يعد الملتقى الدولي الذي نظمه مخبر الدراسات اللغوية والأدبية في الجزائر، التابع لجامعة عبد الحميد بن باديس بمستغانم، أيام ال 24، 25، 26 نوفمبر 2013، من الملتقيات المتخصصة التي تستحق رعاية خاصة. ذلك أن طابعه المركب: أدب وسينما وصحافة ومسرح ومذكرات وشهادات وصورة، يجعله مؤثثا بمجموعة من المرجعيات التي تنقل صورا متباينة عن الجزائر، وفي فترات تاريخية متباينة تفرض علينا النظر إليها باهتمام. المقاومة الجزائرية في كتابات الآخرين وإبداعاتهم، على اختلاف أجناسها ومنطلقاتها، هو موضوع غاية في الإثارة، خاصة عندما يتم تناوله من تموقعات متفاوتة، أو متضادة، قد تضيء قضايا ومواقف ظللنا بمنأى عن حقيقتها وتأثيراتها، سواء كانت إيجابية أو سلبية. لكنها تمثل، كيفما كانت رؤيتها، شكلا من أشكال الولوج إلى معرفة الذات والآخر، بصرف النظر عن طبيعتها وعن تعارضاتها الطبيعية، ذلك أن التموقع هو الذي يوجه الرؤيا والموقف من قضية تم تناولها بانحياز، أو بموضوعية، وفق الرائي وقناعاته وانتمائه. لقد طرح المحاضرون، كل في اختصاصه، مسائل تحتاج إلى تدوينها وتقريبها من القارئ الجزائري لإنعاش الذاكرة، وتصويبا للأوهام التي يكرسها بعض التواتر والثقافة الشفهية المهزوزة، وللخطاب المضلل الذي يفتقر إلى المرجع، وإلى التأثير الحقيقي في تصويب كثير من الصوَر التي رسمها الآخر عن الجزائر، في السياسة والأدب والرحلات وعالم الاتصال، والأمثلة عن ذلك لا تعد، بداية بما كتبه بعض المؤرخين والضباط، وصولا إلى الكتاب والمفكرين والرحالة، دون أن نعثر لهم على أثر يؤرخ لمرورهم. لقد كانت المشاركة الجزائرية في المؤتمر، كما المشاركة العربية، ذات أهمية كبرى بالنظر إلى طابعها الأكاديمي، ونذكر، على سبيل التمثيل، بعض العناوين التي أثارت نقاشا محترفا داخل القاعة وخارجها، أو أسئلة تخص مقاصد الكتابة ومنطلقها: الجزائر في عهد الأمير عبد القادر لمارسيل إيميريت، الجزائر والغرب، المقاومة الجزائرية في الشعر الفرنسي، جان بول سارتر وجدلية الاستعمار والحرية، الرجل الأول لألبير كامو، عودة إلى صمت العربي وآليات شيطنة الثورة الجزائرية، الجزائر والسينما الغربية، تجليات الثورة في الشعر المصري، ملامح جميلة بوحيرد في الشعر العربي المعاصر، الرحلات الروسية إلى الجزائر، الثورة التحريرية في الكتابات الروسية، نشأة حركة الفتيان الجزائريين من منظور روسي، صورة الجزائري في مرآته، الثورة الجزائرية في مذكرات المغاربة وشهاداتهم، المخيال الاستعماري والمقاومة، ترتيبات سرديات استعمارية. كما قدم المحاضرون الذين قدموا من خارج الوطن، وبعدد معتبر: السعودية، العراق، تونس، المغرب، فرنسا، مقاربات أسهمت في إضاءة نقاط ظل يمكن الاستفادة من مرجعياتها، ومن ذلك: انتفاضة 1871 في الجزائر بعيون فرنسية (شهادة محارب متطوَع)، المقاومة الجزائرية وعمق الشعور القومي، الفيلسوف الفرنسي فرانسيس جانسون وثورة التحرير الجزائرية، الشعر السعودي والثورة الجزائرية، مواقف المثقف