الجزائر العاصمة : دخول نفقين حيز الخدمة ببئر مراد رايس    بوغالي يستقبل وفدا عن لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بمجلس الشورى الإيراني    افتتاح الطبعة ال20 من الصالون الدولي للأشغال العمومية : إمضاء خمس مذكرات تفاهم بين شركات وهيئات ومخابر عمومية    مشاركون في يوم دراسي : فرص هامة للشباب الراغبين في الاستثمار في الجزائر    المغرب: احتجاجات المتقاعدين تشعل الجبهة الاجتماعية    الدفاع المدني في غزة : أضرار جسيمة بخيام النازحين بسبب الأمطار    تبسة: افتتاح الطبعة الثالثة من الأيام السينمائية الوطنية للفيلم القصير "سيني تيفاست"    قانون المالية 2025: تعزيز الاقتصاد الوطني وتحسين الإطار المعيشي للمواطنين    مذكرتي الاعتقال بحق مسؤولين صهيونيين: بوليفيا تدعو إلى الالتزام بقرار المحكمة الجنائية    القرض الشعبي الجزائري يفتتح وكالة جديدة له بوادي تليلات (وهران)        ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 44211 والإصابات إلى 104567 منذ بدء العدوان    الكاياك/الكانوي والباركانوي - البطولة العربية: الجزائر تحصد 23 ميدالية منها 9 ذهبيات    فترة التسجيلات لامتحاني شهادتي التعليم المتوسط والبكالوريا تنطلق يوم الثلاثاء المقبل    غزة: الاحتلال يواصل جرائم الإبادة شمال القطاع    الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائرتتوج بالذهبية على حساب الكاميرون 1-0    "كوب 29": التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغير المناخ    مولوجي ترافق الفرق المختصة    الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    قرعة استثنائية للحج    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    المخزن يمعن في "تجريم" مناهضي التطبيع    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    معرض وطني للكتاب بورقلة    دخول وحدة إنتاج الأنابيب ببطيوة حيز الخدمة قبل نهاية 2024    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفاصيل بشأن سرقة الاحتلال لجثامين الشهداء
نشر في الشعب يوم 06 - 09 - 2023

كنت قد سَمعتُ عن سجون كثيرة، وقرأت قصصاً وحكايات عديدة نُسجت داخل جدرانها، ومرَرتُ بتجارب شخصية مريرة، لكني لم أسمع شيئاً، أو أقرأ خبراً عن سجون رسمية خُصصت لسجن الأموات، سوى هنا، وهنا فقط في فلسطين، حيث تُسجن الجثامين، وحيث جعل الاحتلال الصهيوني من ثلاجات الموتى ومقابر الأرقام سجوناً للشهداء وعقاباً للأحياء من بعدهم!
شهداء لم يوجعهم الموت، بل أوجع الأحياء المنتظرين عودتهم، وأوجع "دولة" لا زالت تخافهم وهم أموات، وتخشى تحريضهم وهم في قبورهم تحت التراب، فتعاقبهم وتعاقب ذويهم بعد موتهم، فتحتجز جثامينهم وتسجنها فيما يعرف بمقابر الأرقام أو ثلاجات الموتى، في واحدة من أكبر وأبشع الجرائم الإنسانية والأخلاقية والدينية والقانونية التي تقترفها دولة الاحتلال الصهيوني علانية.
