تؤكّد الكثير من المصادر التّاريخية والشّهادات الحية، على الدّور الكبير الذي لعبته الزّوايا الشّريفة المنتشرة في مختلف ربوع الوطن، للحفاظ على الشّخصية الوطنية الجزائرية إبّان فترة الاستعمارية الاستدمارية التي عاشتها بلادنا على يد المحتل الفرنسي، فقد كانت بمثابة المؤسسات التّعليمية والمنابر الإصلاحية، والحق أنّها استطاعت - كمدارس شعبية بسيطة - أن تحافظ على الثّقافة الأصيلة للشّعب الجزائري، وذلك بإمكانيات متواضعة وأساليب بسيطة وسلسة، تمكّنت بفضلها من تعميق الشّعور بالوحدة الوطنية وترسيخ روح المواطنة والانتماء في أوساط الشّعب الجزائري آنذاك.. وعملت الزّوايا كذلك على توحيد قنوات الاتّصال بين قادة الثّورة، كما كانت بمثابة الحصون المتينة للدفاع عن قيم الشّعب الجزائري وثوابت أمّته ومجتمعه، فاستحقّت جزيل الشكر والتّقدير والعرفان، واستحق شيوخها كل الشكر والامتنان، وذلك نظير صنيعهم الطّيب والجليل، والذي يصدق فيه رأي الكاتب والمؤرخ الكبير «حمدان خوجة» في كتابه الشّهير «المرآة»، إذ أكّد على أنّ شيوخ الطرق الصّوفية كان لهم دور كبير في تعبئة المواطنين الجزائريين للدفاع عن الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي في مختلف فتراته. على ضوء ما سبق، سنسلّط الضّوء على إحدى الزّوايا الشّريفة والعريقة التي كان لها دور فاعل في التّربية والتّعليم والإصلاح والتّنوير، سواء أثناء الحقبة الاستعمارية أو بعد الاستقلال وإلى غاية وقتنا الراهن. ألا وهي «زاوية تيبركانين». بطاقة فنية عن منطقة تيبركانين تعتبر «تيبركانين» إحدى بلديات ولاية عين الدفلى، تقع غرب العاصمة الجزائرية، وتتبع إداريا دائرة العطاف أقصى غرب الولاية. يرجع تاريخ إنشائها إلى سنة 1891 من طرف الاستعمار الفرنسي، وسميت «تيبركانين» نسبةً إلى جبلين أسودين وهما (تمولقة الصغيرة) و(تمولقة الكبيرة) نظرا لاسوداد لونيهما، ما جعلها تحظى بالتّسمية الأمازيغية المشتقة من كلمة «أبركان»، أي الأراضي السّوداء. لتتموضع جغرافيا جنوب غرب ولاية عين الدفلى، يحدها شرقا بلدية وادي الفضة التّابعة حالياً لولاية الشلف، وجنوبا بلديتيْ «الماين» و»زدين»، وشمالا دائرة العطاف التي أدمجت معها سنة 1963 عندما كانت تابعة لولاية الأصنام 0نذاك (شلف حاليا)، وبعد التّقسيم الإداري وفقا لمرسوم تكوين البلدية رقم 84-365 الموافق ل 01 ديسمبر سنة 1984، تم إدراجها كبلدية مستقلة تابعة لولاية عين الدفلى، وما تزال كذلك إلى يومنا هذا. أمّا من الناحية الديمغرافية، فيبلغ عدد سكانها حوالي 16٫384 نسمة حسب إحصائيات 2008، وحوالي 25,000 نسمة وفق آخر التّقديرات والدّراسات الديمغرافية للمنطقة، في انتظار الإعلان عن النتائج الرسمية والنهائية لآخر إحصاء سكاني ديمغرافي. أمّا سوسيو-إقتصاديا، تتميّز منطقة تيبركانين بطابعها الفلاحي وطبيعتها الجغرافية المُشجّعة على ممارسة النشاط الزّراعي وتربية المواشي، فضلاً عن خصوصيتها الصّناعية من حيث العدد الكبير من المحاجر الموجودة على مستوى إقليمها الجبلي، وقد بلغ عددها حوالي 15 مجحرة، توفّر عددا لا بأس به من مناصب الشّغل لسكانها. زاوية «سيدي محمد بلجيلالي»: جوهرة أعالي تيبركانين
