«نشيد الرجل الطيب» تجسيد لثقافة عابرة للحدود أصدر الأديب قاسم توفيق آخر رواية له «نشيد الرجل الطيب»، مزامنة في ثلاث عواصم، الجزائر العاصمة، بيروت والقاهرة، في محاولة حسب ما صرّح به في هذا الحوار، لتحقيق فكرة أن تعبر الثقافة العربية الحدود، كما حمل إصداره قصة صراع البقاء الذي يخوضه وسعيه للحفاظ على طيبة الإنسان فيه رغم كل العراقيل والصعاب. «الشعب»: لقد صدرت روايتك الأخيرة نشيد الرجل الطيب مزامنة في ثلاثة دول لبنان، مصر والجزائر. هل هذه الفكرة تجسيد لمقولة الثقافة عابرة للحدود؟ قاسم توفيق: يمكن القول إنها محاولة لتحقيق فكرة أن تعبر الثقافة العربية الحدود، فالثقافة مفهوم إنساني عام وهناك ضرورة لأن تنجز مبدأها في تحقيق التواصل الثقافي بين البشر، فعل مثل ذلك يصعب على المجتمعات العربية أن تحقّقه؛ نتيجة لرضوخ مفاهيمه ومعاييره لإرادة الحكومات والطبقات المسيطرة والمتحكمة في مصائر الشعوب، وقوتهم وعملهم وثقافتهم. هذه فئة غير معنيّة في نشر الثقافة الإنسانية في محيطها الضيق؛ فكيف لها أن تعمل على نشرها وتوزيعها خارج حدودها وهي التي تقوم بقمعها ومحاربتها وتشويه صورتها في مجتمعاتها المحليّة؟ إذن نحن هنا، عندما نقرّر أن تصدر رواية «نشيد الرجل الطيب» في ثلاث عواصم عربيّة مرة واحدة نحاول أن نحطم الجدار الذي يحاصرنا، ويفصلنا عن الآخر. - «نشيد الرجل الطيب» عنوان يوحي بالأمل والطيبة، حدثنا عن فحوى الرواية، شخصياتها وما هي الرسائل التي تحملها؟ لا نستطيع أن نكشف عن الجانب الطيب في الإنسان؛ دون أن نشرك الجانب البشع فيه، الرواية تحكي سيرة المصوِّر الفوتوغرافي «مسعود الصانع» والرأسمالي الجشع «غازي العبد»؛ شخصيَّتان لم تلتقيا طوال أحداث الرواية، لكنهما تسيران بخطَّين متوازيين، تتقاطعان في نقطة واحدة تكون هي المحور الذي تتشكَّل منه هاتان الشخصيَّتان. ويشكل هذا المحور مدخلاً لكشف الشخصيتين، وطبيعة العلاقات الإنسانية المتشابكة على الرغم من اختلاف تشكيلتها الاجتماعية والثقافية والفكرية. يفتِّش «مسعود» عن مبرِّر لوجوده، فينخرط في مقتبل شبابِه بالعمل الحزبيّ اليساريّ، ويعود من هذه التجربة فاقدًا الأمل في فهم كنه وحقيقة وجوده. يمتلك بالمُصادفةً - كاميرا، فيتحوَّل لمهنة التصوير بعد أن يعجز عن العمل بشهادته الجامعيّة بسبب خلفيَّته الحزبيّة. يتعرَّض «مسعود» لحادثة تكاد تنهي حياته، فتنفتح في وجهه أثناء مرحلة العلاج، ومواجهته لخطر الموت، أفكارٌ ورؤى مُغايرة للمفاهيم السائدة فلسفيًّا وفكريًّا وفنيًّا. يحاول تكسير هذه المفاهيم من أجل الوصول إلى الحقيقة، فيقرِّر أنَّ دلالة فكرة الخلود لا تكتمل إلا من خلال العمر المُعاش، وينظر إلى ابتسامة الموناليزا على أنها أوَّل خدعة مورست في الفنون البشريّة، كما يحاول تهشيم نظرية فرويد فيما يخص عقدة أوديب، مؤكدًا أنَّ الأب هو المُدان في اختلال العلاقات الأبوية. مقابل شخصية «مسعود»، تقف شخصية ابن مهرِّب البترول والأسلحة؛ «غازي العبد» الذي لا تتعدّى ثقافته ووعيه ما يشاهده في السينما من أفلام الحركة البوليسيّة التي يبقى مولعًا بها بعد أن تجاوز الخمسين من عمره. يكرِّس هذه الثقافة ويبحث عن أسباب تجعله يطبِّق ما يشاهده على حياة العاملين معه. التقاطع الوحيد بين شخصيَّتي «مسعود» و»غازي» يكون؛ في عمل والد «مسعود» سائقًا لدى المؤسسة التي يملكها «غازي»، حيث يقوم بتهريب البترول والأسلحة والمخدرات لصالح شركة العبد، إلى أن يفكِّر بالتَّهريب لمصلحته الخاصة، فيقرِّر «غازي العبد» التخلُّص منه. نتيجة لظروف تحدث أثناء محاولة قتلِه يتعرَّض لإصابة تسبِّب له شللًا، فيقضي ما تبقى من عمره طريح الفراش عاجزًا عن النُّطق أو الحركة. - هل يستوحي قاسم توفيق مواضيع روايته وقصّصه من واقع المجتمع العربي؟ لا يمكن أن يتشكل الفنان من واقعه المجرد، وإن كان ما يصنعه يعكس صورة هذا الواقع، لأن الفنان هو مزيج من وعيه وثقافته التي ليست بالضرورة نتاج تشكيلته البيئية. يقوم مشروعي الروائي على نهج أبعد كثيراً عن إعادة تركيب المجتمع الذي أعيش فيه في أعمالي؛ إن ما أسعى إليه هو محاولة الغوص في الذات الإنسانيّة بعيداً عن عرقها أو لونها أو مكوناتها الثقافية. مشروعي بحث وجودي يسعى لمسح الغبار الذي يغطى على التجانس والوحدة بين الناس، وأرى أن هذا الغبار ليس عصياً على الزوال وإن تراكم طوال مئات السنين. عندما نبحث في النفس البشرية في شتى أقطار العالم نجد أنها متشابهة إلى حد مفاجئ، الفصل المكرس بين الناس ليس لاختلافهم العرقي، بل هو فعل تمارسه الطبقات التي تتحكم بوعيهم، من أجل تحقيق مصالحها الخاصة، وتكرّسه كمبدأ للفصل بين الناس، هذه حالة عامة في كل مكان على الأرض، في أكثر دول العالم فقراً ترى ذات التركيبة السكانيّة الموجودة في أغنى الدول، مسألة الاختلاف التي نراها بين الناس، لا تزيد كثيراً عن اختلاف أشكال أبناء الأسرة الواحدة، لكنها ليست بالمطلق اختلافا إنسانياً. هذا هو المحور الذي أحاول أن أكشف عنه في جميع رواياتي، ولا أفترض أننيّ آتي بشيء جديد لأن كل عمل فنيّ إنساني على الأرض يحمل ذات الفكرة. - كيف تكيفت مع جائحة كورونا، وهل كان لها وقع وتأثير على حرفك وعلى الإبداع الأدبي بصفة عامة؟ أتفق أن الإنسان يملك قدرة جبارة على التكيّف، وهذا واحد من أسباب بقاءه على الأرض. يبدو لي إن الرأسماليّة العالميّة عندما جاءت للبشر بهذا الوباء كانت ترغب في أن تتغلب على صفة التكيف عند البشر؛ لذلك فهي جعلته خفيّاً متربصاّ ومتحولاً. أعتقد أن المأزق الذي نواجهه في مجابهة كورونا هو في هذه الصفات التي فيه، فهو ليس مثل الحروب ولا الكوارث الطبيعيّة بل هو حالة أكثر وحشية. من هذا الجانب ترى أن الناس كلها قد دخلت في مأزق نفسي بشع، قادر على تحويلهم واستلاب إنسانيتهم، الخوف من الوباء جاء ليكرس أشكال الخوف الكثيرة الأخرى