أجرى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في الفترة 4-11 جانفي 2024، جولة جديدة هي الرابعة في المنطقة منذ عملية طوفان الأقصى وبدء العدوان الصهيوني على غزّة في أكتوبر 2023. وتهدف جولته الأخيرة، على نحو رئيس، إلى منع توسّع دائرة الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزّة إلى صراع إقليمي مفتوح تَنجرُّ إليه الولاياتالمتحدةالأمريكية قبل عشرة شهور فقط من انتخابات رئاسية حاسمة ستجري فيها؛ وهي انتخابات، كما تشير استطلاعات الرأي، ستكون صعبة بالنسبة إلى الرئيس جو بايدن والحزب الديمقراطي. وتأتي جولة بلينكن أيضًا في وقت تجد فيه الولاياتالمتحدة نفسها منخرطة عسكريًّا، وإن على مستوى منخفض، في ثلاث جبهات، العراق وسورية والبحر الأحمر، في حين أنّها تراقب بقلق التصعيد على الحدود مع لبنان، وفي الضفة الغربية، على خلفية ما يجري في قطاع غزّة. مع انطلاق العدوان الصهيوني على غزّة، تحرّكت الولاياتالمتحدة سريعًا لمنع توسّع الصراع خارج القطاع، وقامت بتوفير مظلة عسكرية تسمح للكيان الصهيوني بالتركيز على تحقيق أهدافه التي حدّدها بالقضاء على القدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية وإطاحة سلطة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزّة، عبر ردع أيّ خصوم محتملين له. بناءً عليه، أمر الرئيس بايدن، في أكتوبر 2023، بتوجيه حاملتَي طائرات نوويتين مع مجموعتيهما المقاتلتين إلى المنطقة، هما "يو إس إس جيرالد آر فورد" و«يو إس إس دوايت دي أيزنهاور"، وانضمّت إليهما لاحقًا غواصة نووية، مع آلاف الجنود، فضلًا عن طائرات ذات قدرات هجومية. وكانت الفكرة حينذاك أنّ هذه القوة العسكرية ستكون بمنزلة إضافةٍ إلى أنظمة الدفاع الصاروخية الصهيونية، قادرةٍ على ردع أيّ هجوم على الكيان والتصدّي له، في حال حصوله من جانب إيران أو حلفائها في المنطقة (حزب الله اللبناني، وجماعة الحوثيين في اليمن، والفصائل الشيعية في العراق وسورية). ومع أنّ الولاياتالمتحدة نجحت في منع حصول مواجهات عسكرية واسعة خارج قطاع غزّة خلال الشهور الثلاثة الماضية، فإنّ قدرات الردع الأمريكية بدأت تتآكل مع استمرار وحشية العدوان الصهيوني على غزّة، وعَجْز الولاياتالمتحدة عن ضبطه، بخاصة ضدّ المدنيين. ويبدو أنّ استراتيجية الردع التي اعتمدتها إدارة بايدن في مواجهة إيران وحلفائها عبر زيادة القدرات والأصول العسكرية الأمريكية في المنطقة، قد تحوّلت هي نفسها إلى محفّز لصراع إقليمي أوسع؛ إذ استغل الكيان الصهيوني مظلّة الحماية الأمريكية له في توسيع نطاق عملياته العسكرية. الجبهة اللّبنانية كانت إدارة بايدن قد وجّهت حاملة الطائرات "يو إس إس جيرالد آر فورد" ومجموعتها المقاتلة، في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، في رسالة مباشرة هدفها ردع حزب الله خصوصًا. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الحزب بدأ في شنَّ هجمات محدودة على شمال الكيان منذ 8 أكتوبر 2023. وقد ظلّ الطرفان يتبادلان القصف على جانبَي الحدود منذ ذلك الوقت. ويؤكّد مسؤولون أمريكيون أنّ الكيان كان يستعد لشنَّ هجوم واسع على حزب الله في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، بناءً على مزاعم استخباراتية مفادها أنّ الحزب كان يعلم بها وأنّه ساندها، وهو الأمر الذي لم تتفق معه التقديرات