تظل الولاية السادسة التاريخية تسبح في بحر من الألغاز والاستفسارات، التي ليست لها حلول ولا أجوبة، حيرت بذلك المؤرخين وحتى المجاهدين، أصحاب المذكرات، وقبلهم سكان هذه المنطقة التي اختلط عليهم الحابل بالنابل، ولم يميزوا بين الغث والسمين فيها، ولا بين من كان يعمل مع الجبهة أو مع الحركة الوطنية، أو حتى من كان يعمل مع فرنسا، مما يستوجب الوقوف مليا أمام الأحداث التي كانت تتراكم وتسبق بعضها البعض. * الشيخ "زيان عاشور" سبق الجبهة في الكفاح المسلح بالصحراء يتداول لدى أوساط متعددة، أن الثورة المجيدة لم تصل إلى الصحراء ولا إلى بوابتها، إلا بعد مؤتمر الصومام الذي أعاد هيكلة الثورة وأسس لتقسيم جديد. لكن ما سيظل حقيقة ساطعة كالشمس، أن سكان الصحراء وخاصة شمال الصحراء على امتداد بسكرة، الجلفة، الأغواط وجنوب غرب المسيلة رفعوا السلاح ضد الاستعمار قبل وصول جبهة التحرير الوطني وجيشها منتصف سنة 1956، دون أن يعتبروا بالجهة القائدة للجهاد، فالمهم بالنسبة لهم مواجهة فرنسا وفقط، عن طريق شخصية اجتمعت فيها الأصالة والحداثة، ما خول لها مكانة قيادية لدى سكان مناطق بسكرة، الجلفة، المسيلة وجزء هام من ولاية الأغواط. وكانت هذه الشخصية القيادية، تتمثل في الشيخ زيان عاشور أو الرجل "المرابو" كما كانت تكنيه السلطات الاستعمارية نظرا لتكوينه الديني بتلقيه علوم الشريعة بزاوية الشيخ بن رميلة بأولاد جلال، وحفظه للقرآن، بالإضافة إلى أنه تلقى تكوينا سياسيا بنضاله في صفوف حزب الشعب الجزائري بأولاد جلال، حيث كان ناشطا سياسيا مكلفا بالدعاية، وأسس لجنة الدفاع عن البطالين وفتح مقهى يتعاطى فيه الشباب العمل السياسي. واعتقلته السلطات الاستعمارية، ثم أطلق سراحه وعاود نشاطه السياسي، ليعتقل مرة ثانية، فاضطر بعد إطلاق سراحه للهجرة نحو فرنسا سنة 1948، وعاد للوطن سنة 1952، وظل كعهده ناشطا سياسيا إلى أن اعتقلته فرنسا ووضعته بسجن الكدية بقسنطينة، حيث كان عدة مصاليين معتقلين بنفس السجن، بينهم بن بولعيد والطاهر زبيري وآخرون، وجهت لهم تهمة تفجير الثورة، وفروا من السجن فيما بعد وأطلق سراح الشيخ زيان مرة أخرى، ليعرج في طريق عودته إلى مسقط رأسه على مدينة العملة التي كانت بها أقوى شخصية بالحركة المصالية، الدكتور "لمين دباغين". وبأولاد جلال، أخذ في تأسيس الجناح العسكري للحركة الوطنية من شبان المناطق المجاورة. ونشير هنا إلى أن "الشيخ" كان كذلك رجلا عسكريا، إذ كان أحد المجندين الذين شاركوا بالحرب العالمية الثانية. واستقطب جيشه مجندين من (الزرقاوية) نسبة إلى البذلة الزرقاء التي كانوا يرتادونها دربوا بالشمال وتم إلحاقهم بجيش الصحراء رفقة مصاليين كانوا بالخارج، منهم العربي مزيان المدعو العربي قبايلي، الذي أسر للمجاهد لزهاري بن شهرة سنة 1956 بأنهم تلقوا تعليمات للالتحاق بجيش الصحراء الذي يقاتل تحت راية مصالي الحاج. * جيش الحركة الوطنية يكتسح شمال