يُطلق على زاوية تيبركانين عدّة تسميات، منها زاوية سيدي محمد بلجيلالي، أو زاوية سيدي محمد لفقيه العربي. وهي إحدى الصروح الدينية والروحية العريقة في الجزائر، تأسّست في عهد الإستعمار الفرنسي وبالضبط عام 1356ه / 1937م، على يد سيدي محمد بلجيلالي (1911م-1923م). ذكر المؤرخ «مارسيل إيميري» فضل الزّوايا أثناء الثّورة الجزائرية، مؤكّدا أنّ معظم الثّورات الشّعبية الجزائرية ضد فرنسا الإستعمارية ساهمت فيها الطرق الصٌوفية، سواء كانت رحمانية أو سنوسية أو درقاوية أو شادلية، أو طيبية..وتأسيساً على ذلك. وعلى نفس النهج سارت زاوية تيبركانين، فرفعت لواء الإصلاح الدّيني، واشتغلت على التربية الروحية داخل المجتمع الجزائري، وحرصت على التعليم وتقليص الجهل والأمية ما أمكنها، في سياقات تاريخية كان فيها الشعب الجزائري يعانى من ويلات الجهل المؤَسَس والتّجهيل المفروض علية بالفعل والقوة. وقد تمّ اختيار موقعها في أعالي منطقة تيبركانين بالقرب من قرية «أولاد عزّة» العريقة ببلدية تيبركانين، والتّابعة لدائرة العطاف ضمن ولاية عين الدفلى وجبال الظهرة، أو ما يعرف بسهل الشلف. وهي زاوية تابعة لمنهاج الطريقة الشّادلية، وتنتمي لأهل السٌنة والجماعة، بعقيدة أشعرية ومذهب مالكي، وتصوف جنيدي، ويُدرّس فيها القران الكريم والحديث الشريف باللغة العربية. زاوية تيبركانين أثناء الثّورة الجزائرية المظفّرة..أدوار روحية ومهام سامية شاركت زاوية سيدي محمد لفقيه العربي بفعالية كبيرة أثناء ثورة تحرير الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، ويشهد على ذلك تحوّلِها إلى مزار دائم للشّهيد الرّمز والبطل الثوري الخالد، العقيد «جيلالي بونعامة» قائد المنطقة الثورية الرابعة سنة1960، والكثير من زملائه الأبطال من أمثال «يوسف الخطيب» و»محمد زعموم» وآخرين.. وكلّهم كانو على غرار (أسد الونشريس بونعامة) من أهم مريدي هذه الزاوية. نقول ذلك ونحن نفكر أيضا فيما ورد في الكتاب الشّهير للضّابط الفرنسي «دي نوفو» بعنوان «الإخوان»، الذي نوّه فيه بالدور الفاعل للزوايا والطرق الصوفية في مقاومة الاحتلال، وإشعال فتيل الكثير من الثّورات الشّعبية والمعارك، وهو ما تجلي كذلك في زاوية تيبركانين بعد ذلك ومباشرة بعد تأسيسها إبان الحقبة الاستعمارية، إذ كان لها أدوار فاعلة في مجالات التّربية والتّعليم خصوصاً، فجعلت من الحفاظ على الشّخصية الوطنية دأبها وديدنها ومشروعها الدائم، واعتمدت على المرجعية الدّينية الجزائرية الأصيلة، لتساهم في تفريخ العديد من علماء الدين ورجال الإصلاح والتّنوير، فضلاً عن عدد كبير من طلبة العلم وحفظة القرآن الكريم برواية ورش عن نافع، وقد سار جميعهم - بعد ذلك - في سبيل تعليم الأجيال اللاحقة، ونشر تعاليم الدين الإسلامي. كما لعبت دورا مهما في مقاومة الحملات التبشيرية النّصرانية التي كانت تدور في فلك الكنيسة الكاثوليكية، وذلك لصدّ خطرها خاصة أنها كانت من أهم المؤسسات الدينية المسيحية التي باركت الحملة الاستعمارية الفرنسية على الجزائر ورافقت أعمالها الإستيطانية الخبيثة. بعد استقلال الجزائر سنة 1962، ومنذ ذلك الحين إلى وقتنا الرّاهن، لا تزال هذه الزّاوية منارة علمية ومزارا سياحيا دينيا وروحيا. وتبقى شامخة تتوسّط سهلي الشّلف وخميس مليانة، وصرحا يُعتمد عليه في تأطير مختلف مساجد ولايتي عين الدفلى والشلف والمناطق المجاورة لهما، وخاصة في شهر رمضان الكريم، وتزويد المساجد بالأئمة والمقرئين، بالإضافة إلى نشاطاتها السّنوية التي تقيمها بانتظام في المناسبات الدينية والوطنية، كإحياء ذكرى المولد النّبوي الشّريف والثّورة المجيدة وأعياد النصر والاستقلال وغيرها من المناسبات الخالدة.