في السادس عشر من آب/أغسطس عام 1988 كنت هناك.. كنت معتقلاً إداريا في قسم "كيلي شيفع" في سجن النقب الصحراوي، دون تهمة أو محاكمة، وإذا بنا نسمع صراخاً هديراً وهتافات صاخبة وتكبيرات تعلو من الأقسام السفلى للسجن. وفي وقت لاحق علمنا أن المعتقلين الفلسطينيين العُزل في قسم (ب) وعددهم قرابة (1500) أسير، احتجوا بطريقة سلمية على ظروف احتجازهم وطريقة معاملة السجانين لهم، بإطلاق الهتافات والأناشيد الوطنية والتكبير للتعبير عن غضبهم وللذود عن كرامتهم، وفيما بعد تناولوا كل ما يقع تحت أيديهم من حجارة وأواني بلاستيكية وأحذية، وقذفوا بها على إدارة السجن والجنود المدججين بالسلاح. لترد عليهم إدارة السجن بقنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي واستخدام الهراوات والقوة المفرطة، ثم الرصاص الحي. لم تقتصر الجريمة على ما ورد آنفاً، فوفقاً لشهود عيان فإن المدعو "ديڤيد تسيمح" قائد السجن آنذاك هو من بدأ بإطلاق النار، حينما انتزع بندقية جندي كان مرافقا له ويقف بجواره، وأطلق منها النار مباشرة، ومن مسافة قريبة جداً، باتجاه الأسير (أسعد الشوا) الذي تصدى له بصدره العاري وتحداه بعنفوان وشموخ الفلسطيني، ليسقط مضرجاً بدمائه. ومن ثم أصيب الأسير (بسام السمودي) برصاصة قاتلة في القلب، استشهد على أثرها. يعتبر الشهيدان أسعد جبرا الشوا (19عاماً) من حي الشجاعية بغزة، وبسام إبراهيم السمودي (30 عاماً) من قرية اليامون في جنين بالضفة الغربية، أول من سقطا برصاص قوات الاحتلال في السجون. وتلا ذلك أحداث كثيرة أدت لاستشهاد خمسة أسرى آخرين ليرتفع عدد الأسرى الذين استشهدوا في سجون الاحتلال جراء اصابتهم بالرصاص الحي بعد أن أطلقت النار عمداً باتجاههم، إلى سبعة شهداء. هذا بالإضافة إلى اصابة المئات من المعتقلين بإصابات مختلفة جراء تلك الاعتداءات التي تُستخدم فيها كافة وسائل وأدوات القمع والقتل. واليوم وبرغم مرور خمسة وثلاثين عاماً على استشهاد الأسيرين (الشوا والسمودي)، ما زالت الذاكرة الشخصية والجمعية تحفظان ذاك التاريخ وتفاصيل ما حدث في ذاك اليوم، فيما الأخطر أن ما حدث من جريمة آنذاك، قد تكرّر لاحقا ومرارا في السجون وسقط المزيد من الشهداء والجرحى، وأن تلك الأحداث، لم تعد مجرد اقتحام عادي وتفتيش روتيني، أو ممارسة فردية واعتداء عابر من قبل هذا الضابط أو ذاك الشرطي كما كان يحدث في الماضي البعيد. كما لم تعد جرائم القمع والاعتداء واستخدام القوة المفرطة حدثاً استثنائياً وموسمياً، أو ظاهرة أسبوعية وشهرية. وإنما أضحت الاقتحامات والاعتداءات واستخدام القوة المفرطة سلوكا ثابتاً وسمة أساسية لدى كل من يعمل في المؤسسة الأمنية الصهيونية، وغدت جزءا أساسيا من معاملة إدارة السجون للمعتقلين الفلسطينيين، وتنفذها بحقهم، فرادى وجماعة، وفي كل الأوقات ليلاً ونهاراً، لدرجة أنها تتكرر أحيانا داخل السجن الواحد أكثر من مرة في اليوم الواحد، وتحدث مرات عديدة خلال أسبوع واحد، وفي مرات كثيرة تحدث في أكثر من سجن في ذات التوقيت. وفي السنوات الأخيرة اتسعت الظاهرة وازدادت عدداً واشتدت عنفا وارتفع أعداد المصابين. ونوثق سنويا مئات الاعتداءات، بشكل فردي أو جماعي، تحت ذرائع مختلفة ومبررات واهية. كما ولم تتوقف