يعتبر التصوير السينمائي وتوابعه من إخراج وتمثيل واحد من أكثر أنواع الفن شعبية، هذا الفن الذي يستخدم الصوت والصورة من أجل إعادة بناء الأحداث المختلفة عبر أعمال منها ما هي اقرب للمسرح، وأخرى تشمل الحركة والدراما بتصوير أحداثا خيالية، أو إعادة وقائع حدثت في الماضي القريب والبعيد، وهناك التصوير السينمائي الوثائقي، الذي يحاول إيصال حقائق ووقائع بشكل يهدف إلى جلب انتباه المشاهد إلى قضية ما، أو إيصال فكرة أو معلومة بشكل واضح وسلس كنوع من أنواع ما يعرف بالسينما الملتزمة. السينما الملتزمة هي نوع سينماتوغرافي ظهرت في فترة الستينيات، تهدف إلى الدفاع عن القضايا العادلة والتنديد بالفوارق الاجتماعية وتحسيس الرأي العام بالمسائل التي تهم الإنسانية جمعاء، وسرد الحقائق والمعلومات التي لا تظهر غالبا عبر وسائل الإعلام. ورغم أن سبر الآراء تؤكد تفوق السينما التقليدية أو ما يعرف عند البعض بالتجارية على السينما الملتزمة، إلا أن هذه الأخيرة لا تزال تحتفظ بمكانتها ولديها جمهور معين يقبل عليها، ينظر إليها على أنها المرآة العاكسة للحياة الإنسانية بكل جوانبها وتقوم بكشف الحقيقة وتبليغها. ويطمح المخرجون السينمائيون لدى خوضهم تجربة الفيلم الملتزم، إلى تفكيك بعض الآليات الاجتماعية السياسية وتحليل الإيديولوجية التي تقوم عليها كبرى التوجهات الاقتصادية، وعرضها وشرحها للجمهور العريض في خانة المتفرجين. وعبارة الالتزام لا تقتصر فقط على المعنى السياسي المحدود، بل تشمل أيضا الدفاع عن الأفكار وحقوق الطفل والمرأة والبيئة، بعبارة واحدة كل المسائل المتعلقة بالنضال من اجل تحقيق راحة ورفاهية النوع البشري. كما أن الأمانة في سرد الأحداث تاريخية كانت أو حديث الساعة، والاستعانة بشهادات الخبراء والمختصين في الاقتصاد ومناضلين عن حقوق الإنسان ومؤرخين ومختصين في علم الاجتماع...الخ وإعطاء الكلمة لأشخاص من مختلف الطبقات الاجتماعية، أمر يكتسي أهمية كبيرة في ايقاذ الأذهان خاصة وان العالم يعيش على وقع تحولات عميقة، وحيث الإنسانية في أمس الحاجة إلى التوعية. الالتزام يفرض الواقعية ووضع الموضوع في إطاره الحقيقي يقول المخرج الجزائري العربي بن شيحة، انه يركز كثيرا في انجاز أعماله على الأفلام الوثائقية التي يصبو من خلالها إلى تسليط الضوء على الاختلالات السياسية والتاريخية والاجتماعية، لإيضاح الرؤية ووضعها في إطارها الحقيقي لإثراء النقاش والحوار وحتى لا يتم الاستهانة بها. وفي معرض حديثه عن السينما الملتزمة، أوضح بن شيحة أن الأمر يتعلق بإجراء فني يفرض نفسه بنفسه، بالنظر إلى الدور الهام الذي يلعبه في كشف وشرح تداعيات الإقصاء الاجتماعي واللامساواة بين الجنسين للرأي العام من خلال العودة إلى الأسباب. وبدوره يؤكد المخرج الفرنسي “فيليب دياز” أن اطلاع الناس على ما يجري حولهم أمر بالغ الأهمية، مشيرا أن هذه المهمة هي من ضمن الأهداف المتعددة للفيلم الملتزم باعتباره فنا متكاملا. وأضاف دياز “مهمتي هي اطلاع الناس على ما يجري في العالم وفي مجتمعاتهم لان السينما التقليدية أو السينما التجارية لا تتناول مثل هذه المواضيع”. كما