عادة ما توضع السياسات الزراعية بهدف تحقيق الأمن الغذائي وتقليص الاعتماد المفرط على الواردات لضمان تأمين الغذاء، والجزائر سعت منذ عقود مضت الى تطوير الفلاحة من أجل بلوغ هدف الاكتفاء الذاتي غير أن ارتفاع فاتورة الغذاء من سنة الى أخرى يطرح إشكالية مدى تجسيد عمليات تأمين الغذاء، انطلاقا من الانتاج المحلي الذي يظل بعيدا عن الهدف المسطر. الدكتورة الباحثة والأستاذة المحاضرة في المدرسة الوطنية للعليا للفلاحة نجية زرمان ومن منطلق تراكم خبرتها في مجالي التحديث الفلاحي وسياسة الأمن الغذائي، داخل وخارج الوطن حللت العلاقة المباشرة بين المحورين الأساسيين واعتبرت أن المقصود من الأمن الغذائي هو توفير الغذاء الصحي للأفراد بالكميات الكافية والأسعار المناسبة، بينما ترتكز السيادة الغذائية على دعم الانتاج الداخلي لتوفيرالغذاء دون الاعتماد المفرط على الواردات. ولأن الجزائر تعتمد بنسبة كبيرة على استيراد الغذاء وبالاعتماء على عائدات المحروقات المتأثرة تشكل خطرا أكيدا على الأمن الغذائي وتداعياته على الأمن القومي. وبالنظر الى التأثيرات المناخية، فإن مشكل توفر الغذاء قد يطرح إشكالا حقيقيا للدول الأكثر استيرادا على غرار الجزائر، وقد تؤدي ندرة الغذاء الى إضطرابات اجتماعية مثلما ما حدث في جانفي2011 عندما شهدت أسعار أهم المواد الغذائية ارتفاعا كبيرا الناجم أصلا عن الارتفاع في الأسعار على مستوى الأسواق الدولية المسجل منذ سنة 2008 . وفي هذا الاطار، تقول الدكتورة الباحثة أن دعم الانتاج المحلي يشكل الركيزة الأساسية لتحقيق الأمن الغذائي، لنؤكد من جهة أخرى أنه من بين أسباب انعدام الأمن الغذائي. عدم وجود خطط للطوارئ لمواجهة أية تقلبات قد تمس كميات الغذاء أو أسعارها نتيجة لعدة عوامل أساسية والتي تأتي في مقدمتها التقلبات المناخية وما ينجم عنها من التذبذب في عملية توفير الغذاء. الجزائر وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها لتطويرالزراعة لا تزال تتميز بالهشاشة في ما يتعلق بالأمن الغذائي للأسباب التي وردت في تحليل الباحثة زرمان وأهمها التبعية المطلقة لاستيراد المواد الغذائية، وما يترتب عليه من تذبذب في أسعار المواد الغذائية سواء في الأسواق العالمية أوالجهوية، فضلا عن النمو الديمغرافي الذي يتراوح ما بين 1.6 الى 2 ٪ ، مما يعني أن عدد السكان سيرتفع الى 44 مليون نسمة في 2030 والى 52.6 مليون نسمة في آفاق 2050 . وهذه التوقعات وضعت على أساس نسبة نمو ديمغرافي 1.6 ٪، أي أن الأرقام سترتفع في حالة معدل نمو يناهز 2 ٪. عدد السكان المقدر حاليا ب 38 مليون نسمة وفق أحدث الاحصائيات مرشح لأن يعرف ارتفاعات هامة في السنوات القادمة، ستترتب عنه زيادة معتبرة في الطلب على الغذاء، وهو ما يمثل تحديا كبيرا للجزائر في توفير الغذاء بالكميات المطلوبة وبشكل مستدام، خاصة وأن مساحات الأراضي الزراعية في انكماش مستمر منذ الاستقلال نظرا لكثافة العمران الذي أتى على أخصب الأراضي الزراعية من جهة وعوامل مناخية مثل التصحر والانجراف، وبالتوازي مع ذلك، فإن مستوى استهلاك الفرد واجمالي الطلب على الغذاء في تزايد مستمر. العامل الآخر الذي ساهم على نحو كبير في هشاشة الجزائر فيما يخص توفير الغذاء والتبعية نحو الاستيراد. تعود إلى الصعوبات التي تواجه الزراعة المستدامة أي المتواصلة وليست المتذبذبة، فضلا على التأثيرات المناخية والكوارث الطبيعية والفيضانات التي تتلف مئات الآلاف من الهكتارات. دراسة استشرافية قامت بها إحدى المعاهد المتخصصة في واشنطن، وضعت الجزائر في المرتبة السابعة من التسع درجات التي يتضمنها المقياس، مما يعكس وفق هذا المقياس أن الجزائر