سلطت الأفلام القصيرة الخمسة المعروضة المتنافسة بمهرجان وهران للفيلم العربي، الأسبوع الماضي، الضوء على ذات الإنسان العربي، وتحولاتها السريعة في خضم متغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية، أثرت سلبا على وجوده في المجموعة. المرأة والتحرش، الطفل وحقوقه، الحرقة هي العناوين الكبرى لهذه الفئة. أن يكون كلب هو بطل الفيلم فهو المتعة في حد ذاتها خاصة عندما يوفق المخرج في اصطياد اللقطات المناسبة لدواعي السيناريو المراد من خلاله رواية حالة اجتماعية وشعورية. الفيلم التونسي الأول بعنون "بوبي" لمخرجه مهدي برصاوي، الذي قرر أن يروي التحولات السريعة في تونس عن طريق حكاية لطيفة وخفيفة الظل، يقودنا إليها كلب متشرد يبحث عن مأوى وبعض الطعام. حوله يعيش طفل مع والدته ووالده المحافظ، يتخذ من الحيوان الأليف صديقا له، ويقرر الاعتناء به رغم رفض الأب لفكرة وجود "شيء نجس" ببيته. تتوطد العلاقة بين الطفل والحيوان، فيما يزداد رفض الأب الذي اختار برصاوي أن لا يظهر وجهه على مدار دقائق العمل، فكان حضوره ثقيلا قاهرا عبارة عن سلطة فوقية تقمع أهل البيت. بكثير من الذكاء مرر إلينا برصاوي واقع الطفولة داخل أسرها، وكذلك الأمهات اللائي لا تقوى على مواجهة سلطة الذكر. ومن خلال مشهد الكلب وهو ينبح ليلا، اكتشفنا العيون الخفية التي تراقب الآخر، عيون متطرفة تقرر أن تسكت صوت الحيوان بطلقة رصاص لا رحمة فيها. وهي الرصاصة التي ستكون الدافع لقبول "بوبي" أخيرا في بيت صديقه الصغير، ويظهر وجه الأب أيضا في آخر دقيقة بعد أن تصالح مع العالم المحيط به وتحلى بقلب عطوف. العيش في بادية بعيدة عن المدينة، ووسط هدوء لا يبدده سوى صوت الريح وبعض محركات المركبات المستعجلة المارة على طريق سريع نحو النجف، هو بعض ما يسلي فتاة عراقية في يومياتها كراعية غنم. روتين قاهر، من الصباح إلى المساء، روتها لنا الفتاة دون الاستعانة بالكلمات، هكذا اختار مخرج "قطن" (19د) وكاتب السيناريو لؤي فاضل أن تكون طريقته في السرد. فهو الآخر استسلم لسحر المنطقة، لحوافر الغنم وهي تقطع الأميال بحثا عن عشب يؤكل. تدخل كاميرا فاضل في ذات الفتاة، تسترق اللمحة من عينها، إلى أين تنظر، ماذا تخفي رموشها الطويلة السوداء. وبحركة كاميرا بطيئة، بلقطات قريبة ثم بانورامية، تبدأ الفتاة في "التعري" في مصارحة نفسها برغباتها الداخلية، بكونها امراة تتحرك بداخلها أنثى وتكبر وسط هذا الامتداد، وهذه المسؤولية. في نفس الوقت تابعنا عائلة أخرى ركبت عربتها سفرا وهي تحمل على سقفها نعش فقيدها. وبين تبكي فتاة أخرى فقيدها، يتحرر جسد الفتاة الراعية من عقدها، تشعر باللذة المحبوسة من زمان. في غمرة السفر يرفع الريح القوي غطاء النعش وتطير منه قطع قطن سرعان ما تطير عند الراعية التي ستستعين به لمسح بقايا دم رغبتها. المخرج المصري روماني سعد، عرفنا ب "سلمى" فتاة جميلة تلفت إليها الأنظار، تحب الفن وتحلم بالحرية دائما. في يوم خروجها إلى مظاهرة شعبية