وكثيراً ما استُخدمت الجثامين المحتجزة لغرض الضغط والابتزاز والمساومة، كجزء من سياسة تتبعها دولة الاحتلال منذ سنوات طويلة. وقد احتُجزت مئات الجثامين، بعضها أُفرج عنه في إطار صفقات تبادل مع فصائل عربية وفلسطينية، وبعضها الآخر عبر المفاوضات السياسية بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال، أو نتيجة جهود قانونية قامت بها مؤسسات حقوقية، والتفاصيل هنا كثيرة، بينما لا تزال دولة الاحتلال الصهيوني تحتجز نحو 357 جثماناً لشهداء فلسطينيين وعرب، منهم 253 جثماناً محتجزين منذ عام 1967 فيما يعرف بمقابر الأرقام، و104 جثامين محتجزين في ثلاجات الموتى منذ عام 2015، منها 12 جثماناً لفلسطينيين من القدس و27 جثماناً لفلسطينيين من قطاع غزة و65 جثماناً لفلسطينيين من الضفة الغربية، بينهم 3 جثامين لإناث و9 لأطفال قتلهم الجيش الصهيوني، وفقاً للبيان الأول ل«الحملة الشعبية لاسترداد جثامين الشهداء" التي انطلقت الشهر الماضي.[1]
وتعود الجثامين المحتجزة، في مقابر الأرقام وثلاجات الموتى، إلى شهداء فلسطينيين وعرب، من الذكور والإناث، سقطوا في أزمنة متعدّدة وسنوات متباعدة وظروف مختلفة، فمنهم من استشهد في سبعينيات القرن الماضي، ومنهم من استشهد حديثاً. كما لا يقتصر احتجاز الجثامين على من شاركوا في المقاومة المسلحة ومنفذي العمليات الفدائية النوعية، كالشهيدة دلال المغربي المحتجز جثمانها منذ ما يزيد على أربعين عاماً، أو على الأشلاء المتبقية من جثامين منفذي العمليات الاستشهادية، بل هناك أيضاً جثامين محتجزة تعود إلى شهداء قتلتهم قوات الاحتلال عمداً، أو قامت بتصفيتهم بعد احتجازهم واعتقالهم، وهناك أيضاً تسعة جثامين محتجزة تعود إلى أسرى توفوا داخل السجون الصهيونية جراء التعذيب والإهمال الطبي والقتل البطيء، وترفض سلطات الاحتلال الإفراج عنهم، فهم لم يكتفوا باحتجازهم أحياء، بل يواصلون احتجاز جثامينهم بعد موتهم، وأقدمهم الأسير أنيس محمود دولة (36 عاماً) من قلقيلية، الذي استشهد بين جدران سجن عسقلان في 31 آب/أغسطس 1980، بالإضافة إلى ثمانية أسرى آخرين هم: عزيز موسى عويسات (53 عاماً) من القدس استشهد عام 2018، وفارس أحمد بارود (51 عاماً) من غزة، ونصار ماجد طقاطقة (31 عاماً) من بيت لحم، وبسام أمين السّايح (46 عاماً) من نابلس، وثلاثتهم استشهدوا عام 2019، وسعدي خليل الغرابلي (75 عاماً) من غزة، وكمال نجيب أبو وعر (46 عاماً) من جنين، والاثنان استشهدا عام 2020، والشهيد الأسير سامي عابد العمور (39 عاماً) من غزة استشهد عام 2021، وآخرهم داود محمد الزبيدي (40 عاماً) من جنين الذي استشهد بتاريخ 15 أيار/مايو الماضي.
بالإضافة إلى مئات آخرين ممن فُقد أثرهم ويُجهل مصيرهم، إذ سبق لكثير من العائلات الفلسطينية والعربية أن تقدمت بشكاوى عديدة بشأن اختفاء أبنائها، كأن الأرض انشقت وابتلعتهم، في حين لا تزال دولة الاحتلال تنكر وجودهم أحياء في سجونها السرية، ولا تعترف بهم أمواتاً في مقابر الأرقام، فيُطلق عليهم تسمية "المفقودين".
من هنا، يبدو واضحاً أن ثمّة ترابطاً أساسياً ووثيقاً بين الاختفاء القسري لمئات المقاومين الفلسطينيين والعرب، وبين مقابر الأرقام والسجون السرية، وخصوصاً السجن الصهيوني رقم 1391. فربما هناك بين المفقودين من هم أحياء في السجون السرية، أو أنهم قُتلوا وتحولوا إلى جثث مأسورة في مقابر الأرقام.
