وصلت، أمس، دفعة أولى، لرفات 24 شهيدا مقاوما إلى أرض الوطن، استرجعت من فرنسا حيث كانت محتجزة. وحظيت بمراسم استقبال مهيبة ترأسها رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع الوطني عبد المجيد تبون بمطار هواري بومدين الدولي. على أن تدفن، يوم غد الأحد بمربع الشهداء بمقبرة العالية بالعاصمة. بعد 170 عاما، من الاحتجاز في رفوف متحف الإنسان بالعاصمة الفرنسية باريس، استرجعت الجزائر أخيرا، الدفعة الأولى لجماجم أبطال المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي (1830-1962)، بعد مسار تفاوضي معقد، حسمته إرادة السلطات العليا للبلاد بقيادة الرئيس تبون، الذي تعهد في 18 فيفري الماضي باستعادة رفات المقاومين الجزائريين. وكان الجانب الفرنسي، يماطل في تسليم الجماجم التي يحتجزها منذ 1880، متذرعا بكونها جزءا من موروثه الحضاري والثقافي الذي لن يتنازل عنه إلا بعد مصادقة البرلمان (الجمعية الوطنية الفرنسية). وأصرت الجزائر، على استعادة بقايا أجساد شهداء الكفاح التحرري، التي اقتطعها الاستعمار الفرنسي نكاية وتنكيلا، دون انتظار تلك التدابير البيروقراطية أو الخضوع للمساومات السياسية. الكلمة الأخيرة، عادت لمن أراد صون كرامة الإنسان ولم شمل كل الشهداء الأبرار تحت ثرى أرضهم، على حساب من كابر للاحتفاظ بعار اللاإنسانية والوحشية، والاتجار بها في متحف. وفي هذا اليوم المشهود (03 جويلية)، المصادف لترسيم استقلال الجزائر، حلّت جماجم الشيخ بوزيان، موسى الدرقاوي، سي قويدر التيطراوي، محمد الأمجد بن عبد المالك المدعو الشريف بوبغلة، و20 آخرين، بأرض الوطن، أين خصوا باستقبال احتفائي وجنائزي مهيب، تزامن والذكرى 58 للاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية. ترتيبات خاصة عملية نقل رفات الدفعة الأولى لهؤلاء الأبطال، تمت وفق برنامج زمني محكم، إذ أقلعت طائرة عسكرية تابعة للقوات الجوية من «نوع هرقل-C-130»، على الساعة الرابعة صباحا من الجزائر باتجاه باريس، رافقتها إلى غاية حدود الأجواء الفرنسية 3 مقاتلات حربية من نوع سوخوي (SU 30). وفي حدود العاشرة صباحا، غادرت الطائرة العسكرية مطار بورجيه وعلى متنها رفات المقاومين الشهداء مسجاة بالعلم الوطني، باتجاه مطار هواري بومدين بالجزائر العاصمة وبالضبط بالقاعة الشرفية الرئاسية. وفي الوقت المحدّد (13:00 ظهرا)، وبعد التزام كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين للدولة ومجاهدين، إلى جانب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بالمدخل الرئيس للقاعة الشرفية، برزت الطائرة في السماء محاطة من جهاتها الثلاث بمقاتلات سوخوي، على مستوى منخفض فوق مهبط المطار. وبعد جولة استعراضية قصيرة في أجواء العاصمة، عادت لتحط أمام بساط أحمر، ترجل عليه الشهداء الأبطال، وفي وقت انضمت مقاتلة رابعة إلى طائرات السوخوي لتمر محلقة على مستوى منخفض، لتحية رئيس الجمهورية. على أكتاف الأحفاد وبينما تأهب طلبة ضباط من مدارس أشبال الأمة، لحمل توابيت المقاومين الأشاوس، نجح ستة مظليين من القوات الخاصة (القوات البرية)، في تنفيذ قفز مظلي محكم، ملفوفين بالعلم الوطني وألوانه الثلاثة (الأحمر-الأبيض والأخضر) المنبعثة