التطورات والأحداث الجارية في منطقتنا العربية، المتواصلة والمتنقلة من بلد الى آخر، وإذا كانت في مجملها تشكل عملية مخاض عسير، فإن نتائجها سوف تترك أثرها على القضية الفلسطينية، وسط كل ذلك يتوجب على مختلف القوى الفلسطينية البحث في وسائل تعزيز وتطوير وتنويع المقاومة ضد المحتلين، وضمان عدم توقفها، والانتباه من مخاطر تحويلها إلى شعارات استخدامية من هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي ومهما كانت النوايا فإن هذا المسلك يصب في مجرى محاولات ترويض المقاومة. إنه المسعى الإسرائيلي الأمريكي الذي رافق الثورة الفلسطينية المعاصرة بكل مراحلها ولازال مستمرا، عبر موجات محاولة التصفية العسكرية تارة، ومحاولة الاستيعاب السياسي تارة أخرى، لكن الوضع الفلسطيني قد نجح بفضل وحدته في إفشال أهدافها. لقد أفرزت المسيرة التحررية لشعب فلسطين الكثير من الدروس التي تم دفع ثمنها قوافل متعاقبة من الشهداء والأسرى، وعقود طويلة حافلة بالعذاب بأشكاله المختلفة، لكن المشكلة البارزة تمثلت في عدم الاستفادة من تلك الدروس أو من أهمها، في تلك الدروس ما تفرضه طبيعة الكيان الصهيوني من أشكال نضالية، إنها الطبيعة العدوانية المرتبطة بتكوينه ونشأته ووظيفته الاستعمارية، بالتالي كانت المقاومة بكل أشكالها بمثابة الخيار الإجباري لفصائل المقاومة الفلسطينية: للدفاع عن النفس وعن الشعب أولا وثانيا للدفاع عن حقوقه وثوابته التاريخية وعن المصالح الحيوية لشعوبنا التي باتت في موضع الخطر، بطبيعة الحال لا توجد مقاومة من أجل المقاومة، فشعب فلسطين أسوة بباقي شعوب المعمورة تواق للحرية ولممارسة حقه في الحياة، ولتحقيق تلك الأهداف الوطنية لابد من مراكمة الخطوات على طريق إحداث إزاحات في ميزان القوى، لقد تعرضت مسيرة المقاومة لعملية بتر وتقطيع أو تبريد لزخمها، وأحيانا محاولة الطعن بها، والتشويش على عملها تحت تبريرات متعددة، بالتأكيد لم تكن المقاومة الفلسطينية بمنأى عن التفاعل مع العوامل العربية والإقليمية، وإذ كان العامل العربي وواقعه في المرحلة الراهنة لم يعد يشكل رافعة للموقف السياسي الوطني والقومي المنسجم مع حقوق شعبنا أصبح يؤخذ من قبل بعض الأطراف لتبرير الطعن في المقاومة ولتبرير المواقف التي تحمل تراجعا عن البرنامج الوطني.. لكن ذلك لا يعني نفي التفاعل الموضوعي بين الحالة الفلسطينية والعوامل الأخرى وتحديدا العربية منها. باستخدامها من أجل الوصول إلى مرحلة المفاوضات مع دولة الاحتلال، وبهذا الصدد نسجل: أنه من حق القيادة الفلسطينية "استثمار" إنجازات أو حتى المناخات التي ولدتها المقاومة في مرحلة معينة من أجل تحقيق نقاط محددة في حلبة الصراع مع الاحتلال الاستعماري، أي السعي لتعزيز موقف بوجهة وطنية.. وليست إنهاء أو إلغاء المقاومة كممارسة وحق قد كفلته المواثيق الدولية، طالما لم يتم تحقيق أهدافها التحررية الوطنية. الذي حصل لخيار المقاومة أنه استخدم كجسر للوصول إلى المفاوضات وبدلا من أن يسير الخياران: المقاومة والمفاوضات متجاوران وعدم تعرية المفاوض الفلسطيني من عوامل مساندة، تم الشروع العملي والنظري بإحلال المفاوضات كطريق وحيد "لتحقيق الأهداف الوطنية بما في ذلك الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967" هكذا بقيت المفاوضات على مدار عقدين من الزمن منذ التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في 13/09/2013 إلى سبتمبر 2013 دون أن يتراجع العدو عن مواقفه، لأن ميزان القوى لصالحه، ربما تكون المفاوضات الدائرة الآن والمحاطة بالكتمان الإعلامي خير مثال على ما سبقها في العقدين الأخيرين، حيث أن دولة الاحتلال ترفض عبر هذه المفاوضات وخارجها: تحديد موقف واضح ومحدد تجاه قضية الحدود وتربط كل شيء بأولوية الاتفاق على الترتيبات الأمنية التي تريدها وتطالب أيضا بوجود عسكري دائم على طول نهر الأردن كمحاولة فرض حل انتقالي يقوم على ركيزة السكان والأمن، إضافة إلى أن أيا من الحكومات المتعاقبة لدولة الاحتلال لم تقر بالموافقة على موضوع الدولة الفلسطينية، وكما تشير المعطيات فإن الكتل الصهيونية السياسية المتداولة على السلطة لم يختلفوا على رفض: حق العودة، رفض الحديث عن القدس الشرقية، وعدم تفكيك الاستيطان..إلخ بعد ذلك على ماذا يفاوض الفريق الفلسطيني، فالأمر لا يرتبط بعنصر الكفاءة أو القدرة على إدارة جولات التفاوض أو بخلاصة التقييم الشخصي التاريخي النضالي لهذا أو ذاك..