صحراء في صحراء هي حالة المثقف وراهنه، فقد بوصلته وفقد نبضة، وفقد ديناميته، وفقد روحه الأخلاقية.. إنه وضع غير مسبوق يعيشه المثقفون، هؤلاء الأمناء الأوصياء، المتمترسون في الوسط، المنتظرون، الشراح للمتون والكتب، الشراح للخطب الرسمية واستطراداتها... إن المثقف الذي يعهد إليه دائما بأدوار النضال والتأسيس والتجديد والرقابة على أداء المؤسسات والتحسيس والانبثاث داخل الحقل الاجتماعي وخلق مفردات جديدة في المجتمع هذه المفردات وفعالياتها وأدوارها ساعات سائدة وفق المنطق الافتراضي لكائن اسمه المثقف.. من المسؤول عن "حجب" المثقف والتغطية عليه وتهميشه وقمعه وعزله والصمت عنه والصوم عن الاتصال به... ألا يكون المثقف نفسه مسؤول عن مآزقه وفخاخه تلك التي صنعها بنفسه أو غير لها لمصالحه أو حشد من أجلها رؤاه ونظرياته، أوراقه وكتبه، نشاطه وفقرات خطابه تلك يقرأها لرؤسائه أو يكتبها لهم... تحظى ورقة المثقف بمساحة واسعة في الاشتغال النظري كما تنفرد بجداليات هامة على غيرها من الورقات، والمثقفون هم أقوام كثر لهم المذاهب والتوجهات، لهم الخطابات وأبنيتها، لهم المصالح والمآرب، لهم الأنانيات وضيق الأفق، لهم التشيع والصفوية والاستفراد بالرأي، لهم المناقب والمثالب.. حصرا لخطاب المثقف ودوره في الراهن الجزائري ضمن المناخ الحالي، فإن المسلكية المحتشمة لا تؤدي إلى مخرج جدي لا على المستوى النظري فقط، بل على المستوى التطبيقي، البراكسيسي أيضا وهو المهم، من اللحظة ستسيطر النبرة السوداوية والفكر الكربلائي ومختلف الذهانيات، إنما هي الحاجة لابتعاث الحرارة في الفكر الثقافي الجزائري الراهن، مذ سنوات سقط المثقف في المداولة الرسمية وانتهت عهدته تبعا لسياسات إفراغ منهجية، ممأسسة، تبقي هذا الكائن الزنجي مهان الاسم، مهان الكينونة، بلا مشروع ولا طموح ولا انهمام رسالي، تعبوي، تحشيدي، نضالي. رغم مشروعية التوترات التي حدثت إلا أن هذه التوترات أشاحت عن وجه مثقف اللامثقف، اللامبالي، المفصول المفصوم عن سياقات المطلبية الحقوقية والنسق الاحتجاجي الذي يعيد النخبة إلى حقيقتها، حقيقة أسئلتها. لا يحضر اليوم تشريح كاف لما جرى، لا يحضر تحليل ثقافي، ولا يحضر مرجعية تحليل ولا يحضر تفكير في العطب الهيكلي الذي يضرب المؤسسات اليوم (البرلمان، مجلس الأمة، أداء الوزارات طريقة العمل الإداري في المحافظات والولايات، دور الأحزاب وحكومة الكوطات).. من غير الأجهزة المفهومية الوعرة واللغة العسيرة على الفهم التي أنتجها المثقفون لوحظ بطء كبير في قراءة الحراك المجتمعي مؤخرا، وهي القراءة التي تغلفت بأكاديميتها أو بالسهولية المعتادة، البلادة، أو الحيطة والحذر والكذب الأبيض، بطء وتهيب ورهبة في الملاحقة التحليلية للتحركات الشارعية أكدت وثبتت ورسخت الركود الذي طبع الحالة وسكنها وأرساها إلى حين مانيفستو الحرق والإحراق والتململات. تحت ذهنية ضعيفة وذهن مشوش، ملبد بالغيوم، وبلبلة رانت على العقل الجزائري منذ الطوارئ التي عرفتها بلادنا أي منذ جانفي 1992 بفعل لا شعوري