حسن دولة يحمل صورة شقيقه الأسير الشهيد أنيس المحتجز جثمانه منذ استشهاده في السجن الصهيوني عام 1980. (الجزيرة)
فما هي مقابر الأرقام؟
مقابر الأرقام اسم ارتبط بسجلات أسماء الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال الصهيوني، وهي مقابر سرية تقع في مناطق عسكرية مغلقة تخضع لوزارة "الدفاع"، ويُمنع الاقتراب منها أو تصويرها، ولا يُسمح لذوي الضحايا، أو ممثلي المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام بزيارتها. ومقابر الأرقام هذه عبارة عن مدافن بسيطة تميزها أرقام مثبتة على لوحات معدنية أكلها الصدأ، وفوق كل قبر لوحة تحمل رقماً وليس اسم الشهيد، ولكل رقم ملف خاص تحتفظ به الجهات الأمنية الصهيونية عن صاحب الجثمان المدفون في جوف القبر، ولذا سميت مقابر الأرقام. وفي تلك المقابر دُفنت الجثامين بطريقة مهينة وقريبة من سطح الأرض، بل إن بعض القبور قد تلاشت تماماً بفعل السيول ومياه الأمطار التي جرفت ما بداخلها، فتناثرت الأشلاء وظهرت على سطح الأرض، وفي إثر ذلك كشفت وسائل إعلام صهيونية مصادفة، منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعض تلك المقابر التي ظلّت لسنوات طويلة طي السرية، وهي:
1 - مقبرة الأرقام المجاورة لجسر بنات يعقوب، وتقع في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الصهيونية السورية - اللبنانية، وتفيد بعض المصادر بوجود نحو 500 قبر فيها لشهداء فلسطينيين ولبنانيين، سقطوا في معظمهم في حرب 1982 وما بعد ذلك.
2 - مقبرة الأرقام الواقعة في المنطقة العسكرية المغلقة بين مدينة أريحا وجسر دامية في غور الأردن، وهي محاطة بجدار فيه بوابة حديدية مُعلّق فوقها لافتة كبيرة كُتب عليها بالعبرية "مقبرة لضحايا العدو"، ويوجد فيها أكثر من مئة قبر، وتحمل هذه القبور أرقاماً من 5003 إلى 5107. ويُحتمل أن تكون هذه الأرقام تسلسلية لقبور في مقابر أُخرى.
3 - مقبرة ريفيدي وتقع في غور الأردن.
4 - مقبرة شحيطة وتقع في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبرية الواقعة بين جبل إربيل وبحيرة طبرية. ومعظم الجثامين في هذه المقبرة هي لشهداء معارك منطقة الأغوار في الفترة 1965-1975. وفي الجهة الشمالية من هذه المقبرة، تصطف نحو 30 من الأضرحة في صفين طويلين، وينتشر في وسطها نحو 20 ضريحاً. وما يثير المشاعر كون هذه المقابر عبارة عن مدافن رملية قليلة العمق، الأمر الذي يعرضها للانجراف، فتظهر الجثامين منها لتصبح عرضة لنهش الكلاب الضالة والوحوش الضارية.[2]
السؤال الذي يتبادل إلى الذهن: لماذا يحتفظ الاحتلال بجثامين الشهداء؟
يدرك الصهاينة أهمية دفن الميت لدى المسلمين، وأن كرامة الميت في الإسلام التعجيل في دفنه في قبر معروف داخل مدافن مؤهلة وفقاً لتقاليدهم الدينية، وذلك بعد تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، لكن لا شيء من هذا يحدث في حال احتجاز جثته، الأمر الذي يؤلم الأهل ويزيد من حزنهم، حتى إن بعضهم لا يعترف باستشهاد ابنه، ومنهم من لا يقيم بيتاً للعزاء ما لم يتسلموا جثمانه. ومن هنا نعتقد أن الاحتلال يهدف من وراء احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب إلى ما يلي:
أولاً: الانتقام من الشهداء لما قاموا به من فعل مقاوم أوجع الاحتلال وألحق الأذى والألم بجنوده، قبل وفاتهم.
