عرفت مدينة العبادلة (88 كلم جنوب عاصمة الولاية بشار) وما جاورها من مناطق، على غرار: (كسيكسو، مَنُّونات ..) إبّان الثورة التحريرية العديد من المعارك الفاصلة والاشتباكات الهامة والعمليات النوعية، التي أرْبَكت العدو وبثّت الرّعب والهلع في نفوس ضباطه وجنوده. وقد كان أبناء هذه المنطقة من الأوائل الذين لبّوا نداء الواجب الوطني، فأبْلوا البلاء الحسن في مقارعة الغزاة وقدّموا أعزّ ما يملكون في سبيل الحرية والكرامة، بالرغم من قلة عدد سكانها آنذاك، وطبيعتها الصحراوية المكشوفة والمسطّحة التي يغلب عليها طابع (لحمادة)، إلا أنّها قدّمت قوافل من الشهداء، قُدّر عددهم ب ( 175 شهيدا )، مازالت المدينة تَزْهُو بهم وتفتخر بشجاعتهم وإقدامهم وتتباهى بمستوى عملياتهم العسكرية والفدائية التي استهدفت عساكر الاحتلال الفرنسي ومصالحه الحسّاسة.. ومن هؤلاء الصناديد الذين كانت بطولاتهم شاهدة على شجاعتهم وإخلاصهم؛ الشهيد بشري بلقاسم بطل (معركة الجرف) بالعبادلة بتاريخ 09 أوت 1959، التي ارتقى فيها شهيدا في ميدان الشرف، معرفيق دربه الشهيد الشهير باسم العربي بن حمزة، اللذيْن سطّرا فصول هذه الملحمة وسجّلا اسميهما بأحرف من ذهب في سجل الخالدين. شيء من حياته خلال عام 1922 وفي رحاب مدينة العبادلة استبشر السيد بشري عبد القادر بن بشير وزوجته السيدة مباركة بنت مقدّم بميلاد ابن لهما، أطلقا عليه (بلقاسم) تيمّنا بكنية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي تلك الربوع التي يغلب على نشاط سكانها الرّعي والفلاحة نشأ وترعرع الفتى بلقاسم في أحضان أسرته الكريمة المتشبّعة بالوطنية والوفاء والإخلاص وحبّ الوطن . استظهاره القرآن الكريم بأدرار: وعندما بلغ من العمر (13 عاما) أرسل به والده إلى مدينة أدرار، حيث قطع مسافة تقارب أل(600كلم) راجلا، صحبة إحدى القوافل التجارية المحملة بالقمح والشعير والمتّجهة إلى أدرار، لينظمّ إلى إحدى الزوايا العلمية هناك، حيث لبث فيها بضع سنين أتمّ خلالها استظهار القرآن الكريم كاملا على يد بعض مشايخها وعلمائها، إلى جانب الإحاطة بمبادئ الدين الإسلامي وإجادة اللغة العربية. بعدها قَفَل راجعا إلى مسقط رأسه العبادلة، التي تتوزع على عديد الأحياء، منها: بوحلاس، الجرف (التي سقط فيها مترجمنا شهيدا) المطارق، الباردة، الخملية، سفيفة الرمل، الصحيبي، دشيرة، جرمل، بوذيب، لمعلم، عقلة الحدب (التي كانت مركزا رئيسا للمجاهدين)...وغيرها. ..بمناجم الفحم الرهيبة بالقنادسة ولما بلغ الرابعة والعشرين من عمره، وحتى لا يكون عالة على والديه وأسرته فقد اضطر للعمل في مناجم الفحم الحجري بمدينة القنادسة، ونتيجة للمعاناة التي كان يكابدها العامل الجزائري في هذه المناجم الرهيبة وأنفاقها المظلمة، والمعاملة القاسية التي كان الجزائري يعامَل بها والتمييز الذي كان سيّد الموقف في هذه المناجم، وكان شهيدنا يراه بأمّ عينيه ويعيشه مع إخوانه العمال الجزائريين المستعبدين والمهضومة حقوقهم!