الصحراء تمركز الشيخ زيان عاشور بعد أن أصبح لديه جيش عدة وعتاد بنواحي بوسعادة، وبدأ في توزيع الجيش وتقسيم المناطق، موليا "محمد بلهادي" على الناحية الشرقية للصحراء، وبلونيس الذي أصبح أسطورة الخيانة بالمنطقة على الشمال، من قعدة حد الصحاري، وصولا إلى سور الغزلان، و"عبد الرحمان بلهادي" على المنطقة الغربية، و"صابري" بالشمال الشرقي. وبهذا التقسيم، اكتسح جيش الشيخ زيان المناطق الصحراوية، أو عمالة الواحات كما تسميها السلطات الاستعمارية، بمناطق بسكرة، الجلفةوالأغواط، في غياب جبهة التحرير الوطني، مستغلا القواعد النضالية لحزب الشعب، حيث سهلت له مهمة الوصول إلى هذه المناطق. * التعليمة التي أصدرها "بن بولعيد" وطبقت عليه كان الشيخ "زيان عاشور" أحد القادة الذين حضروا اللقاء الذي دعا له الشهيد بن بولعيد شهر مارس 1956، بتافرنت ناحية منعة بالأوراس، كي يستنفر أنصاره بعد الانقلاب الذي تعرّض له من طرف "عاجل عجول" و"بلقاسمي"، مباشرة بعد هروبه من سجن الكدية، وطبقا عليه تعليمته التي أصدرها عند تفجير الثورة، بوضع كل من يهرب من السجن تحت الرقابة لمدة ستة أشهر، الأمر الذي لم يهضمه بن بولعيد واستشهد الأخير في نفس اللقاء الذي لم يفض إلى أية نتيجة؟ * بلونيس يطلب المدد من الشيخ لوقف زحف الجبهة لما كان بلونيس قبل أن يغرق في بحر الخيانة علنا يقود منطقة متاخمة لمعاقل جبهة التحرير الوطني على مشارف الولاية الرابعة، كان يتعرّض لضغوطات من جيش جبهة التحرير الوطني، ما اضطره إلى طلب المؤونة والمدد من الشيخ زيان عاشور، فكان له ما أراد، حيث دعّمه بكتيبة مدججة بأسلحة من مخلفات حرب الألمان. وفي رواية أخرى، قام بلونيس بجلب أسلحة حديثة من جهة مجهولة، واقتصرت مساعدة الشيخ في المؤونة، ليتوجس فيما بعد خيفة من تصرفات بلونيس. * مشاة 228 (r.a.s).. العقيد عميروش واستشهاد الشيخ زيان بقي الوضع منسجما بين المصاليين الذين أحكموا سيطرتهم على هذه المناطق إلى غاية 8 نوفمبر 1956، هذا التاريخ الذي كان منعرجا حاسما في اختلاط الحابل بالنابل ووصول الثوريين من جبهة التحرير الوطني، ومن ثم بدأ بلونيس يرتب للتغلغل مع ريكول و آيمز ضابطي مخبارات فرنسيين، ابتداء من لقاء بني سليمان في 31 مارس 1957. وقبل هذا التاريخ بأسبوع، كوّنت السلطات العسكرية الاستعمارية الفيلق المسمى مشاة 228 بقيادة جون ماري المدعو بوجي، بمنطقة برج الآغا ببوسعادة. ويتشكّل هذا الفيلق أساسا، من المعاد تجنيدهم (les rappeles)، تعداده 700 جندي و40 ضابط صف و5 ضباط، يتمتعون بالنفوذ ورفضوا المشاركة في العمليات القتالية وأسس لهم هذا الفيلق لاحتوائهم نظريا. أثناء إحدى عمليات التمشيط التي كان يقوم بها هذا الفيلق (r.a.s) بالجلفة اتجه جنوبا نحو مسعد وانحرف نحو الجهة الشرقية، أي منطقة عين الملح ببوسعادة، اكتشفت طوافة هيلوكبتر مجموعة من الجنود أو "الفلاڤة"، كما تسميها السلطات الإستعمارية، تتكوّن