هي فعلا منارات مضيئة في درب الظلام المطبق من كل الجهات، هم أولئك الذين تمردوا على ما فرض عليهم من عتم دامس يعيشون فيه طوال أيام الحياة، لينيروا الطريق لسواهم من بني البشر، وليقدموا إليهم، من هناك، من منطقتهم المعتمة ضيقة المساحة واسعة الامتداد، ما جادت به محاولات بذلوها للنظر من زاويتهم غير المألوفة لسواهم من أبناء جلدتهم وإخوانهم. الدكتور عبد الحميد يونس رائد الدراسات الفلكلورية والأدب الشعبي في العالم العربي كله، رجل من طراز نادر وعيار ثقيل، له في العلم والثقاقة العربية قامة مديدة وقدم راسخة، عالم حقق الإشعاع للعرب، وساهم في إثبات ثراء الحضارة العربية الإسلامية التي نحتت واقعا إنسانيا لم يتوفر خارج أطرها، رجل تحدى فقد البصر بكل صدق.. وُلد في 4 فيفري 1910 في منطقة السيدة زينب بالقاهرة، فقد عبد الحميد يونس بصره في سن السادسة عشرة، حصل على شهادة الباكالوريا عام 1932، فأراد الالتحاق بكلية الآداب، غير أنه واجه صعوبات ورُفض بسبب إعاقته ثم قدم أوراقه مرة أخرى إلى عميد الأدب العربي د. طه حسين والذي كان عميدا لكلية الآداب قسم لغة عربية في ذلك الوقت، وهو من ساعده بالالتحاق بنفس القسم بالكلية إلى أن حصل على الليسانس عام 1940. ظهرت موهبة د. عبد الحميد يونس الأدبية في الكتابة، مع تصاعد الأحداث السياسية عام 1919، وخلال دراسته الجامعية عمل صحفيا بمجلتي "الرسالة" و«المجلة"، وبعد تخرجه أسس مجلة "الراوي". واصل يونس دراسته الجامعية فحصل على الماجسيتر عن رسالة بعنوان "سيرة الظاهر بيبرس"، سنة 1948. ونظرا لاهتمامه بالكتابة عن الفولكلور المصري والعربي، كانت رسالته والتي حصل بها على الدكتوراه وعلى إثرها أصبح أستاذا للأدب الشعبي في عام 1958. ومن أهم أنشطته نذكر أنه عمل بالصحافة حيث كتب في المجلة الجديدة، مجلة المصري، جريدة البلاغ اليومية، جريدة المساء. وقد أصدر مجلة "الراوي الجديد" وكان رئيسا لتحريرها عام 1935. كان مدرسا مساعدا بكلية الآداب، جامعة القاهرة. تدرج في سلك هيئة التدريس حتى وصل إلى درجة أستاذ كرسي الأدب الشعبي بكلية الآداب، جامعة القاهرة. وقد رأس تحرير مجلة الفنون الشعبية 1964. وانتدب للتدريس في معهد السينما. وعين رئيسا لمجلس إدارة مركز الفنون ومشرفا على مركز دراسات الفنون الشعبية، أكتوبر 1978، ولعل أهم معلومات تتصل بحياة هذا العالم الكفيف أنه أضاف للثقافة العربية الإسلامية والعالمية أيضا أربعين مؤلفا تتناول الفولكلور المصري والعربي، إلى جانب موسوعة أدبية تمتد على 700 صفحة تمت ترجمتها إلى الانجليزية، والفرنسية، والإسبانية، واليابانية... وأصبحت موضوعا دراسيا لأقسام الأدب في الجامعات الهندية، والأمريكية، والسويدية، وقد ساهم الدكتور عبد الحميد يونس بإنشاء العديد من المراكز الأدبية في كثير من الدول العربية، وتقديرا لدوره تم انتخابه رئيسا للمجلس العربي للأدب الشعبي، يعود الفضل إليه في تأسيس مركز دراسات الفنون الشعبية الذي يقوم بالعمل الميداني والتسجيلي والتصنيف والدراسة. وهو أول من دعا وأنشأ مجلة الفنون الشعبية ورأس تحريرها، ودعا ونفذ "السجل الثقافي" الذي يجمع وجوه النشاط في مصر، وكان من أوائل الذين اقترحوا تحويل الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية إلى منظمة للتربية والثقافة والعلوم في إطار الجامعة العربية، والمهم هو أنه ارتبط ارتباطا وثيقا بالصحافة، فقد أسهم مع المرحوم سلامة موسى في تحرير "المجلة الجديدة" و«مجلة المصري"، ولم يقتصر عمله على المقال أو الترجمة أو القصة، ولكنه كان يشرف على بعض الأبواب الرئيسية في هاتين المجلتين. ونشر الكثير من الفصول والدراسات في عدد من المجلات والصحف وخاصة في مجلة الكفيف العربي، كما أسهم في إنشاء المركز النموذجي للمكفوفين وجمعية النور والأمل للكفيفات. وقد وقع تكريمه من قبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومن الرئيس أنور السادات، كما منح الدكتوراه الفخرية، وحين غيب الردى المحتوم الدكتور عبد الحميد يونس سنة 1989. عجز الموت أن يجعلنا ننساه، فقد بقيت آثاره خالدة دالة عليه، فمن أشهر كتب الدكتور يونس "الأزهر، الأسس الفنية للنقد الأدبي، خيال الظل، القاهرة، فلسفة الجمال،عالم الغد، القاهرة، رحلة في عالم النور.