مقارنة بالمهندسين والعمال الفرنسيين.. فقد تولّد في أعماق نفسه حقد دفين وعداء متأصّل وبُغض شديد تجاه هؤلاء الغزاة الذين يستغلون بني قومه ويستحوذون على خيرات بلاده. وفي شهادة لرفيق دربه المجاهد بن علي محمد (المولود عام 1939 بالعبادلة) فقد كان الشهيد بشري بلقاسم مجاهدا مخلصا لربّه ولوطنه لا يعرف الخوف والتراجع والاستسلام.. متقنا للغة العربية الفصيحة التي اكتسبها من خلال حفظه للقرآن الكريم، وقد كان ذلك سببا في أن يكون خطيبا مفوّها يستهوي ألباب سامعيه، كما كان نائبا للشهيد تُرَابي بوجمعة بمنطقتي العبادلة وكسيكسو هذه الأخيرة التي أُزِليت معالمها ومركز تعذيبها للأسف الشديد في جزائر الاستقلال!. مسيرته في الحركة الوطنية حتى يجد الشهيد بشري بلقاسم فضاء للتكوين السياسي والنضال الوطني والاستعداد لليوم الأغرّ الذي كان ينشده الشعب الجزائري ويتطلّع إليه، فقد انظم قبل الثورة إلى خلية لحركة انتصار الحريات الديمقراطية، التي خلَفت حزب الشعب الجزائري بعد حلّه عام 1939 قبيل الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، وقد كانت هذه الخلية تنشط بالمنطقة من خلال توزيع المناشير والمطبوعات وحضور اللقاءات السرية التي تعمل على توعية الشباب ونشر الثقافة الثورية في أوساطهم،سواء في المجالس التي تُعقد بالبيوت أو بالمقاهي والنوادي، رغم قلتها في تلك الفترة، فتشبّع الشاب بلقاسم بالمبادئ التنويرية لهذا الحزب وبأفكاره الثورية التحرّرية التي كانت تدعو إلى استقلال الجزائر، لاسيما بعد إنشاء هذه الحركة للمنظمة الخاصة العسكرية LOS خلال مؤتمر فيفري 1947، وكانت مهمّتها الرئيسة تكمن في الإعداد العملي للثورة المسلحة. ..في ملحمة نوفمبر 1954 بعد اندلاع ثورة أول نوفمبر وبداية اتساع رقعتها، كان الشاب بلقاسم في طليعتها ضمن النشاط المدني السّرّي بداية من 01 نوفمبر 1954 حسب وثيقة الاعتراف الخاصة به، التحق بعدها كجندي بصفوف جيش التحرير الوطني عام 1956 بمنطقة وادي قير بنواحي مدينة العبادلة، ولم يكتف بذلك بل قام بدوره الثوري بتوعية وتجنيد نخبة من شباب المنطقة. ومع حلول عام 1958 وازدياد الطوق المحكم الذي ضربه الاحتلال الفرنسي على مدينة العبادلة، التي حوّلها إلى محتشد رهيب تحيط به الأسلاك الشائكة من كل مكان، واشتداد الحصار على سكانها العُزّل، عُيّن الشهيد بشري في هذه المرحلة الحرجة مسؤولا سياسيا بالمنطقة الثامنة بالولاية الخامسة التاريخية. وبالرغم من أعبائه السياسية ومهامه الثورية فقد شارك وقاد عديد المعارك والاشتباكات، حسب الشهادة الحيّة لرفيق دربه المجاهد ملوح حَمّو (المولود عام 1936 بمدينة بني عباس بولاية بشار، وعضو جيش التحرير الوطني) التي أدلى بها إلينا بتاريخ 08 سبتمبر 2018، ومن هذه العمليات العسكرية معارك: حي الزريقات، شط الرويضة في قير لطفي، لحطيبة بمنّونات نواحي العبادلة، قارة بلهامل، معلم الجيهاني، شعبة الكبّار، عوينت يحيى بمنطقة العبادلة، تادمين، القطارة .. استشهاده في معركة الجرف إلى جانب (معركة الجرف) التي لقي فيها ربّه شهيدا مع رفيق