ثانياً: ردع الآخرين ومنعهم من القيام بأعمال كفاحية ضد المحتل، فالاحتلال يدرك مكانة الشهداء وقدسيتهم وكيف يتحولون إلى أيقونات في النضال الفلسطيني، ويعلم بأن الشهداء وقود ثورة لكل من جاء بعدهم. لذا يتجنب المواجهات مع المشيعين ويخشى أن تتحوّل الجنازات إلى مناسبات لتكريم الشهداء ولتأكيد المضي على خطاهم، فيخاف الشهداء ويخشى تحريضهم وانعكاساته الآنية والمستقبلية.
ثالثاً: العقاب الجماعي لعائلاتهم وذويهم وأحبتهم بهدف مفاقمة معاناتهم وردعهم، ويصاحب ذلك أحياناً أعمال تنكيل وهدم بيوت واعتقالات وإبعاد أفراد أسر عن مكان سكناهم.
رابعاً: استخدام جثامين الشهداء للضغط والابتزاز في التعامل مع العائلات أو الفصائل التي ينتمون إليها، وأحياناً كورقة في أي مساومة متوقعة في المستقبل. وهذا ما تؤكده التصريحات الصهيونية الرسمية التي تدعو دائماً إلى إبقاء جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب رهينة وورقة يتمّ الاحتفاظ بها لمفاوضات مستقبلية إذا ما قُتل جندي صهيوني وتمّ أسر جثمانه، أو في إطار مفاوضات سياسية قادمة.
وقد حدث ذلك عدة مرات أفرج فيها الكيان الصهيوني عن مئات الجثامين في إطار المفاوضات السياسية مع السلطة الفلسطينية، أو ضمن صفقات تبادل مع منظمة "حزب الله" اللبنانية، بينما لم تُفرج مثلاً عن جثماني الشهيدين محمد عزمي فروانة وحامد الرنتيسي اللذين استشهدا خلال مشاركتهما في عملية "الوهم المتبدّد" التي أُسر فيها الجندي الصهيوني غلعاد شاليط. ففي صفقة تبادل الأسرى عام 2011 اشترط الكيان الصهيوني حينها الإفراج عن شاليط لإعادة جثماني الشهيدين، فأُفرج عنه في إطار الصفقة المذكورة، لكن دولة الاحتلال ما زالت ترفض الإفراج عن جثماني الشهيدين وتحتجزهما إلى جانب مئات آخرين.
خامساً: إخفاء آثار جرائم الاحتلال البشعة خلال عمليات قتل هؤلاء الشهداء والتمثيل بجثثهم، وعدم فتح المجال أمام إجراء تحقيقات دولية.
سادساً: إزالة أي آثار يمكن أن تثبت الاتهامات الرائجة بتورط دولة الاحتلال كما يعتقد كثيرون - في سرقة أعضاء الشهداء، فتحتجزهم طويلاً وتتحلل جثثهم مع مرور الوقت وتختفي آثار جرائم السرقة.
هل فعلاً يسرق الكيان الصهيوني أعضاء الشهداء؟
يتعزّز الاعتقاد لدى الفلسطينيين ولدى كثيرين من العرب، يوماً بعد آخر، أن عدداً من شهدائهم قد سُرقت أعضاؤهم، ثم دُفنوا في مقابر الأرقام لإخفاء آثار الجريمة، وهناك مخاوف حقيقية من سرقة مزيد من الأعضاء لشهداء آخرين ما زالت جثامينهم محتجزة لدى الاحتلال، وخصوصاً بعدما أثارت صحيفة "افتونبلاديت" السويدية في عددها الصادر بتاريخ 19 آب/أغسطس 2009 قضية سرقة أعضاء الشهداء، واتهمت قوات الاحتلال الصهيوني بقتل مواطنين فلسطينيين بهدف سرقة أعضائهم الداخلية، والاستفادة منها بشكل غير شرعي، والإتجار بها ضمن شبكة دولية. وما تلا ذلك من تحقيق صحافي نشرته شبكة "سي إن إن" الأميركية، أوائل أيلول/سبتمبر 2009، وكشف فيه عن معطيات جديدة تشير إلى أن الكيان الصهيوني يعتبر أكبر مركز عالمي لتجارة الأعضاء البشرية.