الاستخباراتية الأمريكية. وبحسب إدارة بايدن، فقد نجحت جهودها في منع الكيان من فتح جبهة مع حزب الله خشية أن يجرّ ذلك الولاياتالمتحدة إلى حرب إقليمية نيابةً عن الكيان. لكنّ قيام الكيان الصهيوني باغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، وعدد آخر من كوادر الحركة، في هجوم بطائرة مسيّرة في الضاحية الجنوبية لبيروت، في 2 جانفي، وقيام حزب الله باستهداف قاعدة ميرون الصهيونية للمراقبة الجوية، في إطار ما قال إنّه "ردّ أوليّ" على اغتيال العاروري، رفع مستوى القلق الأمريكي من اندلاع حرب مفتوحة بين الطرفين. وتساور إدارة بايدن شكوك في أنّ رئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، قد يسعى إلى توسعة الحرب مع حزب الله اللبناني خدمةً لمصالحه السياسية، وضمانًا لبقائه في الحكم أطول فترة ممكنة؛ لعلمه أنّ حكومته قد تسقط بمجرد انتهاء الحرب على غزّة. ويساور الشكّ مسؤولين أمريكيين في أنّ سحب الكيان آلاف الجنود من قطاع غزّة، في بداية العام الجاري، قد يكون مقدّمةً لزجهم في حرب مع لبنان. واستنادًا إلى تقدير ل«وكالة استخبارات الدفاع" التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، فإنّ تورط الكيان الصهيوني في حرب متزامنة على الجبهتين، جنوبًا في غزّة وشمالًا في لبنان، سيمثل تحديًا كبيرًا بالنسبة إلى جيشها الذي سيضطر إلى نشر أصوله وموارده العسكرية على نحو يستنزف قدراته. ويحذّر التقدير من أنّ حزب الله يملك ترسانة عسكرية أكبر كثيرًا من الترسانة التي تملكها حماس، بما في ذلك آلاف الصواريخ الدقيقة والطويلة المدى، فضلًا عن أنّ الطيران العسكري الصهيوني لن يتمتّع في الأجواء اللبنانية بالحرية نفسها؛ لامتلاك حزب الله مضادات طائرات، وهذا الأمر قد يجرّ الولاياتالمتحدة إلى الصراع، في نهاية المطاف، للدفاع عن الكيان. لتلافي ذلك، تحاول إدارة بايدن، بالتنسيق مع حلفائها الأوروبيين، خفض التصعيد الصهيوني مع لبنان عبر طرح تسوية تتعلّق بالحدود بين الجانبين، وتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي، رقم 1701، لعام 2006، الذي يحدد شروط وقف إطلاق النار بين الكيان وحزب الله. وينصّ هذا القرار، في جانب منه، على حظر أيّ وجود مسلّح جنوب نهر الليطاني، على الحدود مع الكيان الصهيوني، باستثناء الجيش اللبناني والقوة الدولية "يونيفيل". وفي الوقت الراهن، يعمل كلّ من المبعوث الأمريكي، عاموس هوكشتاين، ومنسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، على ترتيب هذا الملف مع لبنان الكيان. لكنّ حزب الله لن يقبل، على الأرجح، الانخراط في أيّ ترتيبات حدودية مع الكيان في ظلّ استمرار العدوان على قطاع غزّة؛ لأنّ ذلك سَيمسُّ بصورته باعتباره ركنًا أساسيًّا في "محور المقاومة" ضدّ الكيان الصهيوني. البحر الأحمر قامت الولاياتالمتحدة، في أكتوبر 2023، بتوجيه حاملة الطائرات "يو إس إس دوايت دي أيزنهاور" ومجموعتها المقاتلة إلى البحر الأحمر وخليج عدن لردع هجمات الحوثيين على السفن التجارية التي لها علاقة بالكيان، ولكنّ ذلك لم يُؤدِّ إلى ردع الحوثيين. وتحاول إدارة بايدن تحقيق توازن بين تأمين حرية الملاحة في أحد طرق الشحن التجارية الرئيسة في العالم (باب المندب) وعدم الانجرار إلى صراع عسكري مفتوح في اليمن. ومنذ 19 أكتوبر، هاجم الحوثيون أكثر من 25 سفينة تجارية وسفنًا أخرى عسكرية