"إلينا... يا من أتعبكم الظلام" ليست هي عنوان الكتاب، وإن كان العنوان "أفكار في القمة" كبيرا وشامخا. إلا أن هذه الجملة، التي وضعها الكاتب تحت العنوان مباشرة، كانت كلوحة إشهارية، حبكت بحنكة وذكاء. "لست في هذا الكتاب مؤلفا، إنما أنا قارئ" عبارة استفتاحية، تجعل القارئ يستأنس الرفقة، ويتشوق جمال الصحبة، عبر صفحات الرحلة في هذا الكتاب. "ومع الفكر الإنساني في شتى آفاقه، سنمضي معا وقتا طيبا مباركا فيه" وهو كذلك يا سيدي، فلتأذن لنا أن نردد خلفك: "الفكر الإنساني .. ! ترى إلام كانت الحياة ستصير بدونه.. ؟ لا شيء.. بل وبدونه، لا توجد للبشرية حياة.. الولاء للفكر إذن.. والإجلال للكلمة.. ولكل من يقولها في شرف، وفي صدق، وفي شجاعة." ** ** ** مع محمّد (صلى الله عليه وسلم) ضد العجز والكذب والألم: يقول المفكر الإسلامي خالد محمد خالد: "وهكذا أسعد الله صفحات هذا الكتاب ببداية سعيدة، تلك هي: مع محمّد، ضد العجز، والكذب، والألم" ويبين أنه (صلى الله عليه وسلم)"حبا البشرية من قلبه الكبير، وأعطاها من ذات نفسه" و"حين كانت رأسه في السماء، ظلت قدماه على الأرض" "سأله أصحابه يوما: يا رسول الله، أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، وعادوا يسألونه: أ فيكون بخيلا؟ قال: نعم، وسألوه للمرة الثالثة: أ فيكون كذابا؟ قال: لا." "إن محمدا بهذه الكلمات يفضح الكذب، ويكشف عنه كشيء دخيل على الطبيعة الإنسانية." ثم يفسر لنا الأستاذ "خالد محمد خالد" كيف أن المؤمن وهو النموذج المكتمل للإنسان عند رسول الله، قد يعتريه الضعف البشري، فيجبن أو يبخل.. "لكن هذا المؤمن لا يكذب، ولا ينبغي له أن يكذب" إذ ليس ثمة ما يسوغ له ذلك، لأنه إنما يكسب الثقة والاحترام بالصدق. ثم يعلل كلامه بكون الكذب " مفسدة مطلقة.. وله ضراوة كضراوة الخمر أو أشد" مستشهدا بحديث:" لا يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يسود قلبه" موضحا أن سواد القلب هنا، يعني مسخ شخصية الكذاب، فهو عاجز عن إبصار نفسه، لأنه مبغض لها، وعاجز عن تصديق الآخرين، انطلاقا من عدم تصديق الناس له. ويصور مشهد هذا القلب بقوله: "يستحيل كالمرآة التي علاها الصدأ، وفقدت كل صفائها، فلم يعد ينعكس عليها شيء من مشاهد الحياة." إذن فالتوجيه المحمدي -كما يوضح الأستاذ خالد محمد خالد- ينفرنا من كل ما يمت للكذب بصلة، سواء كان إشاعة كاذبة أو مزحة عابرة، أو حتى ثرثرة قد تفقد الفرد توازنه وثباته. والرسول بحسه الإنساني العميق، يدرك أن هناك حالات نادرة قد تضطرنا أن نقول ما ليس بصدق، لكنه ليس بكذب، كحال من يحاول الإصلاح بين الناس. وعنه (صلى الله عليه وسلم) حين يحلق في أرفع منازل الصدق، ويجلجل قائلا: "إنما أنا بشر" يعقب الأستاذ خالد محمد خالد بقوله: "يا لجلال هذا الإنسان، في الوقت الذي يقول فيه صادقا إنه رسول من الله