وكان ذوو بعض الشهداء قد رووا في أحاديث متفرقة، بعد تسلمهم للجثامين، أنهم رأوا الجثث مخيطة بشكل يوحي أنه جرى تشريحها، ويبدو كأن شيئاً أُخذ من داخلها، ومنهم من رأوا بوضوح اختفاء بعض الأعضاء حين تسلموا الجثامين، وأُجبروا على دفنها في المقابر بظروف مشددة.]3[
وفي كتابها "على جثثهم الميتة"، كشفت الدكتورة مئيرا فايس عن قضية سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين، وذكرت أنه في الفترة 1996-2002 كانت موجودة في معهد أبو كبير للطب الشرعي في تل أبيب لإجراء بحث علمي، وهناك رأت كيف كانت تتمّ سرقة الأعضاء، ولا سيما من الفلسطينيين. وقالت فايس، وهي خبيرة صهيونية في علم الإنسان (Anthropology): خلال وجودي في المعهد شاهدتُ كيف كانوا يأخذون أعضاءً من جسد فلسطيني، ولا يأخذون في المقابل من الجنود. وزادت: كانوا يأخذون قرنيات، وجلد، وصمامات قلبية، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنه لا يمكن لأناس غير مهنيين أن يتنبهوا لنقص هذه الأعضاء، حيث يضعون مكان القرنيات شيئاً بلاستيكياً، ويأخذون الجلد من الظهر بحيث لا ترى العائلة ذلك.
وقد أرسلت وزارة الصحة الصهيونية إلى قناة "الجزيرة" رداً مكتوباً، قالت فيه: إن ذلك كان يحدث في الماضي، أمّا اليوم فيأخذون الأعضاء وفق القانون وبموافقة مسبقة. لكن السؤال المطروح هو عن أي موافقة تتحدث الوزارة، من العائلات أم من المحكمة أم من أي جهة؟
وبعد أن كشفت مئيرا فايس عما رأته خلف هذه الأبواب، زعم الاحتلال الصهيوني أنه توقف عن سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين، لكن اشتراطه منع التشريح لإعادة الجثامين المحتجزة يثير لدى ذويهم تساؤلات كثيرة، لأن الاحتلال لم يحترم يوماً حرمة أحيائهم كي يحترم حرمة أمواتهم.]4[
الخلاصة
إن احتجاز الجثامين لم يكن يوماً حدثاً استثنائياً أو موقفاً عابراً، وإنما هي سياسة رسمية وثابتة ومنظمة تتبعها دولة الاحتلال الصهيوني منذ عشرات السنين، ومقابر الأرقام وثلاجات الموتى تطفح بمئات الجثامين لشهداء من جنسيات عربية متعدّدة سقطوا في ظروف مختلفة. وكثيرة هي المرات التي أُطلقت فيها التصريحات الصهيونية الرسمية التي تدعو إلى احتجاز جثامين الشهداء وعدم تسليمها إلى ذويها، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد ناقش الكنيست الصهيوني وأقر العديد من القرارات خلال السنوات الأخيرة التي رسخت وشرعنت هذه الممارسات كجزء من العقاب الجماعي.
إن سياسة احتجاز الجثامين تنتهك الحقوق الأساسية للمتوفي وعائلته، وتُعدُّ عملاً غير إنساني وغير أخلاقي، كونه يمثل تعدياً سافراً على كل القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية، وتشكل سلوكاً منافياً لكل الأعراف والمواثيق الدولية، وانتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ولا سيما اتفاقية جنيف الأولى في مادتيها 15 و17، والمادة 120 من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة. فقد نصّت هذه المواد وغيرها على حق الموتى في التكريم، وألزمت دولة الاحتلال بتسليم الجثث إلى ذويها، ومراعاة الطقوس الدينية اللازمة خلال عمليات الدفن، بل وحماية مدافن الموتى وتسهيل وصول ذويهم إلى قبورهم، واتخاذ الترتيبات العملية اللازمة لتنفيذ ذلك.