الاقتحامات أو يُخفض عددها ومستواها في زمن انتشار فايروس "كورونا". وليس من المبالغة في شيء أن نقول: بأن إدارة سجون الاحتلال تتمتع بسمعة سيئة، في هذا الصدد، بسبب كل هذا التاريخ الحافل بالانتهاكات والجرائم. إن تلك الأحداث التي تعكس الافراط في اللجوء إلى استعمال القوة بحق المعتقلين العُزّل، ما زالت مستمرة الحدوث بشكل نكاد أن نقول: بأنه يومي، وهي جزء من سياسة ثابتة تحظى بمباركة وتشجيع الجهات العليا في دولة الاحتلال والتي شكّلت لهذا الغرض وحدات قمع خاصة حملت أسماء عديدة وعرفت باسم قوات: نخشون ودرور وميتسادا واليماز وغيرها، دون أن نجد اختلافا أو فروقات جوهرية فيما بينها من حيث التدريب والتسليح والأهداف وطبيعة المهام، فجميعها مدربة جيداً ومزودة بأسلحة مختلفة منها السلاح الأبيض والهراوات والغاز المسيل للدموع والرصاص الحارق وأجهزة كهربائية تُحدث آلاماً في الجسم، وفي أحيان كثيرة تستخدم الكلاب، ومزودة أيضا بالأسلحة النارية ذات الذخيرة الحية القاتلة والمحرمة دولياً. كما تضمّ خبراء سبق لهم أن خدموا في وحدات حربية مختلفة، في جيش الاحتلال الصهيوني. إن المهام الموكلة لهذه الوحدات حسب هو مُعلن - تتمثل في الحراسة وتوفير الأمن أثناء نقل المعتقلين من سجن لآخر، أو من السجن إلى المحاكمة، ومنع هروب السجناء، وافشال أي محاولات لاعتراض قافلتهم ومحاولة تحريرهم، بالإضافة إلى مواجهة كافة حالات الطوارئ في السجن والقضاء على أي احتجاجات قد ينفذها الأسرى، بما فيها عمليات احتجاز رهائن أو الاعتداء على السجانين. ولكن الوقائع والشهادات تؤكد بأن أهداف تلك الوحدات غير المعلنة - تتعدى موضوع الحراسة والأمن، لتستهدف الحركة الأسيرة ووجودها واستقرارها، ومحاولة المساس بالمكونات الشخصية للأسرى والانتقام منهم، وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي والمعنوي بهم، والمس بكرامتهم والسعي لإذلالهم واهانتهم واستفزازهمعبر التفتيش العاري وغيره من الاجراءات المهينة، وصولا إلى السيطرة عليهم والتحكم في سلوكهم وتصرفاتهم وإجبارهم على القبول بسياسة الأمر الواقع وتنفيذ أوامر وتوجيهات إدارة السجون. كما امتدت جرائم تلك الوحدات، في كثير من الأحيان، إلى المس بالمشاعر والمقدسات الدينية، كقذف المصاحف الشريفة على الأرض، والدوس عليها، وتمزيقها. وأحيانا تُنفذ ادارة السجون تلك الاقتحامات للتغطية على أحداث حصلت في ذات السجن أو لحرف الأنظار عن أحداث وقعت في سجون أخرى، وكأنها تسعى إلى نقلنا ونقل الأسرى واهتماماتهم من مكان لآخر. إن حكاية (الشوا والسمودي) لم تمت ولن تموت، وأن ما يحدث اليوم في السجون من أحداث مشابهة واقتحامات واعتداءات متكررة واستخدام القوة المفرطة يتطلب توثيقاً علمياً وشاملاً بمشاركة الأسرى والمعتقلين، ويستدعي تحركاً على كافة الصعد من قبل المؤسسات المعنية بالأسرى وتلك التي تختص بالقانون وحقوق الإنسان والاعلام، والاستفادة من الفيديوهات التي توثقها وتبثها سلطات الاحتلال بهذا الخصوص، لتسليط الضوء على تلك الجرائم وفضحها وملاحقة مقترفيها ووضع حد لها. عن المؤلف عبد الناصر عوني فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة. ولديه موقع شخصي اسمه: فلسطين خلف القضبان.