمريكا اللاتينية وعالمه الإبداعي موطن الجميع وذلك من خلال لغته وموضوعاته وفضاءاته وتقنياته السردية. - أعماله الروائية : كما سبق وأن ذكرنا فإن عالم فارقاس ليوصا الروائي اليوم هو من أخصب المنتوج الإبداعي بالبيرو, فهو يشكل بمفرده محصّلة تاريخية وفنية تستظهر حياة البيرو وتاريخه الطويل بمختلف عوالمه السحرية والواقعية، فمجمل أعماله الإبداعية تمثل بجدارة واستحقاق ذاكرة شعب بأسره ، بالإضافة إلى احتوائها على كل خصوصيات الإنسان المعاصر في مواجهته للإشكالية التي يطرحها المجتمع الحداثي المفعم بالتناقضات والغرائبية. إن فارقاس ليوصا المتصدّر لعالم الرواية العالمية اليوم كان قد ظهر إلى الوجود الإبداعي عام 1952 وهو لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره يخرج على القرّاء بعمل مسرحي موسوم "بهروب الإنكا" Huida del Enca إلا أن وقع هذا العمل الإبداعي المبكّر لم يتجاوز حدود المحلية الضيّقة لكنّه مع ذلك أشّر لمعالم تعد بميلاد أديب ستغطي شهرته في يوم ما قارة أمريكا اللاّتينية , وبالفعل حدث ذلك بعد سنوات من التجريب بحيث صار اليوم يمثل أحد الخطوط الأمامية البارزة في المسار الروائي الأمريكو-لاتيني. لقد بدأ مساره من مدينة بالبيرو معروفة باسم "أريكيبا" Arequipa "أين ولد خورخي ماريو بيدرو فارقاس ليوصا Gorge Mario Pedro Vargas LLosa في 28 مارس من عام 1935وبعد هذا التاريخ بشهرين انفرط عقد الزواج بين والديه وكان عليه أن يقضي العشر سنوات الأولى من حياته رفقة والدته بمدينة " كوتشابامبا" Cochabomba ببوليفيا أين كان جدّه لأمّه يمارس مهمة دبلوماسية كقنصل هناك. لقد عرف في هذه السنوات سعادة غامرة إلاّ أنّها لم تترك أثرا في مواهبه الإبداعية فيما بعد ، وفي عام 1945 انتقل إلى البيرو وقضى هناك سنه في معهد "سالسيانو" El Colegio Salisiano " ويذكر من بين ما علق بذهنه في ذلك المعهد " أن رفاقه - في ذلك المعهد -كانوا يكبرونه سنّا وهو ما خلق تباينا بينه وبينهم, فيقول: لقد كنت طفلا في العاشرة من عمري, أما رفاقي فهم أبناء الثالثة عشر والرابعة عشر. لقد كانت سنه رهيبة بالنسبة لي..". في عام1946 تصالح والداه وألحقاه بهما إلى مدينة ليما Lima عاصمة البيرو وفور التحاقه بهما باشر دراسته في إحدى مدارس " ليما" التي يشرف عليها رجال الدين، وعبر هذا اللقاء غير الحميمي الذي صدم حياة الشاب اليافع الذي درج على التحرر من القيود والتمرد على التقاليد كانت نتيجته ميلاد ما يشبه العداوة الأبدية بينه وبين أي نوع من أنواع العقائد أو المذاهب وهو ما جعل تلك السنوات تظهر فيها على سلوكات الشاب ما ينذر بالتصادم في الميزاج بين الأب وابنه إلى أن تطورت هذه العداوة والجفاء حتى بلغت ذروتها حين أقدم الأب على إرساله إلى المعهد العسكري المعروف باسم : "لوثيانو برادو" Luciano Prado عام 1950 فيذكر فارقاس ليوصا هذا الحدث المأسوي في حياته قائلا: " لقد أرسلني والدي هناك... لقد كنت على قناعة أن والدي قد مات بعد أن اكتشفت وجوده ، لم تكن توجد أيّ وسيلة للتّجاوب بيننا . كنّا على خلاف حادّ طيلة السنوات التي عشناها معا كان هناك عدم ثقة ما بيننا "لقد كان للسنتين اللتين قضّاهما في ذلك المعهد العسكري الأثر الكبير على مستقبله وهو العاشق للحرية ، فهناك سيكتشف عالما جديدا في ذلك المعهد الذي يضم مختلف شرائح الشباب من مثل القادمين من الأرياف والجبال، إلى الطاّئشين من أحياء المدن الكبرى، ومن الفقراء إلى الأغنياء، هناك اكتشف فارقاس ليوصا كما يقول عوالم العنف ، والألم ، والصّداقات الحميمية ، والنظام الداخلي بقوانينه وحدوده ، فإلى حدّ ما ، تلّمس ما يشبه حياة بلده البيرو المتعدد الطبقات والأعراق والمستوى المعيشي وهو