تعد من بين أكثر الدول هشاشة في ضمان الأمن الغذائي لسكانها، مثلما تقول الباحثة التي تستدل بفاتورة الغذاء المتصاعدة من سنة إلى أخرى وفق الأرقام الرسمية. تشير احصائيات الجمارك الوطنية أن فاتورة الغذاء في الجزائر تضاعفت بثلاث مرات في خمس سنوات فقط أي من 2003 إلى 2008، بينما واستنادا إلى نفس المصدر فإن هذه الفاتورة التي كانت تقدر ب 4،2 مليار في سنة 2000 قفزت إلى حوالي 6 مليار دولار في سنة 2010 . أما الرقم الصادم، فإنه يخص سنة 2011 عندما عرفت الزيادة في استيراد الغذاء تطورا لافتا ليصل إلى حوالي 10 مليار دولار وبنسبة تجاوزت 62٪ مقارنة مع سنة 2010، مما يمثل نسبة 15٪ من مجموع الواردات في هذه السنة و 21٪ في سنة 2011. الزيادة الكبيرة مست بالأساس فرع الحبوب ب 96، 103٪ منتقلا من 98،1 مليار دولار في سنة 2010 إلى 4 مليار في سنة 2011، بينما ارتفع استيراد السكر ب 37، 71٪ والحليب ب 59، 55٪. هذه المبالغ الهامة المخصصة لاستيراد الغذاء مدفوعة بالكامل من ايرادات المحروقات وهو تحدي آخر يواجه السياسة الغذائية، علما وبحسب نفس المتحدثة، فإن هذه الكلفة مرشحة للارتفاع بالنظر إلى التحديات الكبيرة التي ستواجهها الزراعة العالمية في العشرية المقبلة والتي بدأت بوادرها تلوح في الأفق، وكذا بالنظر إلى انخفاض المحصول الزراعي ومردودية بعض الزراعات الإستراتيجية في الجزائر، قدرتها بعض الدراسات الإستراتيجية في أمريكا بحوالي 5.7 إلى 14 ٪ بالنسبة لمحاصيل القمح ومن 10 إلى 30 ٪ بالنسبة لمحاصيل الخضر، وذلك بسبب الظروف المناخية. ومن جهة أخرى، فإن وجود بعض الزراعات الطاقوية المخصصة لإنتاج الوقود البيولوجي والتي من المتوقع أن تدخل في منافسة شرسة مع المحاصيل على مساحات من الأرض ستؤثر لا محالة على المحاصيل الزراعية الموجهة للإستهلاك الغذائي، وهو تحدي صعب ومواجهة ليس بالأمر الهين لتوفير الغذاء لأعداد متزايدة من السكان. هل السياسة الزراعية الحالية المطبقة في الجزائر بإمكانها دعم الإنتاج المحلي وتوفير الغذاء اللازم للسكان، سؤال طرح على الباحثة زرمان، فأجابت بأن وزارة الفلاحة وضعت ما يسمى بمخطط التحديد الفلاحي الذي يمتد على خمس سنوات، يرتكز على ثلاثة محاور أهمها تكثيف الإنتاج وتحديث المستثمرات الفلاحية، تطوير المناطق الريفية، وأخيرا تكوين الموارد البشرية، وعموما فإن هذه المحاور تبدو حسنة، لكن السؤال الذي يبقى مطروحا ما مدى مساهمة هذا البرنامج الطموح في التخفيف من أعباء فاتورة الإستيراد بعد عامين على دخول هذا المخطط حيز التطبيق. تقترح الدكتورة زرمان كباحثة مجموعة من المحاور ترى أنها ضرورية وتساهم في تأمين الأمن الغذائي، من بينها العمل على تحسين المحاصيل الوطنية من خلال تحسين الإنتاج النباتي وتعزيز إنتاج المحاصيل ومكافحة الأمراض والأعشاب الضارة ودعم استخدام المبيدات ومقاومة العوامل البيئية اللأحيائية والحد من الخسائر مابعد الحصاد التي قد تصيب المنتوجات وكل الموارد المخزنة، فضلا على تطوير المحاصيل المستقبلية على ضوء التغييرات البيئية والمناخية وتحسين الثروة الحيوانية وانتاج الأسماك وتطوير الطرق الزراعية وجودة الأغذية وسلامتها. تعود الباحثة زرمان إلى اليوم البرلماني الذي خصص للأمن الغذائي بمشاركة مختصين في القطاع، حين دعوا إلى ضرورة إنشاء مرصد وطني للأمن الغذائي تجمع فيه كل المعطيات الخاصة بتطور الغذاء وأسعاره وانعكاساته في الداخل، إلى جانب زيادة الدعم المالي للبحث العلمي في قطاع الفلاحة وكل ما يتعلق بالحفاظ على الرتبة و توفير المياه وتطوير الطرق البديلة للطاقات المتجددة، إلى جانب تنظيم السوق الوطنية والمعاملات التجارية ومراقبة الأسعار.