تمنيت لو نظمت ندوة جمعية أصدقاء تلمسا ن الثقافية لمؤسسها الدكتور الهادي بن منصور، والتي احتضنها المركز الثقافي الجزائري، مساء يوم الخميس، بملعب يسع لأكبر عدد من جماهير المعمورة البشرية، وبثت عبر كل فضائيات العالم مباشرة على الهواء حتى يتعرف القاصي والداني من الذين فاتتهم فرصة مشاهدة مسرحيات الفقيد عبد القادر علولة قيمة مبدع ومفكر مسرحي خارق للعادة فنيا وأخلاقيا وإنسانيا بغض النظر عن إيديولوجيته التي يتحسس بسببها الحكام العرب وغير العرب مسدساتهم عند سماع الكلمة الحمراء التي تكشف عن خطورتها. ندوة جمعية أصدقاء تلمسان أحيت الفقيد علولة بمناسبة ذكرى اغتياله في ليلة رمضانية بوهران وهو متوجه للمسرح بشكل لا يقدر بثمن لأهمية الفيلم التسجيلي للمخرج علي عيساوي الذي راح يستنطق كبار المسرح العربي من نقاد وكتاب ومخرجين وصحفيين في مهرجان قرطاج حول الرجل الذي عرفوه لعقود عن قرب كما عرفه كاتب هذه السطور الذي ذرف دموعا سخية لحظة مشاهدته الفيلم متذكرا أيامه في فندقي البحيرة والانترناسيونال حيث كانت تقيم الوفود المسرحية العربية تحت رعاية عين بن علي الساهرة كما بينته إحدى اللقطات (ترقبوا نسمة باريسية ليوم الأحد). الهادي بن منصور: علولة مسرحي طفولتي مهد للندوة الدكتور الهادي بن منصور بكلمة مؤثرة لخص من خلالها تجذر الفقيد علولة في الضمير الحضاري والثقافي الجزائري الجمعي بقوله "إن مسرح علولة خلد طفولتي التي قضيتها أتفرج على الحلقة في باب سيدي بومدين بتلمسان"، وهي الحلقة التي وظفها علولة وجددها وطورها مستلهما روح التغريب البريختي أو التبعيد ومطبقا هدف التسلية والإمتاع الذي أكد عليه بريخت كحتمية في المسرح الثوري دون أن يتناقض ذلك مع التناول الشامل لقضايا الشعب التراجيدية. شهدت على ذلك كل مسرحيات علولة وخاصة الأجواد التي رفعت رأس الجزائر شامخا في تونس، وهي المسرحية التي أبهرت النقاد والمسرحيين العرب كما بين ذلك فيلم علي عيساوي من خلال العرض الذي قدمه المسرح الجهوي لوهران في بهو مسرح عنابة على مرأى الممثلة المصرية الكبيرة سميحة أيوب التي تسمرت مندهشة ومتمتعة بعرض أفقدها إمكانية التعليق السلبي، والفقيد علولة الذي كان يتابع أداء ممثليه وراء جميع المتفرجين سعيدا مثل الأطفال يوم العيد وليس في الصفوف الأولى. انقسم شريط عيساوي إلى ثلاثة أجزاء أساسية تمثلت في شهادت النقاد والصحفيين والمسرحيين الذين تابعوا مسيرة الفقيد ودرسوها من أمثال المغاربة الطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد وعبد الرحمان بن زيدان وثريا جبران، واللبنانيين بول شاوول وبيار ابي صعب، والتونسي المنصف السويسي، والجزائريين علي حفيظ المصور والصديق الذي رافق الفقيد طيلة مشواره والزميلين بوزيان بن عاشور وعبد الكريم سكار، والعراقية لميس العماري وآخرين. كانت محاضرة الزميل الناقد والكاتب بوزيان محورية منهجيا وتثقيفية مسرحيا مكنت العارف بخبايا المسرح الجزائري من الإحاطة بتجربة الفقيد علولة تاريخا وخصوصية وتطورا وإبداعا، في حين أضحت شهادات النقاد والمسرحيين المذكورين إجماعا لا يطاله الشك حول شخصية علولة ليس فقط كمبدع مسرحي ولكن كصاحب قضية أفنى حياته من أجلها متجاوزا الإرث المسرحي اليوناني والأوروبي على السواء وباعثا شكلا جزائريا وممررا