تحتفل الجزائر وشعبها هذه الأيام بذكرى ثورة الانعتاق والحرية.. ثورة نوفمبر 1954 المجيدة، أسمى محطاتنا التاريخية المعاصرة ودُرّة ذاكرتنا الوطنية. اليوم الذي صمم فيه الجزائريون على مواجهة الغزاة والتصدي لجبروتهم وعنجهيّتهم، وتكسير القيود التي كبله بها احتلال غاشم منذ 5 جويلية 1830 إلى غاية 05 جويلية 1962، شعب مسلح بالإيمان وبالإرادة الفولاذية وبالعزيمة القوية، وعاهد الله ليخرجنّ المعتدين من أرضه وأرض أجداده التي ارتوت بدماء الصحابة والتابعين والشهداء.. إن الفاتح من نوفمبر سيظل نقطة تحوّل جذرية في مسيرة وطننا، وستبقى ملحمة ثورية بامتياز، ومحطة مبرّزة في تاريخ الجزائر ويومياتها.. بطولات تبعث على الفخر والاعتزاز، ليس على مستوى الجزائر فحسب بل على مستوى دول العالم. ثورة فجرها فتية آمنوا بقدسية حريتهم وبعدالة قضيتهم، وأشعل فتيلها شباب آثروا الشهادة على أن يعيش وطنهم مكبّلا ومعطلا، وشعبهم تحت الظلم والقهر والاستعباد. ثورة محت وإلى الأبد أسطورة (الجيش الفرنسي الذي لا يُقهر)، وأجهضت أحلام الاحتلال ومستوطنيه، وبدّدت مآرب أذنابه وعملائه.. وكسّرت حاجز الصمت والخوف.. وأنارت دروب أبنائه وبناته نحو مستقبل زاهر.. بعد ظلام حالك دام أزيد من 130 سنة. إذا كانت الجزائر وطنا، فإن نوفمبر هو عنوانه.. كل من يريد معرفة الجزائر يتوجّب عليه الدخول إليها من باب نوفمبر.. الذي انعطف بالتاريخ فأعادها إلى الوجود بعدما عمل الاحتلال الفرنسي على جعلها رميما. ولذلك مازال وسيبقى شعبنا يَعُضُّ بالنواجذ على نوفمبر.. ويكابد من أجل أن تبقى شعلة نوفمبر عالية، وستبقى كذلك بإذن الله ولو كره الأعداء والمتربّصون والمرجفون. فالجزائر، الوطن والشعب والتاريخ والاقتصاد والسياسة والثقافة كنز ثمين وخزانة عامرة لا يفتحها إلا الذي يأتيها من بابها، وبمفتاحها الصحيح الذي هو نوفمبر بكل أبعاده الهادفة ومضامينه الراقية وقِيمه السامية، وجاء في بيان أول نوفمبر 1954 الذي خطه الشهداء والمجاهدون، أما ماعدا ذلك فستبقى الجزائر ممتنعة وعصية غير قابلة للانقياد أو الترويض. ثورة نوفمبر التي شملت كل التراب الوطني، وحيث ما داس الغزاة هذا التراب الذي ارتوى بملايين الشهداء. هي امتداد لمقاومات شعبية مسلحة خاضها شعبنا ضد الغزاة. ثورة نوفمبر الخالدة التي غيّرت سياق التاريخ ومجرى الزمن، وعرّت الاحتلال الفرنسي وجرائمه ضد الإنسانية وأظهرته على حقيقته الدموية.. بعدما أدرك مفجروها القيمة الوطنية في قول الشاعر: سأغسلُ عنِّي العارَ بالسيف جالبًا عليَّ قضاءُ الله ما كان جالباَ إذا هَمَّ لم تُردَعْ عزيمةُ هَمّه ولم يأتِ ما يأتي من الأمرِ هَائِبَا إذا هَمَّ ألَقَى بين عينيهِ عَزْمَهُ وأعرض عن ذكر العواقب جانبَا ولم يستشرْ في رأيه غيرَ نفسه ولم يرضَ إلا قائمَ السّيفِ صاحبَا ثورة أعادت لنا كرامتنا واسترجعنا بها دولتنا التي أزيلت