كان يجلس إلى جانبي في سيارة أجرة تنبعث من جلابيته رائحة المطر، حينما قال لشاب يجلس في المقعد الأمامي((ذكرني حينما تقترب من ذلك الجبل)) وأومأ برأسه إلى جبل، كان يبدو بعيدا نوعا ما، فقلت له: كيف نقترب منه ونحن نأخذ جهة مخالفة له؟ فقال: بل سنقترب.. لأن الطريق سينعرج، فقلت: يبدو أنك تعرف هذه المنطقة. أرسل زفرة من العمق قوية وقال: بل هي جزء مني أعرفها كما أعرف أبنائي بل أكثر.. توقف عن الكلام قبل أن يقول لي : (( الآن سيبدأ المنعرج)) وما هي إلا هنيهة وإذا إشارة تشير إلى بداية منعرج خطير باتجاه ذلك المكان.. واستزدته الحديث عن ذكرياته فقال: كنا نقطن هذه المنطقة، أنا وأسرتي المتكونة من سبعة أولاد وزوجتي وزوجة ولدي الكبير وابناه الصغيران، قاطعته يبدو أنك مشتاق كثيرا إلى المنطقة وذكرياتها ردَّ فورا : كيف لا وقد دفعت ضعف أجرة المسافة وسأنزل لأرى منازل كان لي معها حلاوة من الحياة ومرارة معا.. سكت بعضا من الوقت ثم رأيته يرفع يديه ويتمتم بكلام يظهر أنه أدعية وانحدرت من عينيه دموع تأثرت لها كثيرا وتطلعت فإذا المقبرة صغيرة، ومسح بيديه على وجهه ومسح دموعه أيضا، وأرسل زفرة أخرى مزجها باستغفار وترجيع وحولقة، وكنا قد دنونا من الجبل المشار إليه من قبل، فطلب من صاحب السيارة التخفيف من السرعة لأنه سينزل عنا، وأثارني حاله وأخذني الفضول فلم أشعر إلا وأنا أنزل معه رغم أنني كنت سأواصل الطريق.. نزلنا ومعنا ذلك الشاب، فقلت له: حيرني أمرك أفصح لي عما تكنه وأطلق العنان للسانك وفك قيود أفكارك؟ فقال:هنا كانت خيمتي وهذه آثارها وقد تكون هذه الأثافي شاهدة، وهنا كنا نجتمع كل مساء نتأمل هذا الكون الفسيح وهناك كان قطيعي يرعى، وهنا يسكت، قلت واليوم أين كل هذا؟ وماذا جرى؟ فتهاوى وكاد يسقط فأسرعت إليه أمسكه وأجلسه ومعي ذلك الشاب ولحظت أنه يستخدم يده اليسرى فقلت بغضب أمسك بيديك الاثنتين فابتسم حزينا وقال أما اليمنى فقد سبقتني إلى ربي، فقلت: لا أفهم عنك ما تقول ! هنا عاد إلى الشيخ وعيه وانبعثت فيه قوة، وسبقنا أحباب كثر إلى هناك. والتفت إلى الجبل وصاح بأعلى صوته واجبلاه وامعتصماه لقد حميتني طويلا لكنك تخليت عني وقت المحنة، وبللت الدموع لحيته فقلت : كيف ذلك ؟ ومن أنت ؟ ومن هذا الشاب ؟ ثم ما هذه الألغاز المحيرة ؟ فقال : ذهب أفراد أسرتي كلهم قتلوا جميعا فقلت في زمن الاستعمار قال بل في زمن الاستقلال فقلت من فعل هذا؟ قال لا أدري لكنهم بشر مثلنا يتكلمون لغتنا يمارسونا عادتنا وتقاليدنا فهم منا قطعا... رثيت لحاله ولأحوالنا جميعا وقلت سنكمل القصة فيما بعد أما الآن فلنقف على قارعة الطريق نستوقف من يحملنا إلى ضجيج المدينة.