رسالة إيديولوجية التثوير ومحاربة المستغلين في ثوب فني جمع المعنيين المستهدفين دون وعي منهم بخلفية فكرية ضاربة بجذورها في سجل مناهضة الظلم والفوارق الاجتماعية كما نطقت بها كل مسرحيات علولة على لسان كل شخوصه وممثليه المبدعين من أمثال الفقيد سيراط وحيمور المغني البديع وصاحب الحنجرة التراجيدية وأدار علي الخبزة وزملائهم الآخرين. ثريا جبران: كلنا علولة. شاوول: لو كان مسرح علولة خطابا سياسيا فقط لسقط كانت كل الشهادات التي أدلى بها المسرحيون والنقاد في غاية الأهمية لكن لا يمكن وضعها في نفس المستوى الرمزي والنقدي. برشيد وبن زيدان وسكار كانوا أكثر أكاديمية خلافا للنجمة جبران ووزيرة الثقافة المغربية السابقة التي لخصت رمزية الفقيد بقولها إن علولة لم يمت و«كلنا علولة" معبرة عن تجذره في الذاكرة المسرحية من منظور فني وإنساني على السواء في حين استرسل الشاعر والناقد بول شاوول الذي أعطي الكلمة أكثر ولم يخطئ في ذلك المخرج عيساوي- حينما أعطى المجال لأحد أهم المثقفين والنقاد العرب. شاوول الذي يعرف تاريخ ومسيرة المسرحيين العرب تمكن من تشريح علولة في الحوار وفي المداخلة التي قدمها في قرطاج لافتا النظر إلى أن علولة لم يقلد وكانت حياة الجزائريين البسطاء مصدره الأول والأخير، وإيديولوجية الدفاع عن الكادحين لم تكن مغلقة كما قال وصيغت في أفكار مفتوحة جسدها على الركح بمهارة فنية الأمر الذي لم يجعل من مسرحه خطابا سياسيا فجا فحسب وجنبه السقوط على حد تعبيره. المحور الثاني دار حول تصوير الأجواد في بهو مسرح عنابة في شكل حلقة والثالث في المشاهد المسرحية التي ذكرت بأن علولة أحد أكبر الممثلين العرب وربما العالميين خلافا لمخرجين غير موهوبين تمثيليا ولعل دوره في مسرحية "حمق سليم" لغوغول أسطع نموذج على كمالية شخصية مسرحية قلما يجود بها تاريخ الإبداع المسرحي وفيها قال علولة مفجرا القاعة ضحكا ووعيا: بلاك راه الشعب ايشوف فينا". الفيلم كرم أيضا الممثل المغني التراجيدي حيمور الذي خلد مسرحية الخبزة إلى جانب أدار وسيراط الممثل العجيب الآخر الذي رحل بائسا وعز الدين مجوبي الشهيد الآخر في عز سنوات الدم والدموع والإرهاب الأعمى وغير الأعمى والمتبادل من جهتي طرفي الصراع كما شهد مثقفون نجوا من "رصاص حكومي". على الرغم من أن الشريط لم يكن مستكملا فنيا ولبى حاجة توثيقية مستعجلة، يبقى من المفيد والموضوعي القول إن شريطا كهذا يجب أن يدبلج إلى أكثر عدد ممكن من اللغات ليتعرف العالم على شخصية مسرحية وفكرية وأخلاقية نادرة سيما أن هذه الشخصية قد زادت توهجا وحيوية وآنية أكثر من أي وقت مضى في زمن سياسي جزائري انفرد به الذين بنوا وعلوا أكثر من اللازم وتركوا شخصيات الفقيد تكركر وتموت ببطء في مستشفيات أقرب إلى مفهوم المجازر كما شهدت على ذلك نوارة علولة. تحية إلى علي عيساوي. لمياء بركسي وفيليب تاسلان وشهادات باريسية زاد حدث تكريم الفقيد علولة أهمية غير مسبوقة حينما نشط الدكتور الهادي بن منصور فقرة النقاش الذي جمع الدكتورة لمياء بركسي مداحي الأستاذة بجامعة باريس 12 وصاحبة أول أطروحة دكتوراه حول الفقيد، والتي صدرت في كتاب عام 2012 عن دار هارماتان تحت عنوان "ثقافة شعبية وأنساق الكتابة في مسرح علولة"، والدكتور فيليب شاسلان أستاذ الفلسفة الجمالية في جامعة باريس 