تطالب بحقوق المرأة في مصر، تتعرض إلى تحرش جنسي من قبل شاب من وسط اجتماعي وفكري عادي، أي لا هو متطرف ولا متدين ولا منفتح، لكن محمل بعبء أحكام مسبقة تجاه المرأة، بحيث ينظر إليها على أنها مجرد جسد، وأنه بمجرد المطالبة بالحرية فهي تعرض نفسها للاستغلال والاستمتاع. الاعتداء الذي تعرضت إليه "سلمى" أثار ثورة والدتها التي فضلت أن لن تخرج مجددا، أو على الأقل أن تغير من طريقة لبسها، وعلى غير العادة يقف الأب في صف ابنته، وبدل توبيخها يعطيها قدرا من المال يكفيها للتنقل بسيارة أجرة بدل النقل العمومي. وهو الموقف الذي اتخذه المخرج تجاه ظاهرة استفحلت في مصر في السنوات الأخيرة، خاصة مع أحداث ""الثورة المصرية"، ورغم أنه لم يشر إلى حادثة الاعتداء على سيدة متظاهرة انتزع حجابها ورداؤها كاملا، وتناقلته وسائل الإعلام، إلا أنه تناول القضية من جانب الحالة النفسية للمتحرش عليه والمتحرش، فصور لنا الفتاة في حقل أخضر تلاحق فراشاتها، بينما الثاني يجري في صحراء بلا نهاية. حضرت دولة قطر في المهرجان من خلال فيلم المخرج رياض مقدسي وعمله "8 بليار"، الذي يتطرق إلى موضوع الأزواج الجدد في عصرنا الحديث، وكيف تغير هدف الرجل في الارتباط بينما احتفظت المرأة برغبتها في الأمومة. 17 دقيقة بدت طويلة نوعا، اعتمد فيها المخرج على الحوار بين الشخصيتين، باللغة الإنجليزية تحديدا، كون البطلين يعيشان بقطر، و يعملان بها، ولهما طموحات مهنية كثيرة، لكن الحب جمعهما فقررا الزواج، والعيش حياة مثالية. إلا أن "كاسي دولان" بعد ثلاث سنوات من الارتباط تشعر بالفراغ، وتحاول أن تقنع زوجها "فرانسيس شولر" بأهمية أن يدخل طفل حياتهما. صراع أفكار وقناعات تنتهي بفراق، يبقى الرجل "آدم" بلا أسرة يؤسس لطموحه الفردي، بينما تنجب هي طفلها وتواصل إنجاز أعمالها. يظل البحر يسحر "موسى" حتى في غمرة مشاكله العائلية والاجتماعية. الأمواج المتحركة بين الضفة والضفة الأخرى، تنقل إليه أخبار الحياة الهنيئة هناك، بعيدا عن أرضه. موسى شاب درس الإعلام الآلي، إلا أنه يشتغل في ورشة للنجارة، يعيش مع والدته المقعدة، يتكفل بأمورها كلها. في صمت شبه تام، يداعب الشاب أحلامه في الفرار من واقعه المرير، ينسج أياما مختلفة عن تلك التي جعلته يفقد والده بعد عملية اغتيال، وتصبح أمه طريحة فراش لا تقوى على أمورها الخاصة. في الليل عندما يخلد الناس للنوم، يزور موسى أصدقاءه عند شاطئ البحر، هناك يطلقون العنان لأشعارهم، أفكارهم تتصاعد مع دخان سيجارة مشاكسة، كل واحد منهم يحلم بالحرقة على طريقته، ييرون لبعضهم البعض ماذا سيفعلون لو وصلوا هناك. أما موسى فلا يقوى سوى على الصراخ في وجه "أسياد البحر" علهم يرحمون ضياعه. بين "الأم" و "الأرض الأم" يتوه الشاب ويتشتت فكره. يتضمن الفيلم مشاهد جميلة عرف المصور عبد الرحمن بن عروس زوايا تصويرها، معتمدا على جمال مدينة بجاية، وعلى ألوان الغروب وضوء ليلة مقمرة لا يعكرها سوى المنفى الداخلي الذي يقض مضجع موسى وأمثاله.