من العوربة المبكرة لقضية فلسطين إلى تفريغ مشروعها النضالي للتحرر واستعادة الوطن السليب، إلى تذويب مشروعية الكفاح والمقاومة بالتدويل والحرب العالمية ضد الإرهاب تنظر هذه الورقة في الحصيلة المأساوية لتضحيات الشعب الفلسطيني في نهاية العقد الأول من هذا القرن، في منطقة ظلمته وظلم نفسه. ماذا بقي من القضية؟ وما هي الرهانات؟ وما هو مصير إسرائيل؟ على ضوء ميزان القوة الدولي المتغير؟ في هذه الورقة نتجنب الأحكام المتسرعة وتوزيع الاتهامات. ونجيب على التساؤلات السابقة بمنهج الارتجاع (Feed-back) الصاعد الذي يتجه من الحاضر نحو الماضي ليعود إلى الراهن لاستشراف بعض مؤشرات مستقبل إسرائيل في المنطقة والعالم. 3 - الخطيئة الأولى وتصفية الحساب بين اليهودية والمسيحية: - كانت تلك التعاليم من أهم أسباب تشرد (L'errance) اليهود منذ 1800 عام قبل الميلاد بين يهودا والسامرة التي لم يستقروا فيها أبدا كدولة فقد ضمّها مثلا طوال تلك الفترة الطويلة الفينيقيون والكنعانيون والهكسوس والمصريون (الفراعنة) والبابليون (وادي الرافدين) والفرس والإغريق حتى التدمير النهائي لهيكل سليمان حوالي 70 سنة بعد الميلاد وخضوع كل المنطقة للإمبراطورية الرومانية. هذا هو الهيكل الثاني الذي يدعي اليهود أن القدس الشريف قد بني على أنقاضه متناسين الموقف الإنساني المتسامح والبعيد النظر للخليفة عمر بن الخطاب الذي رفض إقامة الصلاة في أي معبد للمسيحيين أو اليهود احتراما لعقائدهم ورموزهم، إن الذي حطم الهيكل الحقيقي أو المزعوم ليس المسلمون، إنهم الوثنيون الرومان، ثم المسيحيون الذين أساءوا إليهم في 99٪ من أزمنة التاريخ حتى منتصف القرن الماضي. - بدأت ظواهر معاداة اليهود كممارسة ممنهجة في العالم المسيحي وخاصة في قرونه الوسطى، فقد رسخ في العقيدة المسيحية بكل مذاهبها أن اليهود هم الذين قتلوا "ابن الرب" عيسى عليه السلام، وهو اليهودي أصلا وقد حصل إجماع حول هذا الاتهام في المجمع الكنسي الذي انعقد سنة 325 بعد الميلاد واستثنى المجمع من الخطيئة الأولى )قتل المسيح( قلة من القرية التي ولد فيها وهي الناصرة وهم الذين جاء ذكرهم في القرآن بوصف الحواريين والنصارى نسبة إلى قرية الناصرة وهو الإسم الشائع في الفضاء الشعبي المغاربي والجزائر بوجه خاص وتسمية الروامة بالدارجة الجزائرية وإيروميّنْ بالأمازيغيّة نسبة إلى الكنيسة الرومانية الشرقيّة (بيزنطه). - ساد الإعتقاد في الكنيسة المسيحية بأن الفقر من علامات الإيمان وأن القرض والربا بين المسيحيين خطيئة وحرام، وهو اعتقاد من جهة على النقيض من التعاليم التلمودية ومن جهة أخرى يفسح المجال لليهود لتكديس الثروة عن طريق الإقراض الربوي ومن هذا التناقض بين العقيدتين بدأ الثأر من اليهود واتهام الكنيسة لهم بأنهم لصوص ربويون قتلة الأطفال ومصّاصي دمائهم ومتآمرين على غيرهم بالغش والسمّ. 