تابعة للبحرية الأمريكية، كما أنّهم أطلقوا طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية يزيد عددها على المئة، بعضها موجّه ضدّ الكيان الصهيوني. وقد أسقطت البحرية الأمريكية معظمها. وفي 19 ديسمبر 2023، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية إطلاق عملية خاصة، أطلقت عليها اسم "حارس الازدهار"، ضمّت عشرين دولة لحماية السفن من الحوثيين، إلا أنّ ذلك لم يوقف الهجمات. وفي نهاية عام 2023، دمّرت مروحيات عسكرية أمريكية ثلاث زوارق بحرية تابعة للحوثيين عند محاولتها اعتراض طريق سفينة تجارية؛ ما أدّى إلى مقتل 10 من عناصرها. ويدرس البنتاغون حاليًّا القيام بعمل عسكري ضدّ الحوثيين، لكنّ الرئيس بايدن متردّد في ذلك خشية تورّط الولاياتالمتحدة في حرب إقليمية جديدة، بخلاف وزارة الدفاع التي ترى ضرورة العمل العسكري لردع الحوثيين وحفظ هيبة الولاياتالمتحدة. وبسبب الانتقادات الحادّة التي تواجهها مقاربة إدارته لما تصفه الولاياتالمتحدة بالتهديد الحوثي، عقد مجلس الأمن القومي الأمريكي، في 3 جانفي، اجتماعًا في البيت الأبيض لمراجعة الخيارات الممكنة، بما في ذلك شنّ ضربات عسكرية ضدّ الحوثيين في اليمن. ووفقًا لمسؤولين في الإدارة، فإنّ القيادة المركزية للولايات المتحدة، التي تغطي مهماتها منطقة الشرق الأوسط، زوّدت الرئيس بخيارات عسكرية إضافية. وفي بداية جانفي 2024، أصدرت الولاياتالمتحدة و11 دولة أخرى بيانًا مشتركًا، دعا الحوثيين "إلى الوقف الفوري لهذه الهجمات غير القانونية والإفراج عن السفن والطواقم المحتجزة"، أو أنّهم "سيتحمّلون العواقب". وفي إشارة ضمنية إلى جدّية الولاياتالمتحدة، تحركت حاملة الطائرات "يو إس إس دوايت دي أيزنهاور"، في 6 جانفي، من خليج عدن إلى البحر الأحمر في مهمة معلنة متمثلة في التصدّي للهجمات الحوثية على السفن التجارية، لكن خيارات إدارة بايدن العسكرية تكتنفها مخاطر عديدة؛ فتوجيه ضربات محدّدة إلى مواقع إطلاق الصواريخ الباليستية على السفن وممرّات الشحن، قد يجرّ الولاياتالمتحدة إلى الصراع في اليمن، ويدمّر كلّ فرص تحقيق السلام في الحرب الدائرة هناك منذ 9 أعوام، وهي الجهود التي كانت تقودها إدارة بايدن قبل اندلاع الحرب في غزّة. ثم إنّ ذلك لن يشلَّ قدرة الحوثيين كليًّا عن تهديد حرية الملاحة عبر وسائل أخرى؛ مثل الطائرات من دون طيار، والألغام البحرية، والزوارق الهجومية السريعة، في حين أنّ إعادة تصنيف الحوثيين جماعةً إرهابية، واستهداف مواردهم المالية، وتقديم دعم عسكري لقوى يمنية أخرى لطرد الحوثيين من مدينة الحديدة الساحلية على البحر الأحمر، قد لا يحظى كلّه بدعم غير الراغبين في التصعيد العسكري في اليمن في الوقت الحالي. أما خيار مرافقة سفن عسكرية للسفن التجارية بين خليج عدنوالبحر الأحمر، فهو خيار غير واقعي بسبب اتساع المنطقة وعدد السفن الكبير الذي يعبر المنطقة كلّ يوم. العراق وسورية شنّت الفصائل منذ 7 أكتوبر، أكثر من 100 هجوم ضدّ القوات الأمريكية في سورية والعراق. وفي مقابل ذلك، ردّت الولاياتالمتحدة بضربات جوية انتقامية، كان أبرزها استهداف قائد بارز في حركة النجباء، مشتاق طالب السعيدي، المعروف أيضًا باسم "أبو تقوى"، في بغداد، في 4 جانفي. وقد تسبّب ذلك في أزمة مع الحكومة العراقية التي اعتبرت أنّ الهجوم يمثل "انتهاكًا لسيادة البلاد"، لأنّه وقع في مقر