الأجنبي من ثورة الشعب الجزائري وأثرها في اكتمال صورة المقاومة: جانسون، سيزار، سارتر، الطبيب دانيال تيلسيت: سيرة مناضل في صفوف ثورة التحرير الجزائرية، المقاومة الجزائرية في الفن التاسع، ألان سافاري والقضية الجزائرية، المرأة الجزائرية ودورها في مقاومة الاستعمار من خلال الشعر العربي المعاصر، الفعل وتحولات الصورة في شعر الثورة الجزائرية عند السياب. إضافة إلى مجموع المداخلات التي اقترحها أساتذة من جامعة مستغانم، وهي كسابقاتها، تصب في المنحى ذاته، وبأدوات تحليلية راقية بالنظر إلى متطلبات الملتقى وطبيعته، ويمكن أن نورد بعض العناوين للتدليل على الاهتمام بمسألة وطنية لا يمكن إغفال قيمتها التاريخية التي تعد حقبة مهمة من كياننا: المقاومة الجزائرية في الشعر الفرنسي دراسة مقارنة بين الأديب فيكتور هيغو والشاعر آرتور رامبو، الثورة التحريرية في السينما الفرنسية نموذج العدو الحميم ، عندما يقص الشريط الفرنسي الثورة الجزائرية، صورة المقاومة عند الشعراء العرب المعاصرين، فئران التجارب النووية من منظور فرنسي رقان حبيبتي لفيكتور مالو سيلفا أنموذجا . للإشارة فإن الملتقى الذي استغرق ثلاثة أيام جمع أكاديميين ذوي سمعة عربية ودولية، كما تدل على ذلك مؤلفاتهم وحضورهم المستمر في الإعلام والمجلات والمؤتمرات والكتب. وقد كان النقاش ذا صبغة علمية لافتة بإمكانها أن تؤسس لتقاليد ضرورية ما دامت تركز على الشأن الجزائري في حقبة زمنية ما زالت مظلمة بالنسبة للقارئ، وللمواطن، وللمهتمين بالغزو الفرنسي للجزائر وما قام به من أجل صناعة صورة وفق متطلباته، وذلك ما تمَ تسويقه لتغليط الرأي العام الدولي من أجل تبرير جرائم ضد الانسانية. وبالمقابل، قد تكون الشهادات والكتابات المضادة نوعا من أنواع البحث عن التوازن والحقائق المغيبة التي أسهمت في طمسها أطراف استعمارية لها كفاءة عالية في توجيه القراءة، وفي تقنينها تأسيسا على الأبعاد النفعية التي خططت لها قبلا. ذلك ما يمكن استنتاجه من خلال المداخلات التي ركزت على مرجعيات مختلفة ومتباعدة، ومنسية في حالات كثيرة، رغم قيمتها في إعادة تشكيل صورة مغايرة لما قام به السياسيون الفرنسيون وجيشهم، إضافة إلى المتعاطفين معهم من كتاب ومفكرين بارزين، ومن هؤلاء من لا يزال حاضرا في واقعنا، كما أطلقت أسماء بعضهم على شوارعنا، عن وعي أو عن غير وعي، لكنهم ما زالوا مستمرين في وجودنا كقامات ومرجعيات. في حين أننا أغفلنا، في مقامات أخرى، على ما ورد في المداخلات المتنوعة، أسماء كثيرة قدمت خدمات جليلة للثورة والمقاومة، وللوطن، ومن هؤلاء أصدقاء الجزائر الذين نادرا ما ذكرناهم في كتبنا واحتفالاتنا ومناسباتنا لسبب أو لآخر، مع أنهم كانوا جزائريين فوق العادة، وأفضل من الجزائريين الذين خدموا الاستعمار بطرق مختلفة، وباجتهاد كبير. كما أن المهتمين بالشأن التاريخي والسياسي كثيرا ما أغفلوا شخصيات أجنبية تحتاج إلى الاحتفاء والتكريم، أو إلى جمع شهاداتها عن حرب مدمرة وممارسات وحشية