من علب نفاثة، كتحية «إجلال» لأرواح الشهداء الطاهرة. وكانت لحظة تواصل مؤثرة بين الأسلاف من الجيش الوطني الشعبي والأجداد الذين فجروا المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الغاشم، منذ أول يوم وطأت فيه قدمه مدنسة أرض الجزائر. وعلى وقع معزوفة مهيبة لجوقة الحرس الجمهوري، وصوت 21 طلقة مدفعية، انطلقت مراسم الاستقبال والتأبين. تقدم أشبال الأمة حاملين توابيت الأبطال، بخطى هادئة أمام تشكيلات عسكرية لمختلف قوات الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني، في مشهد يحمل في دلالته «صون الأحفاد لوديعة الشهداء، أمام مرأى ومسمع العالم وبترحيب وتحية الملايين من الجزائريين»، مثلما قال العقيد مصطفى مراح في كلمة المراسم. وكان تابوت رفات الشيخ بوزيان قائد ثورة الزعاطشة، أول من وصل أمام رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، الذي فسح الممر منحنيا، أمام من حاربوا الاستعمار الفرنسي في كل مناطق الجزائر، وذادوا عن الأرض والعرض. ويثبت المؤرخون، أن قيام قوات الاستعمار بقطع رؤوس المقاومين الجزائريين، كان سلوكا وحشيا لم يصمد أمام أنفة الشجاعة ورفض الاستسلام، وعملا انتقاميا بشعا أريد به ترويع السكان. والجماجم المسترجعة، تعود لمقاومين جزائريين، قادوا ثورات شعبية ضد الاستعمار، بالجهات الأربع للوطن، من بسكرة، منطقة القبائل ومناطق الغرب، أين قادوا معارك مقاومة مفضلين الشهادة على الخضوع رغم نقص العدة والعتاد. عودة الأشاوس وتواصلت مراسم الاستقبال داخل القاعة الفسيحة، حيث وضعت التوابيت على دعامات خشبية، وأمامها أكاليل الورود، بقراءة فاتحة الكتاب، استبقها الشيخ الإمام بعبارة « ها قد عاد هؤلاء الأبطال الأشاوس»، مضيفا أن ما كان حلما أضحى حقيقة بفضل الله ثم بفضل جهود الرجال». وتوجه بالشكر والعرفان لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الذي توسط القاعة، الذي «وفى» بالعهد الذي قطعه في ذكرى يوم الشهيد في 18 فيفري الماضي، قبل أن يعزف النشيد الوطني بمقاطعه الخمسة. وحضر المراسم التاريخية إلى جانب رئيس الجمهورية، رئيس مجلس الأمة بالنيابة، رئيس المجلس الشعبي الوطني، الوزير الأول، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق الأول قائد سلاح الحرس الجمهوري، ووزراء الوزارات السيادية الخمس (الخارجية، الداخلية، المالية، المجاهدين والعدل). إلى جانب مجاهدين، وإطارات بالجيش الوطني الشعبي. وعقبه، نقلت الدفعة الأولى لأبطال المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم، من مطار هواري بومدين، إلى قصر الثقافة مفدي زكريا، حيث يمكن للجزائريين إلقاء النظرة الأخيرة عليهم، اليوم، ابتداء من الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة السادسة مساء. ودعت وزارة المجاهدين، أمس، «بنات وأبناء الشعب الجزائري إلى إلقاء نظرة إكبار وتبجيل على الرفات المقدسة لرواد ملحمة استعادة السيادة الوطنية من الشهداء الرموز وأبطال المقاومة الشعبية». وحسب اللجنة العلمية المشتركة التي شكلت بين الجزائروفرنسا لفحص وتثبيت هوية الجماجم، فإن هذه الدفعة هي الأولى من أصل 536 جمجمة تعود لجزائريين قاوموا الاستعمار.