لم يكن احتلال فلسطين إلاّ السّطر الأخير في رواية الوهن العربي، وهو المصطلح الذي قد يلخّص كلّ أسباب ومظاهر ما اصطلحنا على تسميته بالتخلّف، والذي يمتدّ لينسحب على غياب وقصور الأسباب المادية والإدارية التنظيمية التي تضبط إيقاع المجتمع وتشمل الحكام والمحكومين على حدٍّ سواء، ولكنّها تغوص أيضاً لتطال العميق في الفرد الإنسان ويقظته وانتباهه وحماسته وطموحه وأشواقه وجينات الحرية والجمال في روحه وإدراكه لذاته والمحيط من حوله ووضوح الصورة التي ينشدها لذاته وإيمانه بدوره في المكان والزمان بالإضافة إلى اجتهاده في ابتكار الأدوات التي تمكّنه من امتلاك فضائه وتطويره، وهي معادلة وإن بدت معقَّدةً إلاّ أنّها تتلخّص في افتقاد الطموح والهدف والإيمان بالذات والتي تجعل الفرد مسترخياً مستسلماً مستهلِكاً، إلى أن يصبح مجرّد هلامٍ غير قادر على التفكير ناهيك عن الابتكار، وراهناً حاضره ووجوده بالآخرين، ومتوسّلاً سماته منهم وواقفاً على أبواب شرعيتهم ومراهناً على عطفهم وتفهّمهم متكئاً على أوهام حسن ظنه بهم أو مخادعاً نفسه بذلك، ويصل الأمر إلى منتهاه حين يصبح في نهاية الأمر مستلباً وعاجزاً ليس عن التفكير فقط بل عن الرغبة أيضاً حين تنضب أشواقه ويستسلم حينها لغرائزه وأوهامه، ويفقد كلّ صلة له بذاته حتى لا يكاد يستطيع أن يتخيّل أيَّ إمكانية نهوض أو فعلٍ إيجابي يصدر عنه، وحتى حين ينهض ثانية ويبدع سيمفونيةً على شكل انتفاضة وثورة مجتمعية وصحوة فإنّه لا يجد أين يضعها في إحداثيات إدراكه، إلاّ أنّها مؤامرة أمريكية صهيونية، فقد بلغ به الأمر إلى أن مُسحت الخريطة الدلالية الأولى لديه واستبدلت بها الدلالات والمعايير التي ظلّت تُصبّ في وجدانه مع كلّ وجبة همبورغر وفيلم كاوبوي دون أن ننسى الدور المكمل للاستبداد الداخلي الذي جعله يؤثر السلامة ويستبدل عنَّةَ الفكر بالكرامة، حتى يصبح بإمكاننا أن نتصوّر أنَّ إنساناً جديداً قد تشكّل على مدى عقود طويلة جعلت بالإمكان التسلّل إلينا واستلاب مساحاتنا الداخلية من وعي وملامح وانتباه وثقة وإرادة قبل أن يصبح بالإمكان استلاب فضائنا وزماننا وأرضنا وثقافتنا وقرارنا، والتي ترتد لتفاقم استلابنا الداخلي وتتفاعل في حلقة سوداء يراد في منتهاها أن تُجهز على جميعنا ليكون الشكل النهائيُّ مسخاً أشبه بالبشر يقبل بنفيه وهامشيته ويتجرّأُ على كينونته هؤلاء الآخرون إلى درجة الامتهان حين يطلبون من العرب الإقرار بوطنهم دولةً يهوديّة، هذا السطر الأخير في هذه الرواية هو مفتتح لهوامش الرواية التي سارت وتدحرجت وجعلت كلّ الفصول التالية ممكنة، وجعلت ممكنا كلّ هذا الاستبداد الذي بدّدنا واستنزفنا في كوميديا تصل إلى أن تصبح مقدراتنا في بنوك أعدائنا يقاتلوننا بها ويبتزّوننا بها في مشهد عجزٍ كامل عن التوقّف عن الانزلاق في الجبّ الذي يشيرون به علينا، ويوظفوننا لإفقارنا ويوحون إلينا بتخريب بيوتنا بأيدينا وقد أصبحنا والحال كما تقدّم مجرد دمى، فليس غريباً أن يكون منّا ما يكون حين نكمّم أفواهنا لكي لا نصرخ فيهم، ونضحي بثرواتنا رخيصةً من أجل أن يصعدوا على هاماتنا، لقد تجرّأوا على إنسانيتنا ووعينا وذكائنا قبل أن يتجرأوا على حقوقنا، وصادروا تفردنا حين وصل منتهى الاستلاب منّا أن لا نصدّق أنّنا قادرون على الإبداع والكرامة وأنّ وجودنا ذاته قد يكون مجرّد تدبير ومؤامرة وتخطيط منهم، لكن هذا السّطر الأخير في اغتصاب فلسطين هو أيضاً السّطر الأول في رواية الصحوة بما تمثله فلسطين في الوجدان العربي وبما تستفزّه في مدركاتنا ووجداننا وكينونتنا وفي العميق من سرّ الكرامة والتحقّق فينا وفي البعيد البعيد الذي يحسّه الرجال، فإذا كان اغتصابها هو منتهى درجات استلاب الإنسان العربي بما أنّها تاج كرامته وجوهرة عزّته، وبما أنّ معاناته وتخلّفه اللذين حرص أعداؤه على تكريسهما كانتا لتأبيد اغتصاب تاجه وجوهرته فإنّه يعي تماماً أنّ عزّته وحريته وكرامته ونهضته لن تتحقّق ولن تكتمل ولن تستقرّ إلا بالتوقيع الأخير، وأنّ تحرير فلسطين هو هذا التوقيع، لهذا بالضبط كانت فلسطين هي الحاضر الكامل في عمق مشهد حرية الشعوب العربية التي تستأنف الآن ذاتها لتجعل من كابوسنا الحاضر مجرّد سطرٍ يقرأه مستقبلاً تلاميذ العرب في كتاب التاريخ.