يرى أن هذا النوع السينماتوغرافي ينضوي تحت راية الصحافة السياسية والأغنية الملتزمة، لمواجهة وسائل الإعلام والموزعين الذين يبقى همهم الوحيد إجمالا الربح. وبعد أن ذكر بان الفيلم الملتزم ممارس فقط من قبل المخرجين السينمائيين والمنتجين المستقلين “الذين يؤمنون ويناضلون من اجل ما يقومون به” أعرب فيليب دياز عن قلقه أمام التراجع الكبير لعدد أفلام السينما الملتزمة بالمقارنة مع سنوات الستينات والسبعينات بسبب الوسائل المادية. وقالت زهيرة ياحي محافظة مهرجان الفيلم الملتزم، أن “المقصود من الفيلم الملتزم هو ذلك الذي يدافع عن فكرة أو مبدأ أو قضية ما، بعيدًا عن التأويلات السياسية.” عندما يخلق الفيلم الملتزم جدلا ونقاشات حادة ومن بين ابرز الأنواع السينمائية الملتزمة الفيلم الوثائقي، الذي يتميز غالبا بالموضوعية ونقل الوقائع والأحداث كما هي، وإيصال هذه الحقائق بشكل يهدف إلى جلب انتباه المشاهد إلى قضية ما، أو إيصال فكرة أو معلومة بشكل واضح وسلس لذلك نجدها تلقى تجاوبا عند الجمهور، وتحقق نجاحات كبيرة في مختلف التظاهرات والمهرجانات السينمائية وتزاحم الأفلام التجارية على أهم الجوائز، كما أن طريقة معالجة مواضيع هذا النوع من الأفلام تثير في بعض الأحيان الكثير من الجدل، وتترك نقاشات حادة بحكم أنها تؤرخ وتوثق لمسائل أو قضايا مهمة، وهناك البعض من يعتبرها البديل الأمثل للتعتيم الذي تقوم به وسائل الإعلام. ومن الأفلام الوثائقية التي أثارت جدلا كبيرا في الدول الغربية فيلم “هكذا تبدو ديمقراطيتكم” للمخرج الأمريكي “جيل فريدبرغ” بمساعدة مواطنه “وريك رؤالي”، عالجا من خلال فيلمهما هذا الانتقادات المتزايدة للعولمة، وركزا في مشاهد الفيلم على مظاهرات آلاف الأشخاص في مدينة “سياتل” الأمريكية في نوفمبر 1999 ضد العولمة وضد منظمة التجارة العالمية التي عقدت قمة لها هناك، هذه المظاهرات التي اعتبرها المخرجان أنها رمزا للمعارضة المتنامية للعولمة الرأسمالية، قاما بتوثيقها عبر صور مؤثرة تجاهلتها وسائل الإعلام الغربية. وعن تجربتهما مع هذا العمل أكد “فريدبرغ و”رؤالي”، أنهما أثناء المظاهرات التي استمرت 5 أيام كاملة قاما بتصوير كل كبيرة وصغيرة ودخلا ميدان التظاهر، جمعا مئات الساعات من المواد الخام المصورة “وبعد انتهاء المظاهرات قمنا بتحويلها إلى فيلم وثائقي اخترنا له عنوان “هكذا تبدو ديمقراطيتكم”“. وفي معرض حديثه عن الفيلم يقول ريك رؤالي “نيتنا هي نقل ونشر الحقيقة وإيضاح ما جرى في تلك الأحداث، لإبراز مطالب المتظاهرين وتغيير وضع لا إنساني يعيشونه هؤلاء الناس لان الإعلام اليوم تحتكره فئة تخترع الأكاذيب للتغطية على جرائمها”. من جهته قال “جيل فريدبرغ” “مهمتنا كمخرجين كانت إظهار وتحليل الوقائع وتقديم عمل يعكس مواقف المتظاهرين في سياتل”، وأضاف “عندما تعد فيلما وثائقيا يجب أن يكون هدفك واضحا، فإن شئت تصوير الأمور من الجو فعليك أن تكون في الطائرة العمودية التابعة للشرطة الأمريكية، وإذا أردت فيلما عن الصاروخ الذي أطلق على العراق فعليك أن تكون في البنتاغون، وبإمكانك حصد مال كثير من أفلام كهذه، ولكننا غير معنيون