من 32 جنديا ولم يتمكن العسكر الفرنسي من تحديد هويتهم، وحوصرت المجموعة التي حاولت المقاومة دون جدوى، وتم القضاء على قائدها ومعظم جنودها، وأسر بعضهم بجبل ميمونة بعيدا عن مركز قيادتهم. وظن قائد الفيلق "جون ماري" أنه وقع على (الصيد الثمين)، من خلال شارة القيادة التي كان يتقلدها قائد الجنود (هلال وثلاث نجمات)، وكان هذا الشيخ زيان عاشور الذي تعرفوا على هويته بمساعدة أحد المأسورين. وتزامنت عملية التمشيط التي باشرها الفيلق مشاة 228، مع تواجد أسد جرجرة العقيد عميروش الذي كان في مهمة لتسوية مشاكل المنطقة الأولى بتكليف من مؤتمر الصومام، ليكتشف أن "مصطفى بن بولعيد" قد استشهد منذ مدة بعد أن تم كتم خبر استشهاده من طرف قيادة المنطقة الأولى، بمن فيهم أخ بن بولعيد "عمر"، الذي كان يسعى لخلافته. وقام العقيد عميروش بتحقيق كشف خيوط مؤامرة حيكت ضد بن بولعيد، بتدبير محكم من بلقاسمي الذي أرسله مكبلا لمحاكمته بالولاية الثالثة، ومات بلقاسمي رفقة معتقليه إثر قصف من الجيش الفرنسي فية طريقهم نحو مركز قيادة الولاية الثالثة، وعاجل عجول الذي تلقى معه عميروش صعوبات جمة وصلت حد الاقتتال، مما دفع بعجول إلى الارتماء في أحضان فرنسا بوساطة من والده بزريبة الواد. وكان عاجل عجول قبل التحاقه بالجيش الفرنسي، على علم بمسار ووجهة عميروش نحو الجهة الغربية من الناحية الثالثة بالمنطقة الأولى حسب التقسيم الأول (بسكرة بوسعادة جغرافيا) وهذا لاستكمال المهمة المسندة لكل من العقيد "أعمران" والعقيد "علي ملاح"، هذا الأخير المعين من طرف مؤتمر الصومام قائدا للولاية السادسة، والتي تدخل هذه النواحي في إقليمها وتقع تحت مسؤوليته، واكتفى العقيد "علي ملاح" بإرسال فوج من 35 مجاهدا إلى الصحراء لإقناع المصاليين بالعدول عن موقفهم المناوئ للجبهة، لكن المصاليين غدروا بهذا الفوج (إلا واحدا) يوم 22/10/1956، وهو يوم اختطاف الطائرة المقلة للزعماء من المغرب باتجاه تونس، الأمر الذي دفع بالعقيد عميروش وكان رائدا وقتها إلى الإصرار على إنجاز المهمة ومعالجتها بالنزول إلى عين المكان، غير مكترث بالأخطار المحدقة من جهة فرنسا أو المصاليين، على حد سواء، لكنه تفاجأ بنبأ كاذب مفاده أن قائد الولاية الثالثة محمدي السعيد قد استشهد، ما أرغمه على العودة يوم 01 نوفمبر 1956، تاركا استدعاء لسي الحواس لحضور لقاء شهر ديسمبر 1956 الذي نظم لاحقا. وتطرح عدة تساؤلات: هل كانت مهمة فيلق مشاة 228 تتبع خطوات العقيد عميروش، بوشاية من عجول وبعض العيون، فوقع الشيخ زيان عاشور، أم أن الصدفة لعبت دورها في هذه الأحداث؟ ما يفتح العديد من الاستفهامات والاستفسارات؟؟ قائمة المصادر: كتاب مصطفى بن بوالعيد مواقف وأحداث شاهد على إغتيال الثورة للخصر بورقعة مجلة أول نوفمبر العدد 196-1998 مجلة أول نوفمبر العدد 169-2006 صاحب التصريح اللواء المتقاعد حسين بن المعلم كتاب "جون بوجي" حرب الجزائر.