للناس، يقول أيضا: أنا بشر، وفي الوقت الذي كان معه من الله وحي، كان أيضا يبتدر أصحابه ليستشيرهم". إنه -حسب الأستاذ خالد محمد خالد-الصدق مع النفس بمعرفتها جيدا، والتفوق على خداعها، واحترام الحقيقة، ليترفع الإنسان عن آفتي؛ الكبر والجبن، الكبر الذي يجعله يرى نفسه فوق الحق وفوق الصدق، والجبن الذي يدفعه إلى الهروب من الحق، وهكذا يأخذ بأيدينا مترفقا إلى طمأنينة النفس وسكينتها فيقول(صلى الله عليه وسلم): "الصدق طمأنينة" * * ثم ينتقل بنا الأستاذ خالد محمد خالد، إلى قوله (صلى الله عليه وسلم): "استعن بالله ولا تعجز" وكيف يتعقب الرسول الكريم دواعي العجز، فيفضحها ويذروها مع الرياح، فلا تهيب من مقدور ولا تردد، بل حسم واختيار، ولا زحف إلى الوراء وتخل عن الواجب، ولا تشاؤم ولا ندم. ليضيف: "وضد الألم تواجهنا وقفة بارة، إن الحياة مقدسة وكل إيلام لكائن حي، أيا كان ذلك الكائن، امتهان لحرمة الحياة" ويذكر الحديث الشريف: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" ويختم الأستاذ خالد محمد خالد فصله هذا بقوله: "أجل إن نار القصاص تنتظر على شوق، جميع الذين يزيدون متاعب الناس، ويدخلون على حياتهم الآلام والفجائع" مع الصين في حكمتها الجزيلة: "عاشت الصين القديمة وطنا كبيرا للحكمة"" فحكمة الصين تحمل دائما توقيع حكمائها" "ولحكمة الصين عبير خالص يقودك إليها ويدلك عليها" بهذه الكلمات يفتتح المفكر الإسلامي خالد محمد خالد حديثه عن الحكمة الصينية، وكيف أن أهل هذه البلاد كانوا يقدسون الرجل الحكيم، فالحكمة هي دينهم الذي يحرصون عليه، ولنستمع معه لقول كونفشيوس: "ما أشقى الرجل الذي يملأ بطنه بالطعام طوال اليوم، دون أن يجهد عقله في شيء؛ لا يتواضع في شبابه التواضع الخليق بالأحداث، ولا يفعل في رجولته شيئا خليقا بأن يأخذه عنه غيره، ثم يعيش إلى أرذل العمر، إن هذا الإنسان وباء" ثم يذكر شغف هذا الفكر بالحرية، وبالسلام، وبالاستقامة، قائلا: "هذه الثلاثة، هي ليلاه التي يغني لها، ويلهج بها" وينقل لنا دستور الحكم الصالح الذي كانت الصين تحرص عليه، وذلك حوالي (845 ق-م): "يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعراء أحرارا في قرض الشعر، والناس أحرارا في تمثيل المسرحيات، والمؤرخون أحرارا في قول الحق، والوزراء أحرارا في إسداء النصح، والفقراء أحرارا في التذمر من الضرائب، والطلبة أحرارا في تعلم العلم جهرة، والعمال أحرارا في إطراء مهارتهم، وفي السعي إلى العمل، والشعب حرا في أن يتحدث عن كل شيء، والشيوخ أحرارا في تخطئة كل شيء." ولأجل السلام يعلن منشيس: " أن الأبطال ليسوا هم الذين يكسبون الحروب مهما تكن عادلة، بل هم من يربحون السلام" ليقرر أن: "ليس ثمة حرب عادلة" ويقول: "من الناس من يقول إني بارع في تنظيم الجند، وإني ماهر في إدارة المعارك، أولئك هم المجرمون حقا" أما