لا تتجاوز فكرة ترجمة النصوص مسألة كونها إطلالة على معارف الآخرين بلغة مألوفة وبعيون لها خصوصيتها الثقافية، مما يسبب ارتباكًا لدى المتلقي ذي الثقافة المغايرة. هذا الارتباك يعد نقطة ارتكازية عند كثير من المترجمين واللغويين الذين يرجعون استحالة “تناسخ” النصوص إلى استحالة تطابق اللغات. الترجمة مصطلح يقتحم الحقل التقني بوصفه معبرًا للمفاهيم والأفكار اللامتناهية التي ينتجها هذا الحقل، ورغم ما نعانيه عربيًا في هذه الناحية، إلا أن المعاناة لا تقف عند هذه النقطة فقط. فالترجمة بمفهومها العام لا تقتصر على النصوص بوصفها رموزًا لغوية قابلة للنقل عبر الأبجديات وإنما تصل حتى للأفكار المجسدة فتنقلها من بيئة إلى بيئة وعبر وسائط مختلفة. في السياق نفسه، تقدم حكاية الترجمة التي نشطت في عصور النهضة العربية -والتي بلغت أوجها في عهد المأمون- درسًا مهمًا للتقنيين يثري بدوره عملية تعريب المشاريع الأجنبية أو تقليدها، حيث يكون التقليد اسمًا آخر للترجمة، تُستبدل فيه الرموز اللغوية بالخصائص والتقنيات والأفكار مع إضافة بصمات مميزة تقيها الوقوع في فخ الاستنساخ. حكاية الترجمة العربية تحمل في جوفها أنواعًا للترجمة لا تزال تمارس حتى اليوم وعلى نطاقات واسعة. لنقف على أنواع الترجمة الثلاث: ترجمة حرفية وهي ترجمة عبثية لا تنقل المعنى ولا تحقق غاية الترجمة ترجمة بالمفهوم، بحيث يعمد المترجم لقراءة صفحة ثم يترجمها حسب فهمه، وهنا إما أن يحدث خطأ نتيجة إساءة فهم للنص الأصلي وإما أن يضيف المترجم معلومات وأفكار من خلفيته المعرفية والثقافية انطلاقًا من فهمه للنص ترجمة جملة بجملة، فبعد أن تتم قراءة الجملة وفهمها تتم عملية الترجمة حسب المعنى وبالطبع تطورت الترجمة في تلك العصور لتمتزج بعملية التنقيح حيث تم تصحيح كثير من المعلومات والتصورات المغلوطة في النصوص المعدة للترجمة وهذا يرجع لكون كثير من المترجمين موسوعيين بالأصل. ومن النقاط الملفتة في هذا المجال هي كون كثير من العلوم والمعارف التي تمت ترجمتها تمت بسبب حاجة المسلمين في تلك العصور إلى المعرفة وهي حاجة كادت أن تصل ببعضهم لمشارف الموت والهلاك. انتهى درس التاريخ، كيف نستفيد منه في عالم التقنية؟ لدرس ينطوي على ملاحظات وخبرات قيمة نحتاج لفحصها وتأملها بدقة وهذه محاولة أولية لإيجاز النقاط التي لاحظتها ولا بد أن التاريخ يملك الكثير لقوله وبتفاصيل أكثر إدهاشًا. الغاية كانت غاية الترجمة خدمة الإنسان والمجتمع. وهذا واضح جدًا في التنقيح، حيث لم يكن الغرض مجرد نقل النص من بيئة إلى أخرى وإنما نقله لخدمة ورقي الإنسان. وهذا بالضبط ما يجب أن يفهمه التقني عندما يبدأ التفكير في تعريب أو تقليد المشاريع. هل العمل سيخدم الفئة المستهدفة؟ وهل هي بحاجة إليه أصلًا؟ مالذي سيضيفه المشروع المعرب أو المقلد للمشروع الأصلي؟ هل هما منفصلان تمامًا؟ وهل يستهدف كلٌ منهما فئة مختلفة؟ تعريب المشاريع لا يصح أن يجعل من نقل المحتوى والفكرة والخصائص بل وحتى التقنيات هدفًا أساسيا؛ بل يجب أن يركز على خدمة المجتمع والبشرية -أوالعرب الذين سينقل المشروع لبيئتهم- وفي هذه الحالة يجب مراعاة الفوارق البيئية والثقافية وحتى الذوقية بين الفئتين المستهدفة وبين ظروف نشوء المشروع الأول والمشروع المعرب كون هذه النقاط تعمل بفاعلية في نجاح الشاريع وفشلها. الوسيلة تملك الأنواع السابقة مزايا وعيوب عديدة، ورغم وضوحهما إلا أن الكثير من المشاريع المعرّبة ترتكب أخطاء الترجمة وتكررها دون انتباه لها ودون القدرة على الاستفادة من مزاياها. نستطيع تصنيف تعريب المشاريع أو تقليدها كالتالي: عملية التعريب التي تنقل كافة المشروع من لغة إلى أخرى كما هو بل تتمادى وتقلد حتى التصميم الخارجي مع فارق اتجاه الكتابة. وهنا نحن بإزاء خطأ يتعلق بالهدف من المشروع، تمامًا كما تفعل الترجمة الحرفية، فالنقل الحرفي لا يعكس المعنى وبناء مشروع جديد لا يختلف عن الآخر إلا في لغته، لا يحقق هدف المشروع الأصل ولا ينجح كمشروع مستقل تعريب حسب المفهوم، انتقائي ويعمل على إضافة أفكاره الخاصة بطريقة مميزة. المشكلة التي قد تظهر هنا قد تكون قانونية وتتعلق ببراءات الاختراع أو حقوق الملكية الفكرية كون بعض الأفكار مقتبسة وقد تتداخل مع أفكار المشروع الجديد بطريقة توهم التقني بأنه هو صاحب الفكرة بالكامل. وهي طريقة جيدة لإنشاء مشروع ناجح يستلهم أفكاره من الآخرين بشرط تفادي المشاكل الأخلاقية والقانونية تعريب خاصية خاصية، لا تتم إلا بالتنقيح بحيث تتم دراسة كل الفوارق والأخذ بعين الاعتبار فيما يجب إضافته أو حذفه وهنا تتضح بصمة التقني الناجح القادر على إدراك علامات النجاح والفشل الموسوعية وهي عملية مفقودة لدينا بالذات في الحقل التقني مما يجعل التقنية منقطعة الصلة عن الحياة ويزيد بطريقة سلبية من اغتراب التقنيين وغرابتهم. وكما أعتقد، فإن أول خطوات النهوض بالتقنية عربيًا هي مزج التقنية بالعلوم والاستفادة منها سواء ي العملية التعليمية أو في التطبيق العملي. لذا لا بد للتقني من ألا ينحصر داخل عالم الثنائيات الصعبة (الصفر والواحد) وأن يبقى على اطلاع دائم بكافة العلوم والمعارف والثقافات بما يؤهله لبناء تطبيقات قوية ومؤثرة قادرة على إفادة البشرية وتحسين شؤونها. البقاء يروي لنا التاريخ أيضًا بأن الذهب كان أجر المترجمين في تلك العصور، وأن الواحد منهم كان يحصل على وزن كتابه ذهبًا؛ مما حدا بكثير من ضعيفي الإرادة إلى مضاعفة حجم ما يترجموه. لكن الذي بقي لنا -والذي عادت أوروبا لترجمته فيما بعد في عصور النهضة- هو ما ترجم بحس أخلاقي ومعرفي عالي وهذا يعني الكثير للتقني الناجح؛ إذ ينبغي دائمًا النظر إلى أجور العمل وتكلفة المشروع مقارنةً بقيمته الفعلية. أخيرًا، مثال يستحق الترجمة manilla مثال قابل للترجمة ويستحقها بجدارة، فقد أثبت جدواه ونجاحه من جهة الفكرة والتطبيق وهو يستحق التعريب والتقليد كونه يخدم الإنسان العربي على الأقل لعدم وجود خدمة مماثلة. مانيللا متاح كتطبيق ويب وتطبيق للهواتف الذكية، فكرته قائمة على إدارة الفواتير المختلفة للعميل وسدادها بالطرق التي يفضلها. مشكلة التطبيق أنه يعمل فقط مع الخدمات الأمريكية وتعريبه يعني جعله قابلًا للعمل على خدماتنا وإفادة عملائنا. أفكار كهذه تعكس كيف يكون التعريب فعالًا ومجديًا وتبعده عن شبح الاستنساخ المقيت.