4 اليهود ضيوف دار الإسلام: - لم يجد اليهود من ملجأ يقيهم من التشريد والاضطهاد سوى دار الإسلام حيث التزم المسلمون دولة ومجتمعات طيلة 13 قرنا باستثناء فترات قصيرة (لبس الزنار). باستقبالهم بتسامح كبير لا يمس كرامتهم وشعائرهم الدينية واعتبارهم من أهل الذمة أي العهد مقابل الجزية أي ضريبة تكاد لا تميزهم عن المسلمين، ولم يحدث أبدا كما يقرر جاك عطالي في دراسته المذكورة آنفا (ص 311300) أن تمّ تهجيرهم أو فرض الإسلام عليهم من القرن الثامن حتى سقوط الدولة العثمانية وما بعدها في المجتمعات الإسلامية تحت الحماية والاحتلال. - شارك اليهود في النهضة العلمية وكان من بينهم علماء وأطباء وتراجمة حظوا بعناية الخلفاء والأمراء في عهود الدولة الأموية والعباسية وكان من بينهم سفراء ومستشارون في دواوين الدولة الإسلامية، بل تولوا شؤون المال والأعمال والإشراف على الخزانة أي بيت مال المسلمين(!) وكانت الأندلس التي استقروا فيها بمثابة جنة عدن التي لم تخطر على بال اليهود مقارنة بما تعرضوا له في أروبا المسيحية ونجد فصولا موثقة في دراسة لآدم ميتز عن حضارة الإسلام في القرن الرابع الهجري، ومن الملاحظ أن عطالي لم يذكر في مراجعه سوى ترجمة للقرآن من بين 662 مرجعا كما أنه يشير في بضع صفحات 177 - 188 إلى الوضع المريح والامتيازات التي حصل عليها اليهود في دواوين الدولة وخاصة في الأندلس حيث كان منهم سفراء ووزراء ومستشارون وحتى رئيس وزراء وقائد للجيش، وهو ما لم يحظ به اليهود طوال القرون الوسطى الأروبية. 14 الكاثوليكية الاسبانية تستأصل اليهود والمسلمين: - لم تدم تلك الجنة الأندلسية بعد سقوط الأندلس وبداية حملات استعادة الأندلس ومتابعة غير المسيحيين في محاكم التفتيش وحرقهم أحياءً تقربا للصليب (Reconquista- inquisition)، يقدر بعض الباحثين أن الكاثوليكية الإسبانية المتعصبة إلى حد الهوس قامت بعد استئصال الإسلام والمسلمين من شبه الجزيرة الإيبرية بقتل حوالي خمسين ألف من اليهود وأجبرت حوالي 100,000 منهم على اعتناق المسيحية وأطلقت عليهم اسم الخنازير ( Marranos بالإسبانية) بينما عاش حوالي مائة ألف يهودي في أمن ووئام مع المسلمين والمسيحيين في فلسطين العثمانية. - في بداية القرن 16 فرّ من بقي على قيد الحياة من اليهود نحو تركيا (93.000) وإلى الجزائر (10.000) وإلى المغرب 20,000 عن طريق جبل طارق و(2000) نحو مصر وحوالي (5000) نحو أمريكا، ونشير بالنسبة للجزائر أن اليهود الذين وجدوا قبولا حسنا في شمال البلاد وجنوبها ومارسوا شعائرهم بحرية في معابدهم ولم يتعرضوا لأي اضطهاد واحتكروا التجارة والتصدير إلى شمال المتوسط وخاصة فرنسا، وكان لعائلتي بكري وبوشناك دور في مشاكل خزينة الداي ومؤامرة حادث المروحة. 5 يهود الجزائر يتنكرون لمن أحسن إليهم: تنكرت هذه الجالية اليهودية التي استقرت في الجزائر في أمن وطمأنينة إلى الشعب الذي آواها وعاملها بالحسنى واستغلت فرصة تولي يهودي وزارة العدل في حكومة فرنسا هو كريميو (CREMIEUX) فحصلت على الجنسية والمواطنة الفرنسية (1872) وتحولت إلى حليف للكولونيالية الفرنسية وجذبت العديد من يهود المنطقة المغاربية، وبعد أن طعن يهود الجزائر اليد التي مسحت دموعهم في إسبانيا وفي فترة حكم فيشي التي أشرنا إليها فيما سبق، هل بقي لهم نسب أو ميراث في الجزائر؟ هل يتذكر إنريكو ماسياس خيانات أسلافه الانتهازيين؟ قبل أن يشكو من حرمانه من زيارة آثار آل ماسياس في قسنطينة وغيرها من مدن الجزائر التي يتذكر أبناؤها ماضيهم، وإن كانوا ولا زالوا لا يحقدون حتى على العدو الكولونيالي وحلفائه الذين غادروا البلاد نحو فلسطين وإلى فرنسا للتحريض على مضيفيهم في الجزائر والموجودين في المهجر. 