لاوتسي فيؤكد: "عندما يسود الحق، تسخر الخيل لأعمال المزرعة، وعندما يسود الباطل، تسخر الخيل لخوض المعركة" ليجلجل الأستاذ خالد محمد خالد قائلا: "ما أروعه من فكر!" أما عن الاستقامة في الحكمة الصينية، فيبين أنها شيء عسير المنال، إلا على أولي العزم من الرجال، ذلك أنها: "أعمال نظيفة جدا، وبواعث نظيفة جدا" لينقل إلينا عبارة للفيلسوف كونفوشيوس تشع بالنور: "حياتي هي صلاتي" ويعقب عليها قائلا: "ماذا نقول في شرح هذه العبارة المضيئة، وأي كلمات تقدر على التهويم حولها، ومحاولة تفسيرها؟!" "والعمل الذي هو قوام الحياة، لا يهدف لشيء سوى تحقيق الحياة الصالحة" ويضيف: "والمجد، والشهرة، وبقية العائلة كلها، ليست أكثر من عصابة تسرق أنبل ما في الطبيعة الخيرة، وتضلل سعي الإنسان." ثم يذكر لنا ما تحدث به لاوتسي إلى كونفشيوس: ".. وأن الرجل العظيم بسيط في أخلاقه وفي مظهره، رغم ما يقوم به من جلائل الأعمال، فتخلص من كبريائك ومطامعك الكثيرة" وما تحدث به يو-دزه: " من يطرح المجد ولا يعبأ به ينج من الأحزان.. " مع بوذا في بحثه عن الحقيقة: يقول الأستاذ خالد محمد خالد: "تلك هي الحكمة الجليلة التي عاد بها بوذا من رحلته الطويلة، وتقلبه في البلاد، وفي الفيافي، وتأمله العميق.. أجل تلك هي: "أنا لا أعرف شيئا عن سر الإله، ولكني أعرف أشياء عن بؤس الإنسان" ويستطرد قائلا: " منذ أعوام بعيدة، قرأت هذه الحكمة الفذة" "وأذكر أنني حين طالعتها، نحيت المجلة من فوري، ولم أستطع متابعة القراءة" "ومن تلك اللحظة قررت أن أبحث عن بوذا في كل مكان، ومضيت أقرأ له، وأقرأ عنه" ثم يشرح لنا الأستاذ خالد محمد خالد ذلك بقوله: " وجمال هذه الحكمة ونفعها، يتمثلان في أنها تأخذ ألبابنا عن (السفسطة) التي تكتنف تفكيرنا في ذات الله، وتتجه بنا صوب اليقين المتمثل في اكتشاف واجباتنا اتجاه الله" ويضيف: "إن بؤس الإنسان على هذه الأرض، يتطلب كل ما للبشرية من وقت، وكل ما معها من جهد، ففيم فرار الناس من أقدس واجباتهم.. !؟" ثم يعقب قائلا: "والفضائل الكبرى للنفس الإنسانية، هي ما يريده بوذا للناس لكي يسعدوا.. يا له من فكر شامخٍ، هادٍ، مضيء" ويذكر لنا هذه القصة: "قصده ذات يوم برهمي، مستأذنا في السفر إلى (جايا) ليستحم فيه، ويطهر نفسه من خطاياها، فقال له بوذا: استحم هنا.. نعم هنا.. فليس ثمة حاجة تدعوك إلى السفر إلى (جايا)" ثم عانقه بنظرات عينيه الصافيتين وقال: "أيها البرهمي، كن رحيما بالكائنات جميعا، وإذا أنت لم تنطق كذبا، ولم تقتل روحا، ولم تأخذ ما لم يعط لك، ولبثت آمنا في حدود إنكار ذاتك، إذا فعلت ذلك، فماذا تجني من الذهاب إلى (جايا)..؟! إن كل ماء يكون عندئذ (جايا).. !!" ويوضح الأستاذ خالد محمد خالد؛ أن الإنسان هو من يدفع الألم عن الإنسان، وهو من يحقق عظمة الإنسان دون الاعتماد على أحد سواه.. لذا فقد رسم صديق