بالمال بل بتغيير العالم نحو الأفضل”. أيام الفيلم الملتزم بالعاصمة: هل هي عودة الاهتمام بالسينما الملتزمة في الجزائر وانطلاقا من أهمية السينما الملتزمة ودورها في توعية الجمهور وتوجيهه للاهتمام بقضاياه، ارتأت وزارة الثقافة إلى تنظيم مهرجان سينمائي خصص للفيلم الملتزم بقاعة السينماتيك بالجزائر العاصمة، بين 29 نوفمبر و05 ديسمبر 2011، تم فيه عرض 18 فيلما بين الطويل والقصير، بمعدل ثلاثة أفلام في اليوم إلى جانب تنظيم لقاءات ونقاشات مع المخرجين السينمائيين. واشتركت فيه ست دول إلى جانب الجزائر، وهي فرنسا، سويسرا، الولاياتالمتحدة الأميركية، بلجيكاوفلسطين، وسجلت هذه التظاهرة حضور المخرج العالمي الشهير “أوليفر ستون”، قبل موعد انطلاق التظاهرة، إلى جانب حضور الكثير من المخرجين. وحظيت فلسطين باهتمام خاص خلال هذه التظاهرة، حيث تم التركيز على السينما الفلسطينية النسوية من خلال عرض حوالي عشرة أفلام قصيرة من إخراج نساء فلسطينيات، تناولن الواقع اليومي لسكان يعيشون تحت وطأة الاحتلال. واعتبرت خليدة تومي وزيرة الثقافة “أيام الفيلم الملتزم” أنها حاولت أن تقدم مفاهيم مغايرة “حتى لا نصبح مجرد مستهلكين للأفكار ولا نجتر إلا تلك التي تقررها أطراف أخرى لها مصالح معينة”. وأضافت “لقد أرادت محافظة المهرجان أن تقدم مفهوما ومضمونا للمقاومة والالتزام، وأنا أفضل التعامل مع محافظة تؤمن بالقضايا الإنسانية وتحترمها، بما فيها القضايا المتعلقة بالتحرير وتقرير المصير”. من جهتها أكدت زهيرة ياحي محافظة التظاهرة أن الطبعة الأولى من أيام الفيلم الملتزم كانت ناجحة إلى حد كبير “نظرا لنوعية الأفلام و الأسماء التي استدعيناها، والإقبال اليومي والكبير للجمهور الذي أحدث المفاجأة بمداومته على العروض والأسئلة التي كان يطرحها بعد تقديم أي عرض، وبالتالي وفقنا في الإستراتيجية التي رسمناها للتظاهرة لكن نطمح للمزيد وأن مثل هذه المبادرات التي تعنى بالفيلم الملتزم نادرة وقليلة مقارنة بأصناف أخرى”. كما أكدت ياحي أن هذه الطبعة جاءت تجريبية وتمهيدية لدورة ثانية، ستعلن هذا العام عن الميلاد الرسمي والتأسيس الفعلي لمهرجان الجزائر الدولي للسينما الذي سيحتفظ بصيغة الالتزام، وسيختار له تاريخ محدد وقار حتى لا يتزامن ومهرجانات دولية أخرى، “فدورة هذا العام ستتزامن والذكرى الخمسين لعيدي الاستقلال والشباب، وسيتم تمديد عمر المهرجان وبرمجة إلى جانب العروض السينمائية مجموعة من النشاطات كالندوات والورشات التكوينية وغير ذلك” وبالتالي - تضيف ياحي - طبعة 2012 ستكون مميزة بمحاور ومواضيع تتماشى والحدث الذي ستحتفل به الجزائر بمناسبة مرور نصف قرن على الاستقلال. ويرى المهتمون بالشأن السينمائي أن تخصيص أيام للفيلم الملتزم بالجزائر، فرصة مهمة للتعرف على آخر الأعمال القيمة التي تعالج أمهات القضايا والمشكلات الإنسانية لمخرجين يبرزون حقائق الأوضاع بسلبياتها وايجابياتها، في عالم يشهد تحولات عميقة أثرت على الأفراد والجماعات، أكدت الحاجة الماسة إلى أعمال سينمائية ملتزمة وهادفة تخاطب الواقع بعيدا عن التعتيم والتأويل والتحريض الذي لا يخدم احد.