ظلت الذاكرة حاضرة ومستحضرة، وظل الاستحضار ملتبسا بأليات التصريف والتحويل والحجب والتحريف. الذاكرة محور الهوية والانوجاد الجمعي والفردي... هي حصيلة ما يتشابك... وكل منا موصول بذاكرة لها شيفرته التي تحمل ذاتيته، وتؤشر لخريطة سفره في هذه الحياة.. إرثنا في الذاكرة، وحياتنا تحسب بذكرياتنا فهي كل ما يتبقى عنا، هي الأثر... لكن الأثر قد يضلل في منعرجات الطريق... وقد يصير سدا يحجز عنا الأفق كما قد يتحول جسرا أو معراجا يعرج بنا نحو ذروة ما... الذاكرة الموشومة بتعبير الخطيبي ، الموشومة بالجرح الذي يظل ينزف عندما تغيب الضمادات ويغيب التعقيم ويغيب ما يجترج الجرح لينتج عنه الفتح التاريخي بكل دلالاته. هي الذاكرة، التي قد تصير سلاسل تشدنا إلى الوراء فنتقدم إلى الخلف بلغة القابض في حافلاتنا، ونتوارى في الكهف الذي تحدث عنه الفلاسفة، كهف نسمع فيه الأصداء ونجاور الأشباح ونخضع لسلطة ما مضى، فيزداد الأجداد ضراوة بتعبير كاتب ياسين . هي الذاكرة قد تصبح أفقا يشع ببصيرة تمد بطاقة تحويل المحنة إلى منحة وتشق فينشق السد ويتنفس الصبح. نسترجع تاريخنا، ونستعيد مثلا أحداث الثامن ماي فنسترجع الإبادة التي انتهجتها الكولونيالية القادمة من بلد يرتكز على فلسفة الأنوار وسرديات حقوق الإنسان... وفي سنتنا نتابع استمرارية إنتاج التراجيديا الفجائعية في إفريقيا الوسطى وفي بورما، فجيعة استئصال الحياة والتترس خلف الانغلاق الذي يحجز عن المشترك الإنساني... استمرارية المدونة التي دونتها الكولونيالية وتركت امتداد أثرها بجمرات تظل تنبعث من الرماد. وفي سنتنا هذه مرت عشريتان على فجيعة رواندا التي شهدت أهوال التناحر الذي قضى على مليون شخص في مائة يوم... الذاكرة تمتد بصورها وأصواتها... فكربلاء حاضرة بعد قرون، والأرمن بعد حوالي قرن يستمر استحضار إبادتهم... والامتداد له أهميته في استراتيجيات صياغة التاريخ، لكن أي امتداد؟ إنه امتداد المواجهة الجريئة بهدف التجاوز الخلاق... بحكمة الانتصار للحقيقة والعدالة، عدالة هي رمانة الميزان الضابط للتوازن. هي الذاكرة جدار عازل عن الحضور أو جسر واصل بالحضور، الحضور بفعالية صيرورة العطاء. عندما يضيع فقه الذاكرة تحبك التراجيديا المصير، وفقه الذاكرة بالتحرر من قبضتها والامتداد بميلاد متجدد، ميلاد يصل ويفصل، يصل بالذي تراكم، وصل استثمار ورأسملة، ويفصل بنبذ التوثين والبقاء في كينونة محنطة ومختومة بأختام الماضي. صنع الاستعمار البشاعة وكتب ما وصفه سارتر ب«عارنا في الجزائر"... فظائع مرعبة، جرائم ضد الإنسانية، جرائم جسدت التجرد من الإنساني... وكانت مواجهتها محوا مضادا لمحوها، كان التاريخ ممتحنا للضمير، ضمير من ينشدون الصفح لتصحيح ما اختل. الصفح يتداول في سرديات التحولات التي يعرفها العالم، وفي هذا الشأن فإن المثير كما أشار جاك ديريدا هو أن المطالبة بالصفح تتم بلغة إبراهيمية ممن ليست هي "لغة الدين المهيمن في مجتمعاتهم (وهذا حال اليابان أو كوريا على سبيل المثال)، ولكنها أضحت اللهجة الكونية للقانون والسياسة والاقتصاد أو الديبلوماسية". ويضيف ديريدا قائلا: "معلوم أن المجتمع الدولي هو الذي أنتج وأذن لهذا الحدث ذاته في تاريخ معين ووفق صورة محددة من تاريخه، الذي يتداخل من دون أن يختلط بتاريخ إعادة تأكيد حقوق الإنسان وبالإعلان الجديد عنها، يهيكل هذا النوع من التحول الفضاء المسرحي الذي يشخّص فيه بصدق أم لا الصفح الكبير والمشهد الضخم للتوبة التي نحن بصدد الاهتمام بهما. وهو يحمل في الغالب، ضمن بعده المسرحي ذاته، ملامح انتفاضة كبرى، هل لنا أن نتحدث عن إلزام جنوني؟ بالطبع لا، لأنه لحسن الحظ، يستجيب أيضا لحركة خيّرة. غير أن السيمولاكر، والطقس الأتوماتيكي، والنفاق، والحساب أو التقليد الأخرق تحضر عادة لتشوش على احتفالية الشعور بالذنب". إن الصفح الحقيقي يكون بانتصار الحقيقة والعدل، ويتبلور كعروج نحو الذروة، كتطهر متبادل فالأنا بالآخر يتحدد، والهويات تتشكل بالتواصل... وكل منا في حاجة مستمرة للتطهر بالتخلص من ذنب ما، بتلقي الصفح، وبعطاء الصفح فالصفح هبة تبدأ بلغة تحررنا من البرج البابلي وتنشر السلم الألسني بتعبير الخطيبي ... لغة نطق بها ابن عربي: لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني تقول حنا أرندت: "لولا صفح الآخرين، الذي به نتخلص من تبعات أعمالنا، لبدت قدرتنا على الفعل كما لوكانت حبيسة فعل واحد يلتصق بنا إلى الأبد، ولبقينا ضحايا عواقبه، وآثاره تماما مثل ساحر مبتدئ عاجز، في غياب الوصفة السحرية، عن إيقاف صنيعه أو التحكم فيه. ولولا التزامنا بالوفاء بالوعود، لكنّا عاجزين عن الحفاظ على هوياتنا، ولكتب علينا أن نتيه بلا قوة ولا هدف، كلّ يهيم في ظلمات قلبه الوحيد، ويغرق في التباسات وتناقضات هذا القلب، ظلمات لا يبددّها إلا النور الذي ينشره حضور الآخرين في المجال العمومي، بتأكيدهم هوية الإنسان الذي يعد والإنسان الذي يفي بوعده". الاستخدامات التاكتيكية والذرائعية للذاكرة هي ما فخخ وراكم الانسدادات. والتجاوز شرط للتحقق فالهوية صيرورتها بسيرورة مستمرة، وكل تحجر لها ينتج العمى والمسخ، ينتج الهويات العمياء بتعبير أمين معلوف . التجاوز متصل جدليا بالاستمرارية، فالتمثل يؤسس للتجاوز... تجاوز يحررنا من عقدة الضحية المريض بعقدته، مرضا يجمده ويعطل قدراته ويشل حواسه. عندما نعود للذاكرة التي هي مرجع التاريخ، وليست التاريخ ونستعيد فعالية من حركتهم أحداث الثامن ماي، سنرصد آلية التحرر من الألم بتحويله إلى طاقة توليد لصياغة الحياة وإنتاج المعنى التاريخي، إنتاج الثورة التي هي في طرح الدكتور البخاري حمانة لذي كتب أطروحة عن فلسفة الثورة الجزائرية : "إذا كان التعريف الشائع بأنها تبدل عنيف في السياسة وفي نظام الحكم، فإن التعريف الأكثر شمولية والأقرب إلى المفهوم القرآني للثورة هو ذلك الذي يرى أن الثورة انفصام في التاريخ أو خط يقسم الأزمان والأفكار والعادات والتقاليد ومواضيع الاهتمام والقوانين وأساليب التفكير والتعبير". وأن الثورة: "فضلا عن طابعها الشمولي تتميز عن غيرها من الحركات التغيرية الأخرى، مسلحة وغير المسلحة... مثل الانقلاب والعصيان والتمرد الذين يكتفون بقول (لا) للواقع السياسي والاجتماعي القائم دون مخطط واضح لتغييره..... وعن الاصلاح الذي يظل بالرغم من إيجابية النسبية يدرج التغيير في إطار المحافظة". وفي إشارة الدكتور حمانة ما يربطنا بالراهن، وذلك موضوع آخر.