إنه حديث المعطيات والوقائع على الأرض التي يفرضها العدو ويحاول حشر المفاوضات في ممرات محددة، أما عوامل قوة المفاوض: كالمقاومة، والوحدة الوطنية وبلورة موقف موحد، وموقف عربي مبني على أساسه، نراها مفقودة. حتى الدعوات المتكررة للقيام بوقفة وطنية شاملة لتقييم الخيار السياسي وأدوات تحقيقه على مدار مسيرة التفاوض لم يستجب لها بالتالي بقي هذا الخيار وكل ما يتعلق به من مسؤولية الفريق الذي شق مجراه في الساحة الفلسطينية. الاتجاه الآخر الذي يحكم "قطاع غزة منذ عام 2007، لقد مارس المقاومة قولا وعملا طيلة فترة كاملة، لكنه ومنذ تربعه على كرسي السلطة والحكومة في غزة، استدار كليا وأعطى ظهره بالمعنى العملي للمقاومة، لكنه بقي يستعملها كمفردات ومصطلحات، وضجيج إعلامي في خطابه السياسي الذي قد يبدأ أو ينتهي مستخدما لغة المقاومة، في حين أنه وقع اتفاق تهدئة مع دولة الاحتلال لم يجرؤ من سبقه على إيراد بعض البنود في وصف المقاومة، بل أصبح يمنع ويقمع بسلاسة أية مجموعة فدائية تحاول القيام بنشاط عسكري ضد دولة الاحتلال، هذه النقلة لا يمكن اعتبارها خطوات تكتيكية لصالح خيار المقاومة كما يتحدث البعض. هنا نقصد التعاطي مع هذا المجال لدرجة تقترب من الاندماج به من حيث النتيجة، مقابل عدم الاتكاء على العامل الذاتي بتقويتة بل إهماله والمساهمة في إضعافه وأحيانا الاستقواء بحصيلة العلاقة مع الخارج على الحالة الوطنية مما يسمح بإثارة بعض التساؤلات ومنها: هل نكون والحالة هذه أمام سياسة وطنية مستقلة وصافية. لقد تحولت حكومة غزة إلى أشبه ما تكون حكومة للإخوان المسلمين على المستوى الإقليمي وما بعده، بالتالي أدارت ظهرها للعلاقة مع القوى الوطنية الإسلامية وأصبحت في هذا المناخ غير محتاجة للمصالحة الوطنية، لأن حركتها السياسية قد انتعشت عربيا وإقليميا لكن ضمن المجال الجوي للإخوان المسلمين بشكل رئيسي، بطبيعة الحال لم تكن هذه العلاقة مجانية بل لها مقابل بالمعنى السياسي ومنها تلك النقلة الواضحة في مواقف حركة حماس والتي وضع محورها خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي في الموقف الذي أعنله في مؤتمر العدالة والتنمية التركي الذي يتزعمه أردوغان في مطلع العام الماضي بالانحياز التام للموقف التركي القطري من الأزمة السورية، بعد ذلك ماذا كانت نتيجة هذا الاندماج في المواقف السياسية "كمثال مع إخوان مصر وتركيا وقطر كدور رئيسي" التي انطلقت من المصلحة الفئوية والحزبية على حساب المصلحة الوطنية العليا، ماذا حصل بعد المتغيرات التي أطاحت بحكومة الإخوان في مصر، ومن دفع الثمن ولازالت التداعيات التي يعاني منها سكان قطاع غزة مستمرة كارتداد لتلك السياسة. أما بالوجهة المقابلة، فلقد تعمقت المراهنة على خيار التسوية الأمريكية، وخلاصته: التعويل على الإدارة الأمريكية بأن تمارس ضغوطا جادة على دولة الاحتلال من أجل إجبارها على القبول بالدولة الفلسطينية في صيغتها المطروحة، طول عقدين من الزمن أيضا والحالة الفلسطينية لم تتزحزح قيد أنملة عن هذا الخيار وهذه المراهنة، في هذه المساحة الزمنية الطويلة استمر المفاوض الفلسطيني يشرح للإدارة الأمريكية وغيرها من الإدارات الغربية التي تتحرك بهذا الجانب عن العقبات تلو العقبات التي تضعها إسرائيل أمام إمكانية التوصل إلى تسوية على أمل أن يحصل شيء من الإدارة الأمريكية كالضغط على الحكومة الإسرائيلية في عنوان الاستيطان مثلا.. لكن ماذا كانت النتيجة بالأمس كما اليوم: الضغط متعدد الأشكال سياسيا، اقتصاديا وأمنيا..إلخ لكن على القيادة الفلسطينية من أجل القبول بالوقائع التي تفرضها إسرائيل ولازال المفاوض الفلسطيني يطلب النجدة ليس من شعبه بل من الإدارة الأمريكية ومن الحكومة البريطانية أو الفرنسية، وحقيقة الأمر أن البيت الأبيض وتلك الدول الأوروبية ليست باحتياج هذا الشرح، لأنهم على دراية بما تنوي عملة الحكومة الإسرائيلية بشكل مسبق قبل أن يعلم به المفاوض الفلسطيني. وقبل أن يراه نافذا على أرض الواقع، هكذا كان لسان حال المفاوض ولايزال كما يعلن: أن الخروج من مأزق المفاوضات هو اللجوء للمفاوضات عوضا عن الاعتماد على جميع المكونات الوطنية لشعب فلسطين ومواجهة التحديات بوحدة وطنية، برؤية سياسية موحدة بالاستناد على وثيقة الأسرى لرسم خارطة جديدة تكون المقاومة بكل أشكالها محورها الأساس..وتكون المهمة الملحة والدائمة للجميع هي مواجهة سياسة دولة الاحتلال ومن أجل فرض معادلات فلسطينية جديدة ومن يكون لديه شعب بهذا المستوى من الصمود وتحمل الأعباء لن يهزم.