الإنسان الحميم بوذا، نهجا للتعايش والتعامل: "على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالشفقة، وأن يزيل الشر بالخير، إن النصر يولد المقت، لأن المهزوم في شقاء، وإن الكراهية ليستحيل عليها في هذه الدنيا أن تزول بكراهية مثلها، إنما تزول الكراهية بالحب" مع مصر القديمة وهي تفكر: يقول الأستاذ خالد محمد خالد: "قبل الميلاد بآلاف من الأعوام، كانت مصر القديمة تفكر تفكيرا عاليا مضيئا، وكانت الحكمة تستوطن معابدها وأبهاءها، وكان ورق البردي يحمل في أمانة ورشد أجل تبعات التاريخ على صفحاته العريقة بأنباء القرون وآياتها.." ويضيف: "إن الإحساس الإنساني في الفكر المصري القديم ينبض نبضا قويا، بارا، رحيما." لينقل لنا نماذج من هذه التعاليم التي كانت تمثل مستوى عاليا من الفكر الأخلاقي والاجتماعي، وقد قيلت قبل الميلاد بحولي ألف عام. "احذر أن تسلب فقيرا بائسا، وأن تكون شجاعا أمام رجل مهيض." " ولا تسخرن من كلمة رجل هرم، ولا تكن قط رجل سوء، ومن فعل فاحشة فإن المرفأ يفلت منه.." "لا تشتبكن في جدال مع أحمق ولا تجرحه بالألفاظ، تأنّ أمام متطفل، واعرض عمن يهاجم" وعن الأناة في الكلام، وعدم التسرع في الرد، ينقل هذه الحكمة المضيئة المتألقة:" نم ليلة قبل التكلم، لأن العاصفة تهب مثل النار في الهشيم، والرجل الأحمق في ساعة غضبه، يجب أن تنسحب من أمامه، وتتركه لحماقته، والله يعلم كيف يجزيه" "لا تمنعن أحدا من عبور النهر، إذا كان في زورقك مكان" "لا تفضين بقرارة نفسك لكل إنسان" أما عن مهمة الحاكم في مؤازرة الرجل العادي، ومنحه فرصته في الحياة، فينقل لنا هذه الحكمة الجليلة: "إن الله خلق الناس منه.. وإنه ليسمعهم حين يبكون، وحين يشكون، وما جعل فيهم رؤساء، إلا ليسندوا ظهور الضعفاء منهم" مع توم بين صديق البشر: هنا أجدني عاجزة حقا عن الاختيار، إذ كل ما ذكره الأستاذ خالد محمد خالد عن هذه العبقرية الفذة كان باهرا وعظيما. انظر إلى قوله: "كان شعار جميع الرواد الأفذاذ الذين سبقوه مبشرين بالحرية وبالإخاء الإنساني، كان شعارهم: "حيث توجد الحرية يوجد وطننا" فجاء (توم بين) نسيج وحده، ولخص شعاره وعقيدته، وسلوكه في عبارة أخرى باسلة شاهقة عظيمة هي: "حيث لا حرية، فثم وطني" يا للرجل ويا للعملاق" إذن فحرية (توم بين) كما يفسر الأستاذ خالد محمد خالد هي: في أن يكون الناس جميعا أحرارا، وحيث لا حرية فثم أرض المعركة المقدسة. ولننظر إلى رده حينما جاءه الإمبراطور بونابارت زائرا.. بونابارت الذي يُرهب ويُرغب، فها هو يقول لصاحبة البيت التي أذهلتها المفاجأة، فجاءت تنبئه أن الإمبراطور بالباب يود لقاءه، فقال لها: "بونابارت..؟ وماذا يريد مني هذا الوغد؟ ارجعي وقولي له: إن وقت "بين" لا يتسع للقاء الأشرار وقطاع الطرق" ومن أقواله التي يذكرها الأستاذ خالد محمد خالد:" أنا أكره الحرب، إنها أسوأ الطرق لإبقاء الإنسان في هوة الاحتقار، ولتحويله إلى وحش ضار" مع جوركي صديق المستقبل: في التعريف به يبين الأستاذ خالد محمد خالد أنه عاش للأمل وللمستقبل، وتقديس كل ماله صلة بهما. فالأم مقدسة عند جوركي، لأنها وعاء المستقبل: " لنرفع عقيرتنا بالمديح للمرأة الأم، المصدر الذي لا ينضب للحياة المنتصرة" وعن المستقبل والحقيقة يقول: " إن الظلمة تنزاح شيئا فشيئا، مفسحة المجال للنور في بيت الله، وبيت الله هو الأرض بأسرها" ولجوركي رأي مغاير في الكاتب الذي يبحث عن الحقيقة، ليضيء بها نفسه، ويقدمها للناس.. إذ يجمل به ألا يستهدف الإعجاب والشهرة: "ليس من المستحسن أن يكون للكاتب كثير من المعجبين، وكل رجل ذي عمل مع الجمهور، يجب أن يطهر الهواء المحيط به بمطهر الحقيقة" كما يقول أيضا: "إني أقدس الاستياء الذي يشعر به الإنسان اتجاه نفسه، والذي يدفعه إلى الأفضل دوما" ويعلل الأستاذ خالد محمد خالد جمال فكر جوركي.. بكونه فكرا سائرا لا واقفا.. وجهته الأمام دوما: "ليس لنا سوى اتجاه واحد نتحرك فيه، وهذا الاتجاه، هو الأمام..!" مع إقبال في فلسفته الدينية: يبين الأستاذ خالد محمد خالد أن محمد إقبال –شاعر الهند وباكستان وفيلسوفهما الكبير- كان يفكر تفكيرا عاليا في طبيعة الدين، وفي تطوره، ووظيفته، وأن نقطة انطلاق هذا التفكير هي قوله: "إن السمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله، ولمستقبله؛ من أين جاء؟ وإلى أين المصير؟ هو وحده الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي، وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية بما انطوت عليه من صراع بين القيم الدينية والقيم السياسية." وينقل له أيضا: "نستطيع القول بأن الحياة الدينية من الوجهة العامة، يمكن أن تنقسم إلى ثلاثة أطوار؛ طور الإيمان، وطور الفكر، وطور الاستكشاف." وعن طور الاستكشاف يقول: "وهنا يصبح الدين مسألة تمثل شخصي للحياة والقدرة، ويكتسب الفرد شخصية حرة، لا بالتحلل من قيود الشريعة ولكن بالكشف عن أصلها البعيد في أعماق شعوره.." ليضيف:" وصدق الصوفي المسلم الذي يقول: "لا يتيسر فهم الكتاب الكريم حتى يتنزل على المؤمن، كما تنزل على النبي" ويوضح الأستاذ خالد محمد خالد أن الدين كما يراه إقبال في طوره الأخير هو: "نشاط صوفي يستهدف رؤية الحقيقة، والتفوق على كل ضعف بشري" ويذكر قول إقبال: "وكل طلب للمعرفة، هو في جوهره صورة من صور الصلاة، والمتأمل في الطبيعة تأملا علميا، هو نوع من الصوفي الباحث، وتأمله هذا صلاة، والصلاة؛ سواء كانت صلاة فرد أم جماعة، تعبير عن مكنون شوق الإنسان إلى من يستجيب لدعائه في سكون العالم المخيف" وهكذا يدعو إقبال -كما يبين الأستاذ خالد محمد خالد- إلى احترام رياضة الباطن، أي التجربة الدينية الصادقة التي تستهدف رؤية الحقيقة ومعانقتها، لتزودنا بالمعرفة والإدراك، بل