لقد عرفت المجتمعات البشرية منذ القديم ظاهرة التسوّق من أجل بيع وابتياع ما يحتاجون له من الحاجيات والبضائع التي يستخدمونها في حياتهم اليومية، ولم تكن الأسواق في البلاد العربية قديما وحديثا مجرد أماكن لعرض السلع من أجل بيعها ومبادلتها بسلع أخرى في إطار المقايضة أو غيرها من طرق التبادل التجاري، بل تجاوزت ذلك لتصبح محافل لإقامة المهرجانات والندوات التي تجمع بين الأدباء والشعراء. لقد خلّد الشعر العربي القديم ذلك من خلال ما أشار إليه من ذكر لأشواق عده مثل: سوق عكاظ الذي كانت له صبغة تجاريه، واجتماعيه، ثم ثقافية، وسوق ذو المجاز وسوق الحيرة، وسوق حضرموت إلى غير ذلك من الأسواق (شوقي ضيف، تاريخ آداب العرب، ص. 77).. 1 تاريخ بدء التظاهرة: في هذا السياق تأتي إقامة تظاهرة سوق عيد الخريف ببلدية تكوت منذ فترة طويلة لم يتسن لنا تحديد بدايتها بدقة، لكن يبدو أنه قد بدأ تنظيم هذه السوق مع تثبيت الإدارة الاستعمارية الفرنسية العسكرية في المنطقة عقب احتلال الأوراس سنة 1848، وتقسيم عرش بني بوسليمان إلى دوارين هما دوار زلاطو الشمالي الذي يضمّ إينوغيسن، ودوار زلاطو الجنوبي الذي يضمّ تكوت، وبما أن تكوت كانت الأكثر ملائمة لتكون مقرا قيادة العرش بسبب موقعها الملائم، وتعداد سكانها الكبير فقد تمّ اختيارها لتكون مقرا لمشيخة العرب، كما أنشأت بها محكمة مدنية (محكمة شناورة) وعليه كان من الضروري التقاء الأعيان بالمدينة لدراسة مشكل العرش وحل قضاياه الخلافية، فكان ذلك مناسبة أيضا لإقامة سوق سنوي لأهل المنطقة بشكل عام.. وعليه نرجح أن تكون بداياته تنظيم هذا السوق فيما بين 1860 إلى 1870 أي قبل سقوط النظام العسكري الفرنسي على إثر الحرب البروسية الفرنسية... 2 - التحضير للتظاهرة: قبل الاستقلال كان سوق عيد الخريف يقام يومي 15 و16 أوت من كل سنة وهما آخر يوم من فصل الصيف وأول يوم من فصل الخريف بالتقويم الفلاحي المعتمد لدى سكان المنطقة لارتباطهم بفلاحة أراضيهم طوال السنة، وفي ذلك الاختيار دلالة مهمة هي أنه انتهاء فصل الصيف وأشغاله الشاقة من حصاد ودرس وتخزين للمنتوجات الفلاحية يتمّ الاستعداد لموسم جديد والتحضير لموسم الحرث ثم الشروع في رحلة الشتاء للتنقل إلى شمال الصحراء كون سكان المنطقة نصف مرتحلون يمارسون رحلتي الشتاء والصيف.. وقبل تنظيم السوق الكبير (سوق عيد الخريف) بمدينة تكوت عاصمة عرش بني بوسليمان غالبا ما كانت تنظم أربعة أسواق أسبوعية يطلق على كل واحد منها «سوق الجمعة» تقام بالموازاة معها زردة أو وعدة عند ضريح من أضرحة الأولياء الصالحين، وتتمثل هذه الأسواق «الجمعية» في: سوق جمعة سيدي فتح الله، في منطقة كيمل، وسوق جمعة سيدي عيسى بمنطقة جارالله، وسوق جمعة تاقطوفت في حمر خدو، ثم جمعة جبل البوص في وادي عبدي وخلافا لسوق عيد الخريف يرافق هذه الأسواق طقوس متعدّدة كإقامة الحضرة، وقراءة القرآن، ثم تلاوة الاهازيج الصوفية وغيرها. ليختتم ذلك يومي 15و16 أوت بتنظيم السوق الكبرى بتكوت إيذانا بانتهاء فصل الصيف وبدأ فصل الخريف وحسب الشهادات المستقاة من شيوخ المنطقة، فإن مكان تنظيم السوق كان في موقع يسمى «زينون» ويقع بمحاذاة الوادي الكبير (وادي شناورة) والطريق الرئيسي المؤدي إلى وسط المدينة الذي كان في الأصل معسكرا لجيش الاحتلال (محمود عبد السلام، مدينة تكوت ووليها الصالح سيدي عبد السلام، ص. 199). لا ندري من أين جاء اسم زينون هذا، فرغم استبعادنا أن يكون المعني هو زينون الفيلسوف الاغريقي ذو الأصل السوري زعيم فلسفة الاخلاق الرواقية (264-335ق.