إذا كان شباب “الثورة” في اليمن يعوّل على المسيرات الكيلومترية الطويلة وعلى صراخه في المظاهرات والاحتجاجات لفرض رفع الحصانة عن رئيسه علي عبد اللّه صالح وتقديمه للمحاكمة هو وحاشيته، فاعتقادي الكبير بأن قدماه ستحفى وتدمى وتتفطّر وأحباله الصوتية ستمزق، ولن يتحقق مبتغاه ببساطة شديدة، لأن المبادرة الخليجية أخرجت صالح إلى برّ الأمان بعد أن مدته بزورق النجاة الذي سينقله في جولة سياحية أو علاجية قبل أن يعود لما تهدأ العاصفة لاستئناف العمل مع حزبه كمعارض كما صرّح شخصيا وربما العودة هو أو أحد أبنائه إلى كرسي الرئاسة الذي إنتزع منه عنوة بعد أن ظل ملتصقا به لأكثر من ثلاثة عقود. إنها صيحات في واد ومهما سار ورابط بالساحات والميادين، ومهما قدّم من تضحيات وواجه من رصاص، فالمؤكد أن الشباب اليمني الثائر سيخفق في تتويج انتصار ثورته بجر صالح ليحاكم ويعاقب ويخرج من أضيق الأبواب، كما حصل لنظرائه في تونس ومصر وليبيا ولاحقا في سوريا، بل على العكس تماما سيظّل انتصاره ناقصا مادام أن الأيدي الخليجية والأمريكية امتدت لتطفئ نيران الأزمة في اليمن ولتمد صالح بقشة النجاة. ستتقرّح أقدام اليمنيين الساخطين وستبح أصواتهم، إن هم اعتقدوا بسذاجة أن السير لآلاف الأميال وتكسير جدار الصمت صراخا وصياحا للمطالبة بالقصاص من الرئيس اليمني سيحقق هدفهم الرئيسي من الثورة التي أعلنوها قبل نحو عام ودفعوا ثمنها غاليا، وهو تنحي صالح عن الحكم ومحاكمته وأبنائه وبطانته، الذين يسيطرون على مختلف دواليب السلطة ويهيمنون على مؤسسة الجيش والأمن التي كانت وراء جرائم ومجازر لا تغتفر. لقد غاب عن شباب “الثورة” في اليمن بأن بلاده ليست ليبيا حتى يعذب قائدها ويموت شر ميتة وينكل بجثته، وليست تونس حتى يفر رئيسها واللعنة والجبن يلاحقانه، وليست مصر حتى يذل رئيسها وأبناؤه ويسجنون مع أعمدة نظامه الفاسد الخائن، ولا حتى سوريا التي تشير كل التوقعات بأن رئيسها سيساق إلى أفظع النهايات، فدولة اليمن وإن كانت أزمتها مستنسخة عن أزمات الشقيقات السالفة الذكر، فهي تحمل خصوصيات تجعلها تلقى معاملة خاصة تقضي بمعالجة أزمتها بليْن وبطرق سلمية وتفضي إلى انقاذ رئيسها من أي محاسبة أو معاقبة. إتفاق لا يُبكي الراعي ولا يجوّع الذئب وتتلخص هذه الخصوصيات في عاملين رئيسيين، أما الأول فهور الانتماء الجغرافي الذي وضع اليمن في الحديقة الخلفية للبلدان الخليجية الحريصة كل الحرص على هدوء واستقرار جوارها ومحيطها، باعتباره ضمانة لهدوء واستقرار داخلها. ومثلما وقفنا في الربيع الماضي على استنفار الشقيقات الخليجيات ووقوفهن بحزم إلى جانب سلطات البحرين لإخماد انتفاضة دوّار اللؤلؤة، بل ورأينا كيف أن دول الاتحاد الخليجي، كما ستسمى مستقبلا، لم تتوان عن التدخل العسكري من خلال قوات “ذرع الجزيرة” لإجهاض الحركة الاحتاجاجية الشيعية وإعادة الأمن والهدوء لمملكة البحرين، وقفنا على تحرك خليجي حثيث لحلحلة الأزمة اليمنية بشكل سلمي وسلس، وذلك من خلال إتفاق لا يبكي الراعي ولا يجوّع الذئب، أي يقرّ بتنازل صالح عن السلطة كما تريد المعارضة ولا يعرضه لأي محاسبة كما يريد هو، حيث تجاهل اتفاق نقل السلطة هذا المطلب الرئيسي للشباب الذي كان وقودا لثورة التغير ولايزال دافعا للمسيرات والاحتجاجات المتواصلة وهو تقديم صالح وبطانته للعدالة ليدفعوا فاتورة ما فعلوه باليمن طيلة 33عاما، إذ حوّلوه إلى بؤرة للنهب والسلب والفساد وكبّلوه بأغلال الفقر والتطرّف والعنف والإرهاب والحروب الانفصالية والتدخلات الخارجية. أما العامل الثاني الذي ساعد على إيجاد مخرج سلمي للأزمة اليمنية وخلص صالح من نهاية بن علي ومبارك والقذافي، فهو تحالفه وتعاونه الوثيق مع الإدارة الأمريكية طول السنوات الماضية، خاصة في مجال الحرب على الإرهاب إذ قدّم علي عبد اللّه صالح اليمن على طبق من