وكل ذلك مضاف إلى ما ورد في المادة 34 من الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف، والتي تنصّ على ضرورة المحافظة على كرامة الميت والقبور وعدم انتهاك رفات الأشخاص الذين توفوا بسبب الاحتلال، أو في أثناء الاعتقال الناجم عن الاحتلال، أو الأعمال العدائية. كما تؤكد ضرورة تأمين حماية هذه المدافن وصيانتها بصورة مستمرة، وأن أطراف النزاع ملزمون بالتوصل إلى اتفاق بالسرعة الممكنة، وعندما تسمح الظروف بذلك، من أجل ضمان وصول الأهالي إلى قبور الموتى، ولتسهيل إرجاع الجثامين وأغراضهم الشخصية، بناء على طلب دولة المتوفين، أو أحد أقربائهم.
علاوة على ذلك، فإن عملية احتجاز جثامين الشهداء ورفض تسليمها إلى عائلاتهم لدفنها بكرامة وتبعاً لمعتقداتهم الدينية، ترقى إلى مستوى العقاب الجماعي والمحظور في المادة 50 من لوائح لاهاي، والمادة 87 من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة 33 من معاهدة جنيف الرابعة.
وأحياناً تفرض سلطات الاحتلال شروطاً قبل تسليم جثث الشهداء التي تقرّر الإفراج عنهم، مثل عدم إعادة تشريح الجثة، وأن تُدفن ليلاً بحضور عدد محدود جداً من الأهل، وإغلاق القبر بكتلة إسمنتية محكمة تحول دون استخراج الجثة لاحقاً كي لا يتمكن الأهل من معرفة ما الذي حدث لجثة ابنهم، وما الأعضاء التي قد تكون سرقت منه. وكل ذلك يتمّ بمراقبة قوات الاحتلال ومتابعة جهاز المخابرات الصهيوني.
ختاماً، يصرّ الفلسطينيون على استعادة جثامين أبنائهم مهما طال الزمن أو كلف الثمن، ويخوضون معارك قانونية عديدة في سبيل ذلك، ويجددون بين الفينة والأُخرى مطالباتهم للسلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة بضرورة إدراج جثامين أبنائهم ضمن أي صفقة تبادل أو مفاوضات سياسية قادمة. وقد نجحوا في استعادة المئات من جثامين الشهداء في عدة مناسبات، وفي 27 آب/أغسطس 2008 أطلق مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان بالشراكة مع شبكة أمين الإعلامية "الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين"، ثم تطورت وانضمت إليها مؤسسات أُخرى، رسمية وأهلية، واعتُمد يوم انطلاقتها كيوم وطني لاسترداد الجثامين المحتجزة، ويتم إحياؤه كل عام. وخلال أيار/مايو الماضي أُطلقت حملة فلسطينية شعبية باسم "بدنا أولادنا"، وذلك في إطار السعي الفلسطيني المتواصل لاستعادة جثامين الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال الصهيوني، لتمكين ذويهم من إعادة دفنهم بكرامة، وتبعاً لثقافتهم ومعتقداتهم الدينية في مدافن وأمكنة مؤهلة وقبور معلومة.

1 "الجزيرة"، إطلاق حملة فلسطينية شعبية لاستعادة جثامين الشهداء.
2 "وفا"، مقابر الأرقام.
3 "الجزيرة نت"، سوابق الكيان الصهيوني في سرقة الأعضاء البشرية.
4 "الجزيرة"، شكوك حول سرقة الكيان الصهيوني أعضاء الشهداء.
عن الكاتب:
عبد الناصر فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة. ولديه موقع شخصي اسمه: فلسطين خلف القضبان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.