م) إلا أنه يجب التذكير أن منطقة تكوت كانت محطة التعمير البشري منذ فجر التاريخ، وكانت إحدى مراكز الاستيطان الروماني بالمنطقة وتشهد على ذلك العديد من المعالم الاثرية الرومانية كخزان المياه في تكوت الدشرة (القديمة)، وخزان آخر في شناورة، بالإضافة إلى آثار مختلفة كالحجارة المصقولة، وقطع من مختلف العملات الرومانية يتمّ العثور عليها من حين لآخر. أما بعد الاستقلال فغالبا ما كانت السلطات البلدية تحاول إقامة التظاهرة مقترنة بالسوق الأسبوعية الذي يصادف الخميس وبالتالي أضيف يوما آخر فأصبحت تقام أيام: 26-27-28 أوت من كل سنة، ويتمّ نشر إعلانات إشهارية لإعطاء الجانب الإعلامي الدور المنوط به لإنجاحها، رغم أن شهرة السوق كانت قد تجاوزت الأوراس منذ ما قبل الاستقلال وقبل انتشار وسائل الاعلام، حتى أن أحد علماء الزاب وهو الشيخ عبد المجيد ابن حبة كتب ما يشبه الشعر يصف سوق عيد الخريف أورده الأستاذ محمود عبد السلام في كتابه المشار إليه (محمود عبد السلام، ص. 205) جاء فيه: سوق حكت ما مضى في سالف الحقب فبينها وعكاظ أقرب النسب كل مباع بها يسمى مبيعا فما ترى كسادا لغير العلم والأدب وإذا كان عكاظ قد حوى عربا بدون عجم وذي عجم بدون عرب ولقد ذكرت الباحثة الفرنسية جيرمان تييون في كتابها المتعلق بالثقافات والاعراق أن: «صدى سوق عيد الخريف تجاوز الأوراس ليصل إلى المناطق المحيطة به كوادي ريغ، والحضنة، ومناطق أخرى من الهضاب العليا.. « (G. Tillion، Il était une Fois L'ethnographie; Paris 2000. PP. 179.) وعليه كان التجار يأتون من مختلف مناطق الوطن لاسيما الشرقية كسطيف، جيجل، فرجيوة، برج بوعريريج، باتنه، قالمة، خنشلة، تبسة، بسكرة وغيرها فكان أغلب التجار الوافدين من خارج المنطقة هم تجار: الملابس، لاسيما المستعملة (الشيفون)، الأفرشة والأغطية، الأواني المنزلية، الأدوات الكهرومنزلية، والآلات الفلاحية، والأدوات المدرسية ومختلف المصنوعات. لماذا يقام سوق عيد الخريف؟ كما رأينا مما سبق أن هذه التظاهرة من الناحية اللغوية للمصطلح «الخريف» ارتبطت بتوديع فصل الصيف واستقبال فصل الخريف، لكن دلاليا لدى سكان المنطقة يطلق اسم الخريف على الفواكه التي يتمّ جنيها في فترة بداية فصل الخريف والتي تشتهر بها بلدية تكوت وقراها المختلفة أو المناطق المجاورة لها كقرى: شناورة، لقصر، تاغيت، جارالله وبلديات غسيرة، مشونش ثم مدينة آريس ومحيطها كاينوغسين وإيشمول، وكل قرى الوادي الأبيض، ناهيك عن قرى وادي عبدي.. ومن ثمة فدلالة مصطلح سوق عيد الخريف لها ارتباط بالفواكه التي يتمّ عرضها في هذه السوق وما يثبت ذلك هو تسمية التظاهرة بالعيد أي إضافة عيد الخريف وهو ما يوحي بأن السكان كانوا ينتظرون موعدها كل سنة للتسوق سواء بيع المنتوجات أو شراء مستلزماتهم من هذه الفواكه: التين المجفف، التين الشوكي، الرمان، الجوز، العنب، والتمور إلى غير ذلك من الفواكه. إضافة إلى ذلك تعرض منتوجات محلية أخرى مثل: السمن، الزبدة، الكليلة، الطماطم المجففة، زيت الزيتون، الصوف المنسوجات، الألبسة، والتوابل، أدوات الفلاحة: المحاريث، المناجل، والحيوانات المختلفة كالماشية والمستغلة في أعمال الفلاحة.. وبالتالي كان السوق ملاذا رئيسا للسكان سواء الفلاحين المنتجين لتلك الفواكه من أجل تسويقها، أو سكان الجبال المجاورة لاقتناء حاجياتهم من تلك المنتوجات التي يفتقدونها كون أنشطتهم الفلاحية تقتصر على زراعة الحبوب (القمح والشعير) في غالب الأحيان، فكانوا ينتظرون