يتباشر المنتسبون إلى سلك التعليم الجامعي هذه الأيام بما ورد على لسان الوزارة الوصية والنقابات حول الزيادات في أجورهم وكأن مشاكل الجامعة ستحل بهذه « الزيادات التاريخية » (حسب تعبير البعض). وحال الجامعة اليوم يذكّرنا بما كان يردّده رئيس الجمهورية من حجج أيام عهدته الأولى حين كان يناضل من أجل إقناع الغرب والشرق بضرورة محو المديونية على الجزائر لتقف على قدميْها قبل فوات الأوان. فكان يخاطب هؤلاء الأثرياء بالقول : ما الفائدة من أن يأتي أحدهم ويقول للمحتضر : « أبشر! لقد محوت ديونك اليوم، فليس عليك ديْن بعد الآن ». والمحتضر اليوم هو الجامعة و »الزيادات التاريخية » هي بمثابة محو ديون أصحابها. ذلك أن الواقع المعيش والمستقبل المنظور في الجامعة لا يبشران بخير. فالوضع في المؤسسة الجامعية بلغ درجة من التدهور والرداءة لن يتحسن بصفة جذرية إلا بعد عملية جراحية قاسية لا نرى أن السلطات جادة في الإقدام عليها، بل على العكس من ذلك فهي تكتفي بتسيير الأمور اليومية أحيانا بعشوائية قلّ نظيرها دون إستراتيجية واضحة المعالم. وسبب تدهور أحوال الجامعة هو أن أصحاب الحل والربط قد تركوا الأمور تسير نحو التعفّن دون تحريك ساكن حتى بلغ هذا التعفن منتهاه : كم من مقال كُتب خلال السنوات الماضية وما قبلها؟ وكم من صوت صرخ؟ وكم من منادِ نادى؟ وكم من تقرير رفع؟ وكم من نقابة بَلّغت؟ وكم من إضراب وقع؟... كل هذا لتنبيه أصحاب القرار إلى الوضع المتردي الذي تعيشه جامعاتنا، ولم يُجْدٍ ذلك نفعًا. الجامعة تستنزف وها قد استيقظ الحكام بعد فوات الأوان، بعد أن غادرت نُخَبُنا الجامعة إلى الخارج بالمئات والمئات، ومازال هذا النزيف متواصلا لحد الآن. هل يتصوّر القارئ أن هناك على سبيل المثال جامعة في الخليج العربي، ليست من كبريات جامعات المنطقة، استقطبت هذه السنة الجامعية أزيد من عشرين أستاذا جامعيا جزائريا دفعة واحدة! وإذا علمنا أن عدد جامعات الخليج يبلغ نحو عشرين جامعة فعملية حسابية بسيطة تبيّن الكمّ الذي يغادر البلاد سنويا من جامعاتنا إلى تلك البقاع، ناهيك عن الجامعات الأخرى عبر العالم... أمر مذهل هذا الذي يحدث إذا ما أدركنا أن تكوين « دكتور » واحد في أي اختصاص يتطلب على الأقل 12 سنة دراسة في الجامعة، أي ربع قرن من التكوين المجاني لكل واحد من هؤلاء؛ والمجانية هنا تعني أن نفقات التكوين تقع على كاهل الدولة ! ما الذي أدى إلى هذا النزيف في رأس المال البشري؟ إذا ما نظرنا إلى جامعتنا اليوم نجدها تغص بالطلبة التائهين في ما يسمى بالحرم الجامعي، أحوالهم المعيشية والسكنية متردّية لا تليق عموما بمن يريد المضي قُدُمًا في طلب العلم. أما إدارات الجامعات فحدث ولا حرج : لا همَّ لمسيّريها سوى التظاهر بتنفيذ الأوامر التي تأتي من فوق مرضاة لعالي المقام... حتى إن كانت تلك الأوامر منافية للتحصيل العلمي. أما ما يُرّقي دور الجامعة وأهلها فهو في المحلّ الثاني أو الثالث. وإذا ألقينا نظرة فاحصة على حال سلك التعليم وجدنا هذا السلك يتوزع إلى عدة فئات يمكن تصنيفها كالتالي : الفئة الأولى : « البزناسيّة » هي فئة تتعاطى البزنسة بكل أشكالها لتغطية حاجياتها المادية. بل ذهب بعض هؤلاء بعيدا في هذا النشاط حتى صار راتبهم الجامعي بمثابة « مصروف جيب »، ومن ثم أصبحوا لا يولون أي اهتمام للتدريس والحضور إلى الجامعة، إلخ. وبطبيعة الحال فهي فئة لا خير فيها، وكان على أصحاب القرار تطهير الجامعة منها ... وبذلك يبدأ إصلاح سلك التعليم العالي بصورة فعلية. كيف يمكن أن تعوّل الجامعة على فئة من الأساتذة لا يزورونها إلا ساعة إلقاء الدرس أو المحاضرة، وأية محاضرة؟ !هذا إن زاروها... ثم يتركوها وأهلها لأن مشاغلهم الأخرى أوْلى من شأن الجامعة. متى يشرف هذا الأستاذ على الطالب وكيف؟ ومتى يستقبل طلبته؟ ومتى يبحث؟ ومتى ينشر المؤلفات والبحوث؟ ومتى يجدد معلوماته؟ لا ندري ! الفئة الثانية : « المهاجرون » هي فئة من الأساتذة عزموا على الرحيل وهاجروا إلى بلاد يضمنون فيها راتبا معتبرا أو مكانة علمية محترمة أو الاثنين معًا. وبالنسبة لجلّ عناصر هذه الفئة فالجامعة الجزائرية كانت لهم المكان الأنسب للقفز إلى هنالك بعد قضاء فترة تدريب تزيد في الخبرة والتجربة المطلوبتين للالتحاق بجامعات أجنبية. ويتميّز المنتسبون إلى هذه الفئة بكونهم كانوا في وقت ما « براميل » علمية ذات شأن، ومنهم من ظل كذلك حتى بعد الرحيل، ومنهم غير ذلك. وقد تزايد عدد عناصر هذه الفئة حتى خلت الجامعة منهم فتركوها بين أيدي جماعة لا تعير للعلم وزنًا، ولا تفقه في التقاليد الجامعية شيئا يذكر. والواقع أن الفئة الثانية هي التي يعوّل عليها لترقية الجامعة علميا. وكان على السلطات التحرك بسرعة خلال السنوات الماضية واتخاذ القرارات العاجلة لتحول دون رحيل هؤلاء... وللأسف كان المسؤولون آنذاك يتشدقون في وصف هذه الهجرة الجماعية في اتجاه واحد بأنها تندرج في إطار العولمة وتبادل الخبرات!!! كان بالإمكان الحدّ من هذا النزيف، ليس بالإهانة واللجوء إلى المحاكم والتوبيخ ونحو ذلك من الوسائل المسيئة لكرامة الإنسان... بل بأن توفيَهم السلطات حقهم في العيش الكريم، وبأن تطهّر الحرم الجامعي من حولهم كي يكون مكانا تسود فيه التقاليد الجامعية النبيلة ويتزايد فيه الإنتاج الفكري، ويحتك طلبة العلم بأهله ويتشبعوا بمضامينه. لكن حسابات الساسة لا تخضع لهذه المقاييس السارية في الجامعات الراقية إذ أن مقياسها الأول والأخير كان ولا يزال عدد المقاعد البيداغوجية، وعدد أسِرّة الأحياء الجامعية، وعدد حافلات النقل الجامعي، وعدد المطاعم الجامعية. ذلك ما تتباهي به السلطات منذ الاستقلال كلما تتحدث عن الجامعة متجاهلة كل العوامل الأخرى ذات الصلة بالنوعية وبالتقاليد العلمية... الفئة الثالثة : « الانتهازيون » فكّر أصحاب هذه الفئة مليّا في مستقبلهم الشخصي فرأوا أن العلم وحده في البلاد لا يغني من جوع وأدركوا أن تولّي المناصب الإدارية والسلطوية في القطاع الجامعي وغيره، يخرجهم من دائرة الفقر ويزيد في مكانتهم الاجتماعية، ويسهل لهم قضاء الحاجات اليومية وحاجات ذويهم. وغالبا ما تكون عناصر هذه الفئة « براميل » صاخبة، فارغة علميًا، حتى إن كانت قد ملئت ذات يوم، فزادها العلمي لا محالة ذاهب إلى زوال لأن كثرة الاحتكاك بالشؤون الإدارية يؤدي إلى الابتعاد عن مجالس العلم. وإحدى الميزات البارزة لهذه الفئة الكسل والتقاعس عندما يتعلق الأمر بالاستزادة في طلب العلم... ألا يقول المَثَل : « من جهل شيئا عاداه »؟ ! والملاحظ أن كثيرا ما تؤدي تصرفات هذه الفئة إلى التعسف إزاء الزملاء. بل يمكن أن تشكّل خطرا فعليًا على مصير الجامعة ومجريات شؤونها يتجاوز خطورة الفئة الأولى إذا لم تعرف حدودها ورأت في نفسها صاحبة الأمر والنهي في الشأن الإداري والعلمي في آن واحد. ونعتقد أن هذه الفئة دفعت عن قصد أو عن غير قصد إلى هجرة عدد من أدمغتنا. وعلى كل حال فهذه الفئة تسعى في أغلب الأحيان إلى الجمع بين النشاطين العلمي والإداري، غير أن ذلك أشبه بالمستحيل... فتضطر في نهاية المطاف إلى « التلاعب » بالجانب العلمي حفاظا على مكانتها ومكاسبها الاجتماعية لأن هدفها منذ البداية كان يركز على تجسيد الترقية الشخصية باستغلال الدبلوم والشهادة وليس ترقية مكانة الجامعة. وكم من « دكتور » ومن « أستاذ دكتور » صار يحمل هذا اللقب بفضل منصبه الإداري الذي سهل له عملية التسلق. الفئة الرابعة : « التائهون » هي جماعة تائهة لا حول لها ولا قوة... لا تدري من أية جهة تجد باب النجدة للخروج من المأزق الذي أحاط بها وبالجامعة : هل تستسلم إلى واقع مرير وتنضم إلى إحدى الفئات السابقة أو تظل تعاني الأمرّين؟ تجد في هذه الفئة الغارق في التشاؤم، والمتفائل المتحمس في أداء مهامه، والمناضل المثالي، والمتمرد على الأوضاع، والحالم بغد أسعد، الخ. إنها فئة قليلة العدد لكنها غالبا ما تكون جادة في نشاطها الجامعي. الفئة الخامسة : « الجيل الجديد » تتكون هذه الفئة من الجيل الجديد الذي انضم إلى سلك التعليم الجامعي بدءًا من أواخر القرن العشرين. وهم يمثلون الأغلبية العددية في سلك التعليم الآن، وهم في تزايد كبير. أصحابها يحملون شهادات عليا، وهم في عجلة من أمرهم : الاستقرار يتطلب منهم قضاء الحاجات الاجتماعية الأساسية (الخدمة الوطنية، السكن، الزواج...) والراتب لا يسمح بذلك. تجدهم في معظم الأحيان يهملون جانب البحث العلمي خلال مدة طويلة لجمع المال الكفيل بضمان الاستقرار. ولذا، ونظرا لفقدان « المثل الأعلى » في جيل أساتذتهم، فهم يميلون إلى الاقتداء بأصحاب الفئات الأولى أو الثانية أو الثالثة... وإن فقدت الجامعة هذا الجيل فماذا بقي لها؟ والمؤسف أن السلطات العليا بدل أن تعمل على العناية بالفئتين الرابعة والخامسة كيلا يقتدي أصحابهما بالفئة الأولى أو الثانية أو الثالثة، وبدل بذل الجهد لتوفير اللازم للفئة الثانية كي تكبح حركة الهجرة وتعيد جلّ من هاجر إلى أرض الوطن، راحت تدعم الفئة الثالثة وتغريها بالمزيد من العلاوات والمزايا الاجتماعية لكي يكون أصحابها أداة طيعة في يدها يوجههم الحاكم كما يشاء وينفذون أوامره دون نقاش. والغريب أيضا هو ذلك السكوت المريب الذي تلتزم به السلطات إزاء ممارسات الفئة الأولى رغم ما في تصرفاتها من انعكاسات سلبية على ركائز التعليم العالي وأخلاقياته. والمتأمل في شبكة الرواتب الجديدة يلاحظ أنها لا تعير أهمية للإنتاج العلمي والفكري من قِبل الأستاذ : فالأستاذ المنتج كمن لا ينتج، والأستاذ المشرف كمن لا يشرف على طلبة دراسات عليا، والأستاذ الذي يُرَقّي الجامعة بنشاطه العلمي كالأستاذ الذي يقضي وقته خارج الجامعة في البزنسة. هذا الوضع كان قائما منذ الاستقلال وكنا نعتقد أن السلطات انتبهت إليه، لكن الأمر لم يكن كذلك. وبالتالي ما الذي سيغري المهاجرين بالرجوع إلى الجامعات الوطنية؟ نحن غير واثقين بأن الراتب الحالي سيجعل جلّ هؤلاء يعودون إلى أرض الوطن. ولا نعتقد أن هناك مقياسا آخر في تقييم وقْع ما أقدمت عليه السلطات في باب الرواتب والتحفيزات الجديدة إلا المقياس الذي يدلنا على نسبة العائدين من الأساتذة إلى أرض الوطن، وكذا نسبة المهاجرين الجدد مقارنة بنسبة من هاجروا قبل اليوم. فإن كان هذا المؤشر إيجابيا يكون من حقنا أن نحلم بترقية الجامعة... وأما إن كان الأمر عكس ذلك فعلى الجامعة الجزائرية السلام ! * كاتب ، وأستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة القبة الجزائر العاصمة (قسم الرياضيات)