قام بها الاستعمار الفرنسي تحت غطاء الحضارة والإنسانية. الصورة المتواترة حاليا ليست سوية، خاصة عندما تتشكل تأسيسا على منطلق أحادي النظرة، لذا نحن ملزمون، في القريب العاجل، العمل على جمع ما كتب عنا هنا وهناك، وعلى ترجمة المؤلفات المثيرة التي اهتمت بالشخصية الجزائرية ومقاومتها. وإذا كانت هذه المؤلفات المبعثرة في كل أنحاء العالم تحتاج إلى فرق بحث، وإلى ميزانية ما، فإن للجزائر ما يكفي من الأموال للاهتمام بنفسها وبتاريخها، ولإعادة الاعتبار لأولئك الذين تعاطفوا معها من جنسيات مختلفة، دون أي اعتبار للعقيدة واللسان والأصل والفصل. ثمة دائما عند الآخرين ما هو أفضل من الخطب الحماسية والجعجعة اللفظية التي تستهلك الجهد والوقت والمال، بلا فائدة. من المؤسف حقا أن نقفز على هذه الجواهر التي تسهم في تقوية ذاكرتنا وتحصيننا من التصدعات الممكنة، أو في إعادة تبييض صورتنا المشوهة، ومن ثم بلبلة الصورة اللامعة التي صنعها لنفسه مستعمر أباد الناس والأرض والتاريخ واللغة وأنظمة العلامات. أما مطالبة فرنسا بالتعويضات، دون الإحاطة بالوقائع، وبالهرب من التاريخ، فلا يمكن أن يكون سوى مشهد تمثيلي غير مؤهل لإقناع الرأي العام الدولي، كما تفعل بعض القوى التي لها حضور فعلي في توجيه القرار، وفي صناعته أحيانا وفق حاجاتها. الجمهورية الجزائرية مطالبة باستمرار بمعرفة نفسها، وبمعرفة ما كتبه الآخرون عنها من أجل أرشيف وطني له قوَته الاعتبارية التي لا يمكن أبدا الاستغناء عنها، كما أنها بحاجة إلى جمع شهادات الجزائريين الذين ما زالوا أحياء وقد بلغوا من العمر عتيا. لقد غدت المسألة مرتبطة بالوقت. إذ كلَما رحل أحدهم ضاع جزء من التاريخ والذاكرة، ومن شخصيتنا وحياتنا بشكل عام. كان ذلك موقف المحاضرين والمختصين في النقاشات والتوصيات التي أكدت على نقاط ذات أولوية: الاحتكاك بالذين ما زالوا أحياء وتدوين مذكراتهم ومعايشاتهم الفعلية، قبل أن يداهمنا الوقت. إضافة إلى استغلال المدوَنة الغيرية بالجمع والترجمة وجعلها في متناول المهتمين بتاريخنا. البلد الذي لا ذاكرة له، كما يرى المهتمون بالشأن التاريخي والحضاري، هو بلد قابل للتفكك والاستعمار والتلاشي عندما تتوفر أبسط العوامل المساعدة، وقابل لفقدان مقوماته عندما ينسى حقيقته التاريخية، القريبة والبعيدة، أو عندما لا يميز بين أصدقائه وأعدائه، وتلك مأساة حقيقية لا تعالج بالطبل والمزمار، أو بالاحتفالات التي تتخذ كرة القدم مرجعا ومستقبلا، أو دينا بتعبير الروائي العالمي باولو كويلو، تعليقا على توجه بلده الذي اهتم بالكرة، أكثر من اهتمامه باستقلاليته وتاريخه وثقافته وتراثه وكيانه. ملاحظة: تم عقد ملتقى المقاومة الجزائرية في كتابات الآخر بالاشتراك مع: المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، وحدة البحث في الثقافة والاتصال واللغات والآداب والفنون، الكراسك (وهران)، مخبر حوار الحضارات والتنوع الثقافي وفلسفة السلم بجامعة مستغانم ودار الأمل بتيزي وزو.