من التاريخ زمنا فاق (130 سنة)، بعد أن كانت فيها الحياة، أضحت طيلة هذه المدة مكبلة بأغلال احتلال استيطاني غاشم، وأمسى ليلها معتّما بالظلام وموشّحا بالسواد.. ثورة علّمتنا الحياة، وكيف نعيش بكرامة مرفوعي الرأس بين الأمم والشعوب، وعلّمتنا كيف نبني مستقبلنا ونحافظ على مكتسباتنا الوطنية وعلى استقلالنا. كان لنوفمبر نصيب في تحرير عديد الشعوب المضطهدة والتّواقة إلى السلام والحرية، التي اتخذت منه أنموذجا يُحتذى ومدرسة راقية في التحرر والانعتاق ومرجعا سديدا في التضحية والصبر. مستلهمة من مبادئه السامية كل معاني الإقدام والبطولة ونكران الذات، وأضحت الكثير من معاركه البطولية، وأعماله النوعية تُدرّس اليوم في أرقى الكليات الحربية والمعاهد العسكرية. إن استقلال بلادنا الجزائر الذي حقّقه شهداؤنا ومجاهدونا، لم يأت مِنّة أو هبة من أحد، بل كان ثمنه باهظا جدا؛ أكثر من خمسة ملايين وستمائة وثلاثين ألف شهيد، هذا الرقم الذي صرّح به رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في أكتوبر 2021.. ومئات الآلاف من الأرامل واليتامى والمعاقين والمهجّرين.. وآلاف القرى والمداشر والدواوير المدمرة التي مرت عليها قوات الاحتلال وقوات الحلف الأطلسي. لكن إرادة رجالنا كانت أقوى بفضل الله حتى تمكنوا من دحر الجميع وإخراجهم من أرضنا إلى غير رجعة.. بعدما عاثوا فيها فسادا من خلال محاولتهم مسخ شخصيتنا وتشويه تاريخنا الوطني، وسعيهم الحثيث والمقنّن للقضاء على مقوّمات أمّتنا؛ من دين ولغة وثوابت.. فجاء بيان أول نوفمبر ليصحح المفاهيم والمصطلحات ويعطي الخطوط العريضة لهذه المقومات الثابتة. إن الاحتفالات المخلدة لثورة نوفمبر 1954 لا يجب أن تتوقف عند الاحتفالات والفعاليات الرمزية رغم أهميتها، بل يجب أن تستخلص منها الأجيال دروسا وعبرا في الشجاعة والأخوة والإيثار قدّمها جيل نوفمبر.. جيل التحرير إلى جيل البناء والتعمير من أبناء الاستقلال وبناته. نستحضر جميعا اليوم وغدا وفي كل حين بطولات الآباء والأجداد الذين ألحقوا بالعدو هزائم منكرة وانكسارات مذلة، وبثّوا في قواته الخوف والرعب، مع ضرورة الاطلاع على سرّ قوّة هذه الملحمة والعوامل التي أدت إلى النصر ودحر مجرمي الاحتلال.. من خلال بطولات رجالات نوفمبر ونساء نوفمبر وأحرار نوفمبر، وقيم نوفمبر ومبادئ نوفمبر.. وبيان نوفمبر الذي هو السبيل الأوفى والأكمل لبناء جزائر جديدة، جزائر مثلما أرادها الشهداء المجتبون والمجاهدون المخلصون.. جزائر القوة والمنعة والأمن والاستقرار، جزائر التطور والازدهار.. إذن تتجدد المشاعر الفياضة والأحاسيس الصادقة اتجاه ملحمتنا المظفرة، ويتجدّد العهد مع الشهداء الأبرار الذين نترحّم عليهم في كل حين ومع المجاهدين الخُلّص، ومع الرجال العظماء والرموز الأبطال الذين آثرونا على أنفسهم لننعم نحن وتنعم الأجيال في كنف العزة والحرية والإباء.