8. كما كان منتظرا أكد الإثنان على النقاط المشتركة بينهما من منطلق الخصوصية التي ينفرد بها علولة دون غيره من المسرحيين، ألا وهي تمكنه من بلورة مسرح شعبي شكلا وتنفيذا بواسطة استنفاذ كل مقومات منظومة الخطاب الشفهي والسمعي بصورة احتفالية وإبداع لغة مسرحية من رحم الذاكرة الجمعية وتوفيقه بين القيم الفكرية والإنسانية والشكل المسرحي من بينها مقاومة الشعب ضد البؤس على حد قول شاسلان، وبحسب الدكتورة بركسي فإن ترجمة علولة تحتاج إلى تعاون بين لغويين سميولوجيين وباحثين اجتماعيين كثر لتفكيك إبحار غير مسبوق في الذاكرة الشعبية. النقاش الذي دار بين الباحثين والجمهور زاد هو الآخر من قيمة الحدث بمشاركة مراسل الجزائر نيوز الذي لاحظ عدم الكشف عن توجه الراحل علولة الإيديولوجي بشكل صريح للربط بين قناعاته الجمالية ورسالته الفكرية من باب التوصيف الشامل لهويته لا غير، وهو الأمر الذي يشار إليه من خلال دفاعه عن المسحوقين دون القول إن مسرح علولة قائم على رسالة تمرير الصراع الطبقي الذي آمن به علولة كغيره من الشيوعيين أو الماركسيين الذين بقوا أوفياء لفكرهم حتى النهاية (وطار وهنري علاق وغارودي مثلا) رغم أنف صناع العولمة ومنظري نهاية التاريخ (فرنسيس فوكوياما). أكد أحد المتدخلين وجاهة الملاحظة وقال إن علولة كان شيوعيا مقتنعا ومحترما لانسجامه مع خطابه وسلوكه وأخلاقه واحترامه للشعب، وشهد آخر على إنسانيته التي دفعته إلى مساعدة مرضى السرطان من المعوزين وعيشه مع أمه في شقة متواضعة، وكان المتدخل زوج الطبيبة التي استقبلت علولة في المستشفى متفجر المخ قبل نقله إلى مستشفى فال دوفراس حيث لفظ أنفاسه الأخيرة. شارك ياسمينة خضرا مدير المركز الثقافي الجزائري في النقاش رادا على ملاحظة مراسل الجزائر نيوز الذي أشار إلى استحالة ترجمة مسرح علولة مجازا من منظور تجسيده لروح شعب. خضرا كان جاهزا للانتقام من المراسل وقرأ ملاحظة كاتب هذه السطور بمستوى القارئ للأشياء بالدرجة الأولى بسبب مقالات سابقة عن عدم دعوته مثقفين معربين ورفضه تكريم وطار بسبب وقوفه وراء الفتنة بين المعربين والمفرنسين على حد تعبيره وتحججه بقلة الإمكانيات المالية لتفسير عدم استضافة نقاد من الجزائر لتكريم علولة، الأمر الذي ألغى ندوة كانت مبرمجة ليوم الثاني عشر من الشهر الجاري ومشروع تكريم بن قطاف الذي تقد م به عبدكم الضعيف. السيد بن منصور أكد لنا ونحن في الميترو أن خضرا وضع القاعة تحت تصرف جمعيته لكن السفارة هي التي حسمت الأمر، أما الدكتورة بركسي فأكدت أن ملاحظة استحالة ترجمة مسرح علولة قد سمعتها على لسان أحد المتدخلين في الجزائر(لا أتذكر إن قصدت وهران أو عنابة). حجة نقص الإمكانات المالية لا تمنع المركز ومن ورائه السفارة من استضافة مطربي الشعبي والشطيح والرديح الذين يضمنون جمهورا لا يسعه المركز خلافا للمفكرين والأدباء الكبار الذين يكرمون أمام كمشة تعد على الأصابع كما حدث في ندوة تكريم محمد ديب وفي ندوة تكريم علولة التي لم يكن جمهورها في مستوى أهمية الحدث. نكرر ونقول يجب على الغيورين على علولة توزيع شريط عيساوي بكل اللغات الممكنة وتمويل العملية من جيوبهم إذا تطلب الأمر لأن دولة الشكارة النفطية ترفض ذلك إيديولوجيا وخاصة إذا تعلق بعلولة مرعب مضاجع لصوص عرق ودماء ودموع الشعب.