موعد سوق عيد الخريف للتزود بما يكفيهم لأطول مدة قد تكون مؤونة عام كامل لبعض المواد كالفول، والفريك، و»المرمز» وحتى الألبسة.. إلى جانب هذا الطابع الاقتصادي التجاري للتظاهرة لها أيضا طابع اجتماعي وآخر ثقافي، أما الطابع الاجتماعي فيتمثل في: اعتبار السوق مؤتمرا سنويا لأعيان عرش بني بوسليمان لدراسة مختلف القضايا التي تهمّ العرش فتخلّل هذا الموعد عقد لقاءات متعدّدة للأعيان الذين يحضرون في إطار هيئة «الجماعة» التي تتولى حل المشاكل التي تنشب بين أفراد العرش أو مع أعراش أخرى، فيتم إصلاح ذات البين، وإنهاء الضغائن بين الأفراد أو الجماعات المتخاصمة، أو نشبت بينها خلافات استعصى حلها عن طريق العدالة، كما يقوم هؤلاء بدراسة مهور العرائس وتحديدها وفق ما ينصّ عليه الدين الإسلامي محاولين قد الإمكان التقليل من تكاليف الزواج، لمساعدة الشباب على الإقدام عليه، ثم تقييد ذلك في وثيقة يوقعها أعيان العرش الذين يحضرون من مختلف المناطق والقرى في كلا الدوارين زلاطو الشمالي والجنوبي مع حضور الكثير من أئمة المنطقة ورجال الإصلاح حتى من خارج عرش بني بوسليمان كأعراش التوابة وبني فرح وأوجانة.. إلخ. فيما يتمثل الجانب الثقافي في كون التظاهرة فرصة لإقامة حفلات ليلية تحييها فرق الرحابة المحلية، خاصة وأن المنطقة ككل مشهورة بثرائها الغنائي لفرق الرحابة مما يضفي على التظاهرة زخما خاصا وطابعا ثقافيا وترفيها. وفي الآونة الأخيرة عمدت الجمعيات المحلية والنوادي الرياضية إلى تنظيم دورات رياضية تنافسية في رياضات مختلفة ككرة القدم، والكرة الطائرة، أو دورات تنافسية في رياضة الشطرنج. في حين كان السوق في السابق قبل أثناء فترة الاحتلال الفرنسي دورا سياسيا مهما، فعلى غرار كل التجمعات كان رواد الحركة الوطنية يستغلون مثل هذه الأنشطة لنشر الوعي في أوساط الشعب، ففي هذا السياق يقول الأستاذ محمود عبد السلام وهو شاهد عيان على مرحلة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي في المطقة: «كما يقصدها - سوق عيد الخريف - الطلبة الذين يدرسون خارج المنطقة كقسنطينة وتونس وغيرهما، هذا وكنت أرى تجمعات بشرية هنا وهناك على حافة ميدان السوق، يتحاورون فيما بينهم، وقد يتناقشون حول السياسة وغيرها، وقد شاهدت ذات يوم مناضل الحزب الشيوعي الشباح المكي وقد ارتقى تلة حمراء على هامش السوق وهو يخطب في مجموعة من أتباعه، وقد كان لابسا بدلة فرنسية على مرأى ومسمع من السلطات المحلية «(محمود عبد السلام، نفسه، ص. 203) ومعروف أن الشباح المكي كان أحد أبرز مناضلي الحزب الشيوعي بالأوراس وكونه ابن المنطقة فمن الطبيعي أن يستغل المناسبة لنشر أفكار حزبه، كما كان للأئمة وشيوخ الزوايا أيضا نشاطات توعية لسكان المنطقة دون التغاضي عن نشاط حزب الشعب الذي كثيرا ما كان مناضلوه يستغلون من هذه التجمعات لنشر الفكر الاستقلالي في أوساط الشعب الجزائري، لذلك كثيرا ما كانت سلطات الاحتلال تراقب بل تمنع النشاطات والتجمعات في «الزردات» والأسواق و»الوعدات» والزيارات التي تقام للأضرحة ومقامات الأولياء الصالحين في جمعات سيدي عيسي، وسيدي فتح الله وغيرها.. إذن فتظاهرة سوق عيد الخريف بأبعادها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية ثم الثقافية هي أحدى مكونات الإرث الثقافي والحضاري للأوراس التي ينبغي الاهتمام بها سواء بتاريخها أو جانبها الحضاري الانثروبولوجي لأنها تشكل عامل تواصل بين سكان المنطقة وعامل ربط بينهم وبين المناطق المجاورة. قسم التاريخ جامعة باتنه1