6 البروتستانت من العداء إلى التحالف: في منتصف القرن السادس عشر جدّد الإصلاحيون (البروتستانت) العقيدة المسيحية فألغى كل من لوثر وكالفن الكثير من المحرمات في الكنيسة الكاثوليكية فأجازوا مثلا جمع المال والمعاملات الربوية وأصدر توماس الإكويني فتوى حول الربح الحلال والربح الحرام ومن ذلك التاريخ اندلع صراع بين الرأسمالية البروتستانتية وخزاني المال اليهود المنافسين الاقتصاديين لمعتنقي المذهب الجديد، وقد أصدر لوثر مؤسس ذلك المذهب مجموعة من الدفاتر الكنسية بعنوان ''ضد اليهود وترهاتهم'' أعاد فيه التأكيد على التهم المعهودة في العالم المسيحي ضد اليهود ومنها القتل الطقوسي، السحر دسّ السمّ، امتصاص دم الأطفال.. ودعى صراحة إلى حرق منازلهم ومعابدهم ومصادرة أملاكهم وكتبهم الدينية والحكم على كل اليهود بالأشغال الشاقة، من الواضح أن النازية لم تكن أكثر من تطبيق تلك التعاليم اللاهوتية بوسائل تكنولوجية. من التحولات التاريخية الجديرة بالاستقراء والتفسير انتقال العداء بين اليهود والبروتستانت إلى حلف مقدس بلغ حد التوحّد بين ما يسمى اليمين الأمريكي البروتستانتي المتصهين وإسرائيل إلى درجة التطابق بين السياسات الأمريكية منذ حوالي نصف قرن وبين إسرائيل ولوبياتها المهيمنة على مؤسسات العام سام وقسم كبير من الرأي العام الأمريكي الشديد التديّن. وإذا قارنا من جهة بين إسرائيل التي تأخذ كل شيء من الولاياتالمتحدة ولا تكاد تعطي شيئا أكثر من دور دركي ونسخة طبق الأصل من الاستيطان في شمال أمريكا بالحديد والنار وبين ما تقدمه منطقة الشرق الأوسط التي أغراها بوش الابن بوصف الكبير كما فعل سايكس بيكو في بداية القرن الماضي بأكذوبة المملكة الوهمية من جهة أخرى، لوجدنا أن شعوب فلسطين وما جاورها وقادتهم يظلمون أنفسهم قبل أن يظلمهم غيرهم.
7 خلاصة: مهما طال التنكيل بالشعب الفلسطيني وتشريده وتزايدت عمليات التطهير العرقي في القدس وما جاورها وظهر وتصدر كارزايات -(جمع كرزاي أفغانستان)- الخدمة التابعة على الساحة الشرق أوسطية، فإن توازن القوة الحالي ليس أبديا، إن العالم في تحوّل دائم قد تطول أزمنة إمبراطوريات الهيمنة والسطوة، وقد يستمر الضعف والغفلة والاستغفال قرونا، ولكن كل قوة ظالمة تحمل في بنيتها جينات فنائها كما هو حال الجسد البشري الذي تتداخل فيه عمليات الإيض (ميتابوليزم- كاتابوليزم) أي الهدم والبناء، وعندما يتغلب الهدم بالأزمات المتتالية يذبل كيان الامبراطورية وقد تنهار، ماذا تكون إسرائيل بدون ڤالسّيرومڤ الأمريكي وحلفه الأطلسي؟. ماذا بقي من إمبراطوريات سادت ثم بادت أو انكمشت من البابلية والفرعونية والرومانية والإسلامية إلى البريطانية، وهناك ما يشير إلى التحلل البطيئ للإمبراطورية الأمريكية وظهور أخرى قد تكون هي الصين وقد جاء في القرآن الكريم ''وتلك الأيام نداولها بين الناس''. لقد بدأ الشعب اليهودي بالتشرد والتنقل بين أرجاء العالم القديم ثمّ الجديد، وقد ينتهي أمره كما بدأ، وهذه هي الخلاصة التي ختم بها جاك عطالي دراسته عن اليهود والعالم والمال ومؤداها: ڤ إذا قصر اليهود هويتهم على الأرض التي كسبوها فقد ضاعواڤ، وهذه شهادة لمفكّر وفيّ ليهوديته تضاف إلى غيرها تتنبأ بأن المستقبل الحقيقي لليهود هو خارج يهودا والسامرة أي فلسطين التاريخ الحقيقي والمستقبل. إنتهى