وبمواقف ثابتة مع الحق والفضيلة. ويرى أن هذه التجربة الدينية الصادقة تعتمد حديثا على مصادر للمعرفة تلائم وجهتها الجديدة، في ظل العقل الاستدلالي الذي يجب علينا مؤازرته، وكبت كل أسلوب للمعرفة لا يعتمد عليه. وأنقل هنا مقولة إقبال: "ليس منتهى غاية الذات أن ترى شيئا، بل أن تصير شيئا" "ترى الدليل على حقيقتها في قول كانت "أنا أقدر" لا في قول ديكارت "أنا أفكر" ". مع فرويد في مجاهل النفس: يقول الأستاذ خالد محمد خالد: "ولقد كان فكر فرويد وهو يتعقب الكبت ويمسك بخناقه، واحدا كبيرا من أبطال المعرفة الإنسانية" ثم ينقل قول فرويد عن الميول المكبوتة: "إنها لا تتلاشى، بل تبقى حية في اللاشعور وتظل مستمرة في نموها" ويقول عنه:" إنه ينادي باحترام الغرائز، وعلى رأسها غريزة الجنس، ويكشف عن الصداقة العريقة التي بيننا وبين غرائزنا، إنها ليست شياطين كما كنا نظن، ولكنها قوانا التي نتحرك بها ونعمل" ثم يوضح الأستاذ خالد محمد خالد أن فرويد لا يقصر الميول المكبوتة على الجنس، كما توهم كثيرون، بل أعطى الجنس المكان الأول، ويرى أن ذلك أقرب إلى الحق، لأن الكبت هو ثمرة التحريم والمنع. ليؤكد أن ليس ثمة غريزة من غرائز البشر نالت من المنع والحظر والمقاومة، مثل ما نالت غريزة الجنس. ليصل إلى القول بأن: "خير صورة للتكيف الأخلاقي عند فرويد هي تلك التي لا تبالغ في الحرمان ولا تبالغ في الإشباع، فإرضاء جميع الميول الغريزية إرضاء غير محدود ينتج من الألم مثل أو أكثر مما يسبب من لذة، والحب العظيم الصادق من خير ما تظفر به الحياة السوية" ويضيف الأستاذ خالد محمد خالد معقبا: "كانت الحرب العالمية فجيعة مرهقة لفرويد، لأنها تمزيقا عنيفا ورجيما لأوصال الحب الذي يطمح فيه لبني الإنسان" لينقل عنه تهكما جادا.. عن وحشية الناس خلال الحرب: " إن مواطنينا في العالم الذين ارتكبوا تلك الأعمال، لم يسقطوا في الواقع إلى درك بعيد كما كنا نظن، وذلك لسبب بسيط، هو أنهم لم يكونوا في مستوى رفيع بقدر ما كنا نتصور..!" مع ديهاميل في دفاعه عن الأدب: تلخيصا لكلام الأستاذ خالد محمد خالد أقول: إنه ديهامل صاحب الإيمان بالكلمة، وبالفكر، وبالأدب، والذي يقدس روح الكاتب والأديب، ويرى أن شر أعداء هذه الروح هو النجاح وفي ذلك يقول: "لو غامر أحد أولادي يوما واحترف الأدب وسألني أن أنصحه، لما قلت له غير هذه العبارة: احذر النجاح" إن ديهامل يقصد هنا النجاح التجاري الذي يجرف الكاتب بعيدا عن الأصالة والخلق، وعن كل جهد يتطلبه التجويد والإتقان، لأنه يطالبه باستمرار بتموين السوق الرائجة، ومن هنا لا تكون أعمال هذا الأديب ضحلة فحسب، بل ستصاب موهبته بالاضمحلال، إذ أن العمل الفني لم يكن يوما سلعة تصنع على عجل. ليوضح ذلك بقوله: "إن الأفكار التي يمكن أن تكون مادة لعمل فني، تحتاج دائما إلى نضوج بطيء، فهي تولد فينا كالنطف، وتبقى