الشاب البرجوازي الذي عاش بعيدا عن هذه المفارقات ولم يكن يعرف أن البيرو بهذا التّنوع والتمايز المخلّ فيذكر أن مروره بمعهد ليونثيوبرادو leoncio prado ببنيته المجتمعية هو فرصته لاكتشاف الهنود ، وسكان الأدغال ، وسكان الجبال ومختلف الطبقات الاجتماعيّة؛ فكان المعهد بالنسبة لي كما يقول بمثابة المرآة العاكسة لحقيقة مجتمع لا محالة أوسع وأرحب وأكثر مفارقة وتعقيدا ، وهو في آخر الأمر عبارة عن واقع معبّر عن خصوصيات مجتمع البيرو إلى حدّ ما. لم ينه فارقاس ليوصا دراسته في ذلك المعهد ففي عطلة ديسمبر عام 1951 التحق كمحرر صحفي في جريدة بليما تسمّى "الأخبار“ la cronica " وواصل آخر سنة من تعليمه في معهد سان ميقال San Miguel أين نظّم فارقاس ليوصا في ذلك المعهد أول إضراب ضد مدير المعهد والذي سيكون فيما بعد موضوع قصّته الموسومة ب )Los jefes ( "القيادات". إنّها عبارة عن مجموعة قصص كتبها فارقاس ليوصا ما بين السادسة والسابعة عشر من عمره ونشرت ببرشلونة عام 1959 في دار النشر "روكاس" )rocas ( و نال بها في إسبانيا جائزة "ليوبولدو آلاص"Leopoldo Alas لكن الملفت للانتباه هو تنكر فارقاس ليوصا لهذا العمل الإبداعي الذي اعتبره إنجازا رديئا من حيث الصياغة الفنّية فيقول عنه :" أعتقد أنه كان عملا رديئا جدا ، إنّه كتاب لا يعجبني ، يبدو لي أنّه جدّ مقنع ومراهق " . واصل حياته في ليما يكسب قوت يومه من مردود العمود الذي كان يكتبه في صحيفة "la Industria " الصناعة" وفي الوقت ذاته كان منكبا على كتابة عمله المسرحي "هروب الإنكا "la Huida del Inca الذي كانت شهرته لم تتجاوز حدود البيرو كما سبق وأن ذكرنا ، آنذاك اكتشف أن موهبته الحقيقية تكمن في الممارسة السردية فعاد إلى العاصمة وانخرط في سلك الدراسة الجامعية بجامعة "سان ماركوس "(San Marcos ) مواصلا تخصصه في الآداب، وبعدها التحق بكلية الحقوق ثم تزوج وهو في التاسعة عشر من عمره من خوليا أوركيدي julia Urquidi واجتاز مرحلة صعبة أجبرته أن يمارس أكثر من سبع وظائف من بينها وظيفة مشرف على المقابر وكان دخله هزيلا لا يفي بمتطلبات السجائر وثمن التنقلات ، ومن بين هذه الوظائف الغريبة واحدة ككاتب لمؤرخ كان تخصصه جمع الأساطير من حوليات تاريخ غزو البيرو والأخرى في الإذاعة كجامع للأخبار المنشورة في الصحف وتقديمها للمذيع وهي الوظيفة التي تجعله يدخل ويخرج من الإذاعة فقط ؛أي يأخذ المادّة و يضبطها بحسب الطلب ثم يعيدها، ووظيفة أخرى في مكتبة النادي الوطني التي تمثل رمز الطبقية البيروفية فيذكر أن هذه المكتبة تحتوي على مجموعة هائلة من الروايات الخليعة والبوليسية ، وكذا مجموعة هائلة من المجلات فيقول وهو في معرض استرجاع ذكرياته :"ويجب أن أعترف بالجميل لتلك الفرصة التي مكّنتني من قراءة سلسلة أساتذة الحبّ )les maitres de d'amour ( التي نشرها أبو ليتار Apollinaire حيث ضمت أرتينو Aretino وصاد Saade ورستيف Restif de la Bretonne وغيرهم ، ووظيفة أخرى تتمثل في كتابة مقالات لصحيفة التجارة )el Comercio ( وكذا لمجلة الثقافة البيروفية )Cultura Peruana ( أما الوظيفة السابعة والمثيرة والتي مكنني من الحصول عليها، كما يقول ، أحد الأساتذة الجامعيين فهي الوظيفة الأكثر غرائبية ؛ فهي مشرف على " المقبرة الكولونيالية " بمدينة ليما عاصمة البيرو ، وكان عمله في هذه المقبرة التي اندثرت معالمها وبهتت الحروف المكتوبة على شواهد قبورها ، هو الذهاب يوميا ومحاولة فك رموز تلك الأسماء التي اندثرت بعض حروفها وتسجيلها في بطاقات حتى يمكن التعرف على أسماء الموتى المقبورين هناك وتاريخ وفاتهم وكان الدخل من هذه الوظيفة يتوقف على عدد البطاقات التي يمكن من خلالها تحديد أسماء الموتى وتاريخ وفاتهم.