ذهب لأمريكا لكي تمارس فيها حربها المبهمة على الإرهاب بكل حرية، وأصبحت المقنبلات الأمريكية تقصف وتقتل اليمنيين متى شاءت. والأمر من كل هذا أن الرئيس صالح كان يزعم بأن طائراته هي التي كانت تلاحق الارهابيين وتقصفهم وقد فضح “ويكيليكس” هذا التعاون وكشف زيف هذه الادعاءات الكاذبة، والظاهر أن أمريكا أرادت رد الجميل لهذا “الخادم” المطيع، فدفعت الخليجيين إلى مدّه بقشة النجاه، وأوعزت إلى قنوات الفتنة لتبعد عنه أضواءها وسيوفها الحادة وتوجهها بدل ذلك صوب النظام السوري بعد اجهازها على النظام الليبي، وها هي تستعد لاستقباله بالأحضان، بعد أن أعلن صراحة بأنه سيذهب لأمريكا، ليس للعلاج لأنه في صحة جيدة، وإنما استعداد للعودة!... ومازلات الإدارة الأمريكية حريصة على إخراج صالح من أزمته كالشعرة من العجين، إذ يبدل سفيرها في صنعاء “جيرال فايرستاين” كل جهوده لإحباط عزيمة الشباب في مواصلة “ثورته” وتحميله مسؤولية ما يقع من عنف وقتل إذ وصف في بداية الأسبوع “مسيرة الحياة”: بأنها غير سلمية وغير شرعية وطبعا من خلال توفير خروج آمن ومشرّف لصالح ،ومن خلا ل نزع فتيل الأزمة باليمن تكون أمريكا تقدم أكبر خدمة لحلفائها الخليجيين، إذ أنها تعمل على حفظ أمن وهدوء منطقتهم التي تعتبر خزان العالم من الذهب الأسود. تنفيذ المبادرة الخليجية مستمر رغم المعارضة الشعبية ليسير الشعب اليمني المسافات التي يريد، وليصرخ ويعتصم ويحتجّ ما استطاع، فهو لن يغير من الأمر شيئا فاتفاق نقل السلطة الذي وقّعه صالح والمعارضة المنضوية تحت لواء “اللقاء المشترك” في 23 نوفمبرالماضي وحاز تزكية ومباركة العالم أجمع، ماض إلى التنفيذ، إذ تمّ تشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة محمد سالم باسندوة لتقود المرحلة الانتقالية والتحضير للانتخابات الرئاسية المبكرة في 21 فيفري القادم، كما تمّ تشكيل لجنة الشؤون العسكرية وتحقيق الأمن وشرع في إنهاء المظاهر المسلحة من مختلف مناطق البلاد وإخلائها من المليشيات والمجموعات المسلحة وغير النظامية وإزالة حواجز الطرق ونقاط التفتيش والتحصينات المستخدمة في كافة المحافظات. ولا أعتقد بأن “مسيرة الحياة” أو المرابضة بالساحات سيعيد عقارب الساعة إلى الوراء أو يعيد النظر في الحصانة الممنوحة لصالح، بل على العكس تماما سيزيد من تمديد الأزمة وتعميق الجراح والأولى باليمنيين بدل التركيز على حصانة صالح التي فلتت من أيديهم، الالتفات إلى مراقبة عملية الانتقال السلمي للسلطة ومتابعتها والمشاركة فيها لسد المنافذ أمام أذناب النظام ولصوص الثورة الذين قد يسعون للصعود إلى الحكم ولو على أكوام الجثث. لذا على الشعب اليمني أن لا يٍُحسّ بغصة المنهزم في حلقه، بل على العكس تماما عليه أن يفتخر لأن تضحياته أتت أكلها، واستطاع أن يغير النظام كما أراد، واليوم عليه أن لا يلتزم المعارضة أو الحياد وأن لا ينأى بنفسه عن عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة، بل عليه أن يكون مهندسها ومنفذها، والأكيد أن أي رئيس قادم سيحسب ألف حساب لهذا الشعب الذي رغم المحن التي مرت عليه، ورغم الجوع والقهر، فقد لقّن العالم درسا في الإرادة والقوة التي لا تقهر. ويبقى على الدول الخليجية التي رعت حلّ أزمته السياسية أن تواصل جميلها وتساعد الشعب اليمني على تجاوز مصاعبه الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهي كبيرة وكثيرة. وفي الواقع، فإن اليمن بحاجة ماسة إلى مساعدة ودعم كبيرين من الأشقاء وحتى من الغرب الذي يهلّل للتغيير، لأن مشكلة اليمن ليست مع النظام فقط، بل مع الفقر والبطالة والعوز. وفي الأخير، وفي ظلّ التوتر الذي مازال يخيّم على الأجواء في اليمن، يخشي البعض من العودة إلى النفق المظلم والدخول مجددا في عنق الزجاجة بحرب أهلية، عواملها متوفرة وتنتظر من يشعل فتيلها.