زمنا طويلا بغير حراك.. ومع هذا يمضي زمان قبل أن يتهيأ الكائن للمجيء إلى الضوء.. فتبدأ عملية الوضع الشاقة، ونحن نستطيع أن نفسد كل شيء، ولكننا إذا انتظرنا حتى نهاية الحمل، فستكون لدينا الفرصة لأن نخرج إلى العالم كائنا قابلا للحياة، كاملا حسن التكوين" أما الكتاب عند ديهاميل؛ فهو وعاء الثقافة الذي يصونها عن التبدد والضياع، ويقول عن المكتبة: "هي ذلك المكان الجليل الذي يحتفظ فيه الرجال بتجاربهم، وأحاسيسهم واكتشافاتهم ومشروعاتهم" ويتساءل: "إلام يصير العالم لو علق فجأة بالورق مرض جديد يحيل كل المكاتب ترابا..!؟" ليكون الجواب: ".. ولن تكون تصرفاتنا عندئذ إلا تصرفات وحوش تعسة" مع إمرسون في تفكيره المغرد: سأكتفي هنا بذكر بعض أقواله: "إن الثبات السخيف على رأي واحد هو غول العقول الصغيرة" "لكي تكون عظيما لابد أن يساء فهمك" "إن من يختار الراحة، لا يشاهد الحقيقة، ومن يختار الحقيقة يظل جوابا، سابحا، بعيدا عن كل مرفأ" "ليس في الدنيا الواسعة مكان يختبئ فيه إنسان سافل، وإن ارتكبت جرما، وجدت الأرض كأنها مصنوعة من زجاج، إنك تستطيع أن تقذف حجارة إلى أعلى، ولكنها بعد لحظة ستعود إلى الأرض" "الصديق الجديد، عندي حادث عظيم" ومع تولستوي في شموخه: ينقل لنا الأستاذ خالد محمد خالد قول تولستوي: "من أنا؟ جزء من اللانهائي؟ ألا إنه في هذه الكلمات الوجيزة جدا، لتنحصر المشكلة بأسرها.. !" ثم يضيف: "أمن الجائز أن الإنسانية لم تسأل نفسها هذا السؤال إلا منذ الأمس القريب!؟" ليجيب: " إن فكرة الإله الذي ليس له نهاية، وقدسية الروح، والعلاقة بين الله والناس، وفكرة الإنسان عن الخير والشر، كل هذه أفكار صيغت في الضمير البشري السحيق، وهي أفكار لا يمكن لي ولا للحياة بدونها بقاء، ومع هذا فقد نبذت جهد الإنسانية بأسره وأردت أن أصوغها من جديد بنفسي" ويعقب الأستاذ خالد محمد خالد على هذا الكلام قائلا: "هذه هي محاولة تولستوي الجريئة، وهذه آية شموخه" ثم يضيف: "في رأيي أنه يكفي من تولستوي هذا الموقف الفكري الباسل، حتى إن ضل بعده الطريق، فكيف وهو يخبرنا أنه لم يضل ولم يَحْتَوِشهُ التّيه" ليذكر بقوله: " إن معرفة الله والحياة شيء واحد، أو قل: إن الله هو الحياة" "وهدف الإنسان في الحياة إنقاذ روحه" "ولكي يفعل عليه أن يعيش عيشة ترضي الله" وبعد أن يطل بنا الأستاذ خالد محمد خالد على الجانب الإيجابي في تفكير تولستوي وحياته. يختم بقول تولستوي: " فالناس يمجدونني ويحتفون بي كما لو كنت أكثر البشر نبلا.." "بينما أعلم حق العلم أني لاأزال في بداية البداية" ويختم المفكر الإسلامي خالد محمد خالد كتابه "أفكار في القمة" بهذه الكلمات: كل كتب تولستوي الشامخة.. وكل سلوكه القوي الطاهر.. كل هذا.. لا يمثل في رأيه سوى "بداية البداية"..!؟ * * * وبعد.. فلتطو صفحات هذا الكتاب هنا.. عند "بداية البداية".. !!