التي نعاني منها؛ خوفنا على لقمة العيش والصحة والتعلم وتربية الأولاد التي أضحت أكثر قسوة في ظل الكورونا. على المستوى الشخصي الأدبي لم تغيّر هذه الجائحة عندي شيئاً، إن ما أعرفه وأؤمن به أننا كشعوب مُستعبدة، يمارس علينا في كل مرحلة من تاريخنا الكثير من الاستبداد والقهر، مهمتي كروائي منذ البداية كانت في محاولة الكشف عن مؤامرة تحاك ضد البشرية، ما عشته أو قرأته يؤكد حقيقة هذه المؤامرة. أنا أنظر للحروب الوحشية التي اشتعلت في العالم العربي خلال العقد الأخير، واحتلال أميركا للأوطان العربيّة، وتفشي الفساد حتى أضحى هو الأصل؛ كل هذه جوائح لا تقل عن كورونا، لذلك لم يتغير شيء في نهجي الفكري والأدبي. لا زلت أحاول أن أصرخ بصوت مرتفع في وجه هذا القهر والقمع. - لقد ناشدتك جمعية قسنطينة تقرأ الثقافية لقراءة بعض من القصص الفائزة في المسابقة الوطنية التي أجرتها مؤخرا. ما هي النصائح التي قد تقدم للشباب المبدع؟ أعترف أننيّ لا أقدر أن أكون ناصحاً للآخرين، لأن تشكل هذا الآخر هو حصيلة تجربة عمرية خاصة، لكن ما أعرفه أن في كل إنسان فينا كاتب؛ بعضنا يكتب على الورق وآخرون يكتبون داخل صدورهم،والكتابة فعل لا يتفق الكثيرون على معانيه وضرورته، لذلك لن يكون من السهل عليّ أن أتحدث للشباب الذي يبدع من موقع العالم والحكيم، ما عرفته من خلال تجربتي في الكتابة أن الكاتب لن يحقّق وجوده دون أن يكون صاحب رؤيا إنسانيّة يؤمن بها ويقاتل من أجلها لأنه يعرف في قرارة نفسه حقيقة ما يريد، وأين هو موقعه على الأرض، وما يفتقر إليه بشدة.. - كيف تقيّم حصيلة نشاطك خلال سنة 2020، وماذا سطّرت من مشاريع لسنة 2021؟ لا أريد أن أُثني على كورونا، لكن أؤكد على مسألة تكيفنا نحن البشر مع أصعب الظروف قبل الجائحة كنت أكتب حوالي ثماني ساعات يومياً، انشغالاتي الحياتية الأخرى.. لم تكن لتسمح لي بأكثر من ذلك، لكن مع الحصار والعزلة التي وضعتنا فيها هذه الجائحة فقد صرت أقضي ضعف هذا الوقت في القراءة والكتابة، لذلك أنجزت رواية «نشيد الرجل الطيب» وأخرجتها بصورتها التي نُشرت بها. أريد أن أوّضح مسألة مهمة عن عاداتي في الكتابة؛ وهي أننيّ عندما أنتهي من كتابة الرواية أهجرها وقتاً قد يصل لمدة سنة أو أكثر، حتى أنسى تفاصيلها، من ثم أعود لها وأعمل على إعادة كتابتها بحيادية. ما حصل أن نشيد الرجل الطيب كتبتها في العام 2019، وعدت إليها في منتصف 2020 بعد أن أخذت نصيبها من النسيان. خلال فترة الانقطاع عن الرواية وهجرها؛ يحدث أحياناً أن أبدأ في كتابة عمل جديد، وهذا ما حدث معي، أني ابتدأت في أواخر 2019 في كتابة رواية جديدة تحمل عنوان «جسر عبدون» وهي الآن في مرحلة الهجر. اقتباسات من رواية «نشيد الرجل الطيب» الابتسامة لا تُرتجل، وليست سهلة الصنعة؛ لأنَّ فيها تشكّلا وميلادا ونموا يسبقون انطلاقها على الوجه. حركة لا تجيء من عدم؛ بل تُبعث من بقعة قصيّة ونائية داخل