يدرك الفلسطيني بجميع حواسه أنّ مدادهُ الذي ينثرُه شعراً هو من دم قلبهِ، ويراعهُ الذي يكتب، هو أحد أضلاعه، والقتامة التي تغطي مساحات البياض على الورق، هي بعض أوجاع وآلام جراحاته الممتدة على الاغتراب النفسي والجسدي عن تراب بلده فلسطين، ورغم كلّ ذلك من بُعد ومرارة وشوق، يضيء أحلامه من نور خياله، ويمسك بناصية الرؤى الجامحة إلى أرضه بترابها وأزقّتها ووديانها وأشجارها وينابيعها ومراقد لهوه وألعابه في طفولته التي بعثرتها وشظّتها حراب المستعمرين والغزاة، وسامي عوض الله الذي لم يزل طفلاً في غربته، ويحوّم بخياله فوق مسقط رأسه في "بيت جالا" ويافا بل وكلّ فلسطين، مازال مشدوداً بكلّ ما أوتي من زخم الانتماء الوطني والعروبي إلى أرض الزعتر والبرتقال. لم يداور الشاعر في عنوان مجموعته الصادرة حديثاً بعنوان "رأيت يافا مرّتين" بل جمّع كلّ توكيداته اللفظية به، لقد رأى "يافا" مرّتين، فهو واثق من الرّؤية ويؤكّدها، كما لو أنّها أمامه الآن، يجتاز خياله شواسع المحيطات والبحار، لتشخّص يافا، بكلّ ما فيها من أجزاء صغيرة، ومنها ينطلق إلى فلسطين، بياراتها وكرومها وهضابها وشعابها ومزاراتها ومقدّساتها، إذن "يافا" لم تكن سوى نقطة الانطلاق الحلمي إلى ربوع البلاد التي يشتاق ويحنّ إليها، فكان عنوانه في دائرة التحديد القاطع فالصواب المؤكّد. وإذا جُلْنا في أرجاء المجموعة