دربه الشهيد العربي بن حمزة، وفي هذا السياق فقد روى لنا المجاهد بن علي محمد في شهادته الحيّة التي خصّنا بها بتاريخ 08 سبتمبر 2018، أن معركة الجرف جرت وقائعها يوم 09 أوت 1959، وكان سببها الرئيس أن سبعة من المجاهدين كانوا بمنطقة الجرف ومعهم جمل، وهم: - بشري بلقاسم، الشهير باسمه الثوري رضا (قائد المجموعة وشهيد المعركة) - العربي بن حمزة (شهيد معركة الجرف) - أحمد بلحسين، الشهير باسمه الثوري أحمد شاطو (مجاهد متوفّى) - بوزيد الطيب (مجاهد متوفّى) - بلحاج سالم (مجاهد متوفّى) - سعيداني خليفة (مجاهد متوفّى) - خليفي محمد البشير (مجاهد حي يُرزق، تم تكريمه مؤخّرا بمتحف المجاهد من قبل والي بشار السيد أحمد مباركي بمناسبة ذكرى ثورةغُرّة نوفمبر 2018). وكان في حوزة هذه المجموعة وثائق وسجلاّت جدّ هامة، تتعلّق بالمجاهدين والفدائيين والمناضلين وقوائم المشتركين من الرجال والنساء بالعبادلة وكسيكسو ..، ومعلومات خطيرة عن النظام الثوري بذات المنطقة. وقد رصد العدو تحرّكات المجموعة، ففرض حصارا مطبقا عليها بقوة عسكرية ضخمة مجهّزة بمختلف الأسلحة، فأدرك قائد المجموعة الشهيد بشري بلقاسم خطورة الموقف. وخوفا من أن يستولي العدو على تلك الوثائق فينفرط عقد الثورة بالمنطقة، وحتى ينجو أفراد المجموعة ومعهم الوثائق فقد طلب منهم مغادرة المكان والبقاء بمفرده، ليتحمّل المسؤولية بنفسه حسب شهادة ذات المجاهد ويضلل بذلك العدو ويشغله ربحا للوقت ولتمكين أفراد المجموعة من الانسحاب، فبادره المجاهد العربي بن حمزة قائلا بثبات: وأنا سأبقى معك، فقال له الشهيد بشري إذن سنلقى الله اليوم شهيدين بإذنه تعالى، وردّدا معا قوله عزّ وجل: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. وبعد انسحاب أفراد المجموعة ونجاتهم زاد العدو في تضييقه على الشهيدين وشدّد الحصار عليهما، وكان في اعتقاده أنه يحاصر مجموعة ضخمة من المجاهدين!، وبعد تبادل كثيف لإطلاق النار استمر من الساعة العاشرة صباحا إلى غاية الواحدة زوالا حتى نفدت ذخيرتهما، فتمكّن العدو منهما فصبّ جام غضبه وأجهز عليهما فأرداهما شهيدين، بعدما لقّناه درسا في البسالة والشّجاعة ومعاني الصّبر والثّبات، وقد كبّدوه خسائر فادحة في الأرواح تكتّم العدو على حجمها كعادته،بالرغم من عدم تكافؤ القوّتين، مجاهديْن اثنين فقط مقابل قوة ضخمة من الغزاة المجهّزين بأحدث الأسلحة!. رحل الشهيد بلقاسم إلى ربّه، تاركا لزوجته المرحومة المجاهدة السيدة غويزي ميلودة (1925 2012) من الأبناء: (عبد القادر ومحمد وأمحمد). وكاعتراف من جيل الاستقلال ببطولات هذا الشهيد الرّمز لتكون مسيرته مَثلا يُحتذَى وأُنموذجا يُقتدَى فقد أُطلق اسمه على أقدم الابتدائيات ببلدية العبادلة، إلى جانب تسمية مستشفى بها وابتدائية بمدينة تندوف، كما أُطلق اسمه على دفعة عسكرية بالمدرسة العليا البحرية بتمنفوست بالجزائرالعاصمة بتاريخ 21 جوان 2011، وعلى الدفعة العسكرية لسنة 2010، ببلدية عرق فرّاج بدائرة العبادلة، وأخرى بذات البلدية عام 2015