متسلط أو آخر توحيه الظروف الأخرى أهمها ما هو ذاتي والنابع من نفسية المثقف الذي ارتضى لنفسه موقعه الأساس، أي بين سلطة تطلب خدماته عند اقتضاء الحاجة وبين مجتمع مائل إلى التقليل منه، من قيمته ووجاهته. -إن الطفرة الاحتجاجية الحالية، بركات أو بزاف أو الهردة الرابعة أو رفض وأشباههم- هذه الطفرة هي فعل ثقافي جذري، راديكالي أفرزته الواقعة الثورية العربية وخصبته وخضبته النخبة -نخبة تونس نموذجا- فأطرته ورعته وحمته من أي تحريفات أو تأويليات، وعلى الرغم من الاختلاف النسبي في الحراكين التونسي 2011 بمفعوله العالي والراقي والجزائري 2014 ببطئ صفته وخجل سمته مدنيا، لكن الوضوح في تمامه عند التملي والإمعان في جدلية الحضور والغياب الثقافيين وتجلياتهما مدنيا، إنه تذكير بدراسة الدكتور على الكنز "معطيات لتحليل الأنتلجانسيا في الجزائر" -فالمثقفون الذين يعيشون في وسط مغلق لا يكونون أنتلجاسيا وذلك مهما كان ثراء إنتاجهم إذا لم تفعل المعرفة المتراكمة فعلها في النظام الدلالي الرمزي للمجتمع-. يبدو أنها هكذا هي سمات مثقفي مرحلة الطوارئ، إذ أنهم لم يتصرفوا مع الفراغ السياسي بالذكاء المطلوب ولو أن الجمود فرض عليهم أو أجبروا على الصمت أو أحيلوا على المعاش الأكاديمي، كان كافيا لاحتساب مجمل جهودهم على أنهم قدموا الملائم والأنسب وفقط وذلك أضعف الإيمان لكنها الأجوبة تأتي ب بلى وكلا.. فإن هوامش العمل الثقافي عندنا كانت ممكنة أفضل من تونس ونظرية الديمقراطية الأقل عندنا لا توازيها في الفراغ نظرية القمع الشامل. نصل إلى السؤال المركزي، من صنع هذا الفراغ؟، من يصنع هذا الانسحاب المدروس للنشاط الثقافي المدني؟، من هذا الذي يشيع الجثمان الفكري الجزائري ويحتمه بالورد الأحمر؟، من هذا الذي يشمع النقاش والمداولة والعقل والمحبة لصالح قيم هالكة بدأت تمتد وتروح سابحة في الدم، من سيطفئ الحرائقية هذه ومهرجاناتها وبياناتها، من سيقف سدا منيعا أماما مانيفستوهات الانتحار والانتحاروية.. خلال زمن غير يسير لم يكن أبدا المثقفون هم مصدر إزعاج أو قلق أو كراهية إلا عند سقف معين ولم تكن المناصب التي يشغلونها أو شغلوها تثير حفيظة أحد أو جهة إلا عند سقف معين كذلك، بينما ركنوا بعيدا عن المجتمع وتطلعاته، فلا السوسيولوجيا واكبت حركيته وشؤونه ولا الخطاب الثقافي بقادر إلى الوقت الآني أن يبلور مشروعا مجتمعيا تواصليا غير قائم على الحدية الانفصالية والانشقاق ما بين بوليسية رخوة سرعان ما تشتد وأصولية مستهلكة بتعدد مدارسها ومساراتها وما ولدت إلا كي تموت. نخبة اليوم مأسوف عليها بانتمائها إلى كسل اليقين وهامش المجتمع وفتات السلطة، بل إن ما تقدمه أصلا هو الفتات النظري والهذر الكلامي والخطاب الذي لا يسقي من عطش الأسئلة وإرباكات اللحظة، ما يقدم الآن وقبل الآن بعشرين سنة غير مشجع البتة، تصاحب مع أسئلة قديمة هي الأكثر ضراوة في تجددها ومعاودتها الانبثاق والاشتعال كنار قديمة ترقد غافية فوق أحجار الصوان بتعبير شاعر إسبانيا العظيم لوركا وهو يخاطب الجنرال فرانكو.