الدماغ، مكتظة بالأفكار والحوادث والذكريات. هو من يعرف هذه الحقيقة ويتقن فنّ ملاحقة الابتسامة وهي تقطع طريقها من لحظة تكوّنها في مسارب لا كونيّة متناهية الصغر، حتى التلاشي داخل النفس، يراها وهي تخوض في أعمار صاحبها التي يذكرها أو لا يذكرها، إلى أن تتشكَّل وتولد وتقرِّر الارتسام على الفم. (الشمس) الشمس نصيرة أمي عليّ، عوَّدتني ألّا تغيب إلى أن تتحقّق من أنني قد دخلتُ إلى البيت، وسقطتُ منهكًا على الأرض أنتظر ما أعدَّته لي من طعام ألتهمه وأتهاوَى أكثر في مطْرحي، وقتها تصدِّق أمي والشمس أنه لم يعُد عندي جَلَد على الخروج لمُسامرة بعض الأصدقاء ولو لدقائق، ولا حتى للنَّظر في وجه أبي الغائب في ملكوته بلا ملل. وكأنَّ الشمس تعرف، أو ذكَّرَتْها أمي عند بداية عطلة هذا الصيف أنَّ عملي هو قُوت سنتي الدراسيّة الأخيرة. (الجيوكندا المخادعة) قرَّر أنَّ السيدة «جيوكاندا» كانت تصنع حركةً ما من فمها؛ فهي لم تكن تبتسم، ولا كانت حزينة، كل ما في الأمر أنها قد تكون مُتعَبة من طلب «ديفنشي» منها أن تظلَّ محافظة على ابتسامتها التي لفتته عندما قرَّر أن يرسمها، تلك الابتسامة التي في مخيّلة «ديفنشي» ليست بالضرورة ذاتها التي شغلت الدنيا بقدر ما شغلت الرسّام الذي ظلَّ يحاول استنساخها من رأسه المكتظّ بجمالات كثيرة، لا ندري إن كان قد نجح في ذلك أم لا. ابتسامة «الجيوكاندا» المرسومة والمعلّقة على جدران «اللوفر» في باريس؛ دَوْرٌ تمثيليٌّ تحاول أن تتقنه المرأة، أو هي شعور بالملل، ولربّما تكون أوَّل حالة تخليد للخداع. (العاشق) صدمة «لمار» أشدّ وجعًا من صدمتي. ها أنا أعيش كسلطان، أتلقّى عناية العاملين في المستشفى وعنايتها وعناية أصدقائي وأهلي، أمّا هي فلا معين لها لأنّ الذي يعينها في أزماتها راقد أمامها لا حول له ولا قوة. ينبعث صوتي منّي خافتًا ليعلن أني ما زلتُ حيًّا، تُفتح عيناي فقط لِتَرَياها، وتُغلقان لتستريحا من عناء النظر، أصوات الأجهزة التي أتعلق بها تتردّد برتابة لتعلن عن وجودي بين الأحياء. لا أفعل شيئًا غير الانتظار؛ أقبح الأمكنة على الأرض؛ تلك التي ننتظر فيها شيئًا ما، محطّة الانتظار الأكثر قبحًا لدى كل البشر؛ العمر. قاسم توفيق في سطور: قاسم محمد توفيق الحاج روائي وقاص، أردني الجنسية ينحدر من أصول فلسطينية، بدأ الكتابة في العام 1974 بنشر مجموعة من القصص القصيرة في الصحف والمجلات الأردنية والعربية، أصدر أول مجموعة قصصية له أثناء دراسته في الجامعة الأردنية بعنوان (آن لنا أن نفرح)) سنة 1977 برز اسمه في عالم الأدب محلياً وعربياً مع إصدار روايته الأولى «ماري روز تعبر مدينة الشمس». من أعماله في الرواية: - ماري روز تعبر مدينة الشمس. - أرض أكثر جمالاً. - عمان ورد أخير. - ورقة التوت. - الشندغة. - قصه اسمها الحب. وفي القصة: - آن لنا أن نفرح - قدمات لزمن الحرب. - سلاماً يا عمان سلاماً أيتها النجمة. - العاشق.