أمني رسمي عراقي يتبع الحشد الشعبي، ومن ثمّ، أعلنت أنّها بصدد تشكيل لجنة للتحضير لانسحاب قوات التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة من العراق. وقد تصاعدت بعد ذلك وتيرة الهجمات التي تتعرض لها القوات الأمريكية في سورية والعراق، وهو أمرٌ يهدّد بتوسّع نطاق المواجهات بين الولاياتالمتحدة والميليشيات التي تدعمها إيران. خاتمة لا تتعلق التحدّيات التي تواجهها الولاياتالمتحدة في المنطقة باحتمال تداعي سياسة الردع التي أعلنتها فحسب، بل إنّ قدرتها على ضبط حليفها الصهيوني يمثل تحديًا أكبر بالنسبة إليها أيضًا؛ إذ ترتبط احتمالات التصعيد الإقليمي، أو عدمها، إلى حدّ بعيد، بسلوك الكيان الصهيوني. ومن خلال هذا المنظور، يصبح الدعم غير المحدود الذي تقدّمه إدارة بايدن لنتنياهو وحكومته، عسكريًّا وسياسيًّا، عبئًا عليها أكثر من كونه أداةَ ضغطٍ تُمكِّنها من التأثير في نهج الكيان وتجنّب حرب أوسع. فمع إعلان بلينكن أنّ الهدف من جولته الحالية هو منع توسّع الحرب في قطاع غزّة إلى صراع إقليمي أوسع، ردَّ نتنياهو بالتأكيد على أنّ الكيان ملتزم بتغيير جوهري على حدوده مع لبنان. إضافة إلى ذلك، يستمر نتنياهو في رفض أيّ دور لسلطة فلسطينية "متجدّدة" في إدارة شؤون قطاع غزّة بعد انتهاء الحرب، وفي رفض القبول برؤية حلّ الدولتين، كما تقترح الولاياتالمتحدة. وما تزال الحكومة الصهيونية تعطّل توسيع دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، كما أنّها ماضية في عمليات "القصف العشوائي" ضدّ المدنيين الفلسطينيين، فضلًا عن حديث بعض وزرائها عن تهجير سكان قطاع غزّة، وعن التصعيد الصهيوني في الضفة الغربية، وهما أمران تدينهما الولاياتالمتحدة، من دون أن تكون قادرةً على وقفهما، ومن دون أن يخلّ ذلك بدعمها للكيان الصهيوني. وكان بلينكن قد وافق مرتين على إرسال شحنات أسلحة كبيرة إلى الكيان الصهيوني من دون شروط، متجاوزًا الكونغرس أيضًا. وقد كانت المرة الأولى في 8 ديسمبر، بإرسال 13 ألف قذيفة دبابات بقيمة تزيد على 106 مليون دولار. وكانت المرة الثانية في 29 ديسمبر حين أقر إرسال ما قيمته 147.5 مليون دولار من قذائف المدفعية عيار 155 ملم، إلى جانب معدّات أخرى. وفي كلتا المرتين، تذرّع بلينكن ببند "الطوارئ" لتجاوز مراجعة الكونغرس، وهو ما أثار غضب بعض المشرعين الديمقراطيين في مجلسَي النواب والشيوخ. وخلال الفترة التي تراوح بين 7 أكتوبر ومنتصف ديسمبر، وافقت إدارة بايدن على شحن نحو 20 ألف قذيفة "جو – أرض"، بما فيها قنابل تزن 2000 رطل، كانت مسؤولة عن سقوط أكبر عدد من الضحايا المدنيين، وعن الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزّة، في وقت تطالب فيه إدارة بايدن الكيان بتجنّب الأمرين، علمًا أنّ تقديرات الولاياتالمتحدة هي أنّ نتنياهو يضع مصالحه السياسية فوق المصالح الحيوية الأمريكية، وقطعًا فوق مصالح بايدن الانتخابية. وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة كوينيبياك، في نوفمبر، أنّ 84 في المئة من الأمريكيين كانوا إما قلقين جدًّا، أو قلقين إلى حدّ ما، من احتمال انزلاق الولاياتالمتحدة إلى الصراع في الشرق الأوسط، وأظهر أيضًا أنّ غالبية القاعدة الانتخابية للديمقراطيين تريد وقفًا فوريًّا لإطلاق النار في قطاع غزّة، وتُبدي امتعاضها من طريقة إدارة بايدن لملف العدوان الصهيوني.