لعل أول ما يتبادر إلى أذهان القراء الأكارم عند شد انتباههم بواسطة هذا العنوان حدوث جريمة قتل، أو حادث مروّع، أو وقائع مأساوية، أو حريق متعمد للممتلكات...، فيعمد إلى إشباع رغبته في الاطلاع بالاستمرار في قراءة تفاصيل الخبر، وهو ما يعتمده – للأسف – السواد الأعظم من بارونات الإعلام التجاري.. لكن بمجرد أن يعلموا بأن لا شيء من ذلك حدث، فإنه سينصرف أكثرهم – للأسف الشديد – عن متابعة الموضوع، وكأن الجرائم التي نتوقع أن تحدث، أو بالأحرى التي نتأثر لحدوثها، هي فقط تلك التي يجب أن تطال سلامة الإنسان الجسدية أو ممتلكاته المادية.. لكن وبتتبع ما يعرض في هذا المنبر الإعلامي أو غيره من المنابر التي تحترم جمهورها، نقف على تشخيص جرائم فكرية وقيمية تحدث ويتكرر حدوثها يوميًا، تلك المتعلقة بانتقاد الآخرين، لا لشيء إلاّ لأنه يختلف مع آرائهم، بل إنه في كثير من الأحيان غير معني بآرائهم... فتنهمر التعليقات والردود بالانتقادات – التي يكون أغلبها بغير وجه حق - في المواضيع المرتبطة بمصالح شخصية فردية لحظية، يعتقد أصحابها بأنها تعنيهم؛ كالسكنات، ومسابقات التوظيف، والحوادث اليومية..، بينما لا يتفاعل أغلبهم مع مصالح جماعية مستمرة تعني الضمير الجمعي، وحياة المجتمع والأمة جميعا.. وعلى هذا الأساس؛ فإن تناول موضوع أو ظاهرة أو حدث ما في هذا المنبر أو غيره، مثلما ينبغي أن يحترم القواعد المتفق عليها، ينبغي أن تركز التعليقات والانتقادات والتفاعلات مع تلك التغطية على احترام نفس القواعد، وهو ما لم نتعود عليه في مجتمعاتنا عموما، وفي منطقتنا على وجه الخصوص.. حيث لا يخلو أي طرح لموضوعات مختلفة في معظم وسائل التفاعل من انتقادات متباينة وردود أفعال مختلفة، تركز غالبيتها على كاتب المقال أو سياق الكتابة، بينما تنصرف تماما عن لب الموضوع وإشكالية الطرح، وكأننا تعودنا لظروف بعضها موضوعي وآخر ذاتي بحت، أهمها التنشئة الاجتماعية وشهوة الانتصار للذات، على عقلية التفسير التآمري للأحداث.. وهذا ما يناقض القواعد التي توصف بواسطتها تلك الأعمال بالنقد البناء.. ومن جهة أخرى؛ فإن عدم احترام تلك القواعد، لا ينبغي أن يثني أصحاب الطروحات التي تغطي أحداثا أو تفسر ظواهر أو تتناول مواضيع، عن الكتابة ومتابعة جهودهم، لأنه وكما قيل "بقدر قيمتك يكون النقد الموجه إليك"، فالدميم يرى في الجمال تحديا له، والغبي يرى في الذكاء عدوانا عليه، والفاشل يرى في النجاح إزراء به، مثلما يذكر الشيخ الغزالي رحمه الله .. وفي هذا يقول (لنكولن): " لو أنني حاولت أن أقرأ فقط لأرد على ما وجّه إلىّ من نقد، لشغل هذا وقتي كله، ولعطلني عن أعمالي!!.. لكنني أبذل جهدي في أداء واجبي، فإذا أثمرت جهودي فلاشيء من النقد الذي وجه إلي يهمني بعد ذلك، إنه سيختفي من تلقاء نفسه، أما إذا خاب مسعاي فلو أقسمت الملائكة على حسن نيتي ما أجداني هذا فتيلا، حسبي فيما يتصل بآراء الناس أنني أديت واجبي وأرضيت ضميري".. وهذا ما يجعلنا نستصحب معنى النصيحة في استدراك ما فات من كمال لتصحيح أخطائنا، ولو كان النقاد مدخولي النية سيئي القصد، فإن سوء نيتهم عليهم وحدهم، وخير لنا أن ننتفع بما أجراه القدر على ألسنتهم من تصويب، ولعل ذلك الانتفاع يكون أغيظ لنفوسهم المريضة.. والدليل على صحة ما أسلفنا، عدد قراءات هذا العدد من السلسلة، الذي أتوقع أن يرتفع نتيجة عنوانه المثير، مثلما لا أتوقع تفاعلا كبيرا على مستوى الردود، نتيجة زوال مفعول الإثارة لما كتب بعد العنوان، ما يجعلنا تنفهم تصرف "واشنطن بوسط" إحدى أهم كبريات الجرائد الأمريكية حين تتحفظ في نسختها الإلكترونية على إدراج التفاعلات غير البناءة أو التي قد تحرّف المقصود من مقالاتها، التي ترتكز أساساً على صناعة الرأي العام، وذلك لدى أكبر المجتمعات وصفاً بحرية التعبير وفي أشسع مساحات الفضاء الالكتروني.. (*) جامعة الجلفة