رواية "وليمة لأعشاب البحر" للأديب السوري حيد حيدر التي أربكت الأزهر وأخرجته عن طوره فأخرج طلبته في منتصف التسعينيات في مظاهرة عارمة جابت أزقة وشوارع القاهرة تطالب برأس وزير الثقافة فاروق حسني الذي سمح بنشر الرواية، كما طالب الأزهر برأس صاحب الرواية وتحويل أوراقه إلى مفتي الجمهورية بسبب التطاول على الذات الإلهية. بينما في الثمانينات طالب بعض الجزائريين بمصادرة الرواية ومحاكمة صاحبها وتحويل أوراقه إلى حافظ الأسد بسبب ما جاء فيها من دعارة والمس بعرض وشرف الجزائريات. وبين التطاول على الذات الإلهية والدعارة تتجلى هزيمة العقل العربي. كنت أعتقد أنني الجزائري الوحيد الذي اطلع على "الوليمة" لما صدرت سنة 1983 في قبرص، ولم يتسرب منها آنذاك داخل سوريا إلا أعداد قليلة، لأن النظام السوري وقتها لم يكن ينظر بعين الرضى إلى صاحب "وليمة لأعشاب البحر" رغم انتمائه إلى الطائفة، بسبب ارتباطه، في تلك الفترة بالمقاومة الفلسطينية. قصة اطلاعي على الرواية وقراءتها كانت ب "تكليف" من أحد الأصدقاء السوريين الذي كان مناضلا في حزب العمل الشيوعي المحظور لأن "الرفاق" في الحزب كما أخبرني يريدون تنظيم حلقة حول الرواية ويهمهم معرفة الجانب الجزائري فيها. لم تمر إلا أسابيع قليلة وفي أحد المساءات دخل أحد الطلبة إلى مقر اتحاد الطلبة الجزائريين يحمل"الوليمة"، قذفها بقوة فوق طاولة "البينك بونك" وراح يحدق في الجميع ثم قال بالحرف "أيها الجزائريون عرضكم وشرفكم هنا" وأشار بيده إلى الرواية. لم يفاجئني الكلام، لأنني أعرف صاحبه منذ جامعة الجزائر وأعرف الخلفية "التاريخية" التي جعلته يتعامل مع الرواية بذلك الأسلوب، إنما تساءلت عن الكيفية التي تحصل بها على الرواية التي لم يكن من السهل الحصول عليها بسهولة في ذلك الوقت. لكي يصبح المصدر الوحيد "للمعرفة" ويحتكر التأويل أشاع أن الرواية كانت إعارة من صديق سوري وأنه أعادها له، كما حذّر الطلبة من البحث عنها في المكتبات لأنها ممنوعة ومن يسأل عنها قد يتعرض إلى مكروه. لا أحد قرأ الرواية واكتفى الجميع بتلك الجملة المدوية عن العرض والشرف التي انتشرت مثل النار في الهشيم وثارت الثائرة وبدأت الأساطير المؤسسة والحرب على هذا السوري الذي سولت له نفسه المس بعرض وشرف الجزائريات. تحول نادي الطلبة الجزائريين إلى ساحة سجال واسع بين الطلبة عن الكفية التي يردون بها العدوان، وكان صاحبنا بين حين وآخر يغذي الهيجان عندما يضيف جملة من هنا وأخرى من هناك يؤولها حسب ما تمليه الوضعية. في إحدى المرات مال على أحد الطلبة وكان يعلم أنه ابن شهيد وأسر له في أذنه، وكأنه يقول سرا خطيرا، إن صاحب الرواية تحدث عن علاقة جنسية ربطته مع إحدى تلميذاته وهي ابنة شهيد حيث كان يتردد عليها في منزلهم بحجة مساعدتها على تقوية لغتها العربية، ولأنه كان يعرف أن الطالب من مدينة بانته حقنه بجملة اقتضتها البنية السردية الجديدة، فبعدما أخبره عن علاقة ذلك السوري بابنة الشهيد أضاف "شايف العرب اللي جاو إلى الدزاير واش كانت خدمتهم". ظل يتنقل من طالب إلى آخر بعدما يكون قد درسه جغرافيا وعرقيا، آخرها تقربه من زين الدين المعروف باسم "زينو" أصيل مدينة عنابة، الطالب المتفوق في دراسة الطب الأنيق الذي ينتمي إلى عائلة ميسورة فأخبره أن أحداث الرواية تدور في مدينة عناية وأن هذا السوري أساء إلى مدينة عنابة وشوه سمعة نسائها وبناتها. استطاع صاحبنا تشكيل رؤية حول الرواية تختلف جوهريا عن حقيقتها حيث أقنعهم أن الرواية صورت الجزائر وكأنها بور.... ل. بعض الطلبة ذهب به الحماس والهيجان بعيدا حيث طالب بتنظيم مسيرة داخل الجامعة في بلد يعد التقاء ستة أشخاص تجمعا يعاقب عليه القانون. أما البعض الآخر، طالب بتحرير عريضة وإرسالها إلى حافظ الأسد ينددون فيها بالرواية التي تسيء إلى العلاقات التاريخية بين الجزائروسوريا وروابط الدم والأخوة والكفاح المشترك الذي جسدته جبهة الصمود والتصدي. زينو أصيل مدينة عنابة لم يهتم بروابط الدم والكفاح المشترك، ولا بجبهة الصمود والتصدي، إنما وجه سؤالا واحدا طالب فيه أن يدلوه عن المكان "اللي يدور فيه السوري أوليد الق..." وأنا أتابع من بعيد كنت أتذكر تلك الجلسة التي جمعتنا بمخيم اليرموك، كنا مجموعة من الشباب: سوريون وعراقيون وفلسطينيون. كنت بينهم الجزائري الوحيد، جمعتنا حلقة حول الرواية التي كانت تتناول موضوعا آخر وقضية أخرى لا تمت بصلة للذات الإلهية ولا التطاول على الذات الإلهية ولا الدعارة وأوكارها وبيوتها. لقد كانت تتناول أزمة حركة التحرر العربي والمأزق الذي انتهت إليه ممثلة في تجربة الحزب الشيوعي العراقي والثورة الجزائرية. تحدثنا في تلك الحلقة عن التجربة المرة التي قادها الحزب الشيوعي العراقي ومغامرة الكفاح المسلح التي قادته إلى مأزق انتهت بين الإعدامات والسجن والهروب والمنفى، كما تحدثت عن التجربة الجزائرية ووجدت صعوبة بالغة في إقناع الأصدقاء لأن حيدر حيدر ظل مشرقيا في تعامله مع تاريخ الجزائر وبعض الأحداث. وكنت مقتنعا أنه ليس من السهل أن يتحدث" أجنبي" عن تجربة شعب آخر بموضوعية وفهم صحيح مهما حسنت نيته. دق جرس باب بيتي، كانت الساعة حوالي التاسعة مساء، فتحت الباب، كان الطارق أصيل مدينة باتنة، بعدما رحبت به، ونحن نشرب الشاي راح يحدثني عن العريضة التي سوف توجه إلى حافظ الأسد، لكن ليس باسم الطلبة الجزائريين إنما باسم أبناء الشهداء الجزائريين الدارسين في الجامعات السورية لأن الرواية تعرضت إلى شرف وعرض شقيقاتنا بنات الشهداء وأن القضية أصبحت تخص أبناء الشهداء وحدهم لا غيرهم، كما علمت منه أنه اتصل أيضا بجامعة حلب يسأل إن كان بها طلبة أبناء شهداء ليضمهم إلى قائمة الموقعين على العريضة. بعدما طلب مني إعادة صياغة العريضة راح يتحدث بحماس كبيرعن أهمية هذا الموقف الذي يعد وفاء للشهداء وسيظل يذكره التاريخ لا محالة في بلاد الشام. بعدما أخذه الحماس بعيدا وكان على وشك أن ينهي براد الشاي، ولأننا ننتمي إلى نفس المنطقة، حوّل أصيل مدينة باتنة، الحديث من الشهداء، وأبناء الشهداء إلى "أحنا الشاوية" الذين كنا سباقين وسنظل كذلك ولن نسكت كما لم يسكت آباؤنا وأن هذا السوري "جايبينو جايبنو ونهبطولو السروال في ساحة الأمويين". بعدما شرحت له أهداف ذلك الطالب ونواياه الخفية وشرحته له مضمون الرواية، تفاجأ لما سلمتها له لأنه كان يعتقد أنها من أسرار الدولة السورية. لما سأله الطلبة عن العريضة التي ستوجه إلى حافظ الأسد وكانوا داخل نادي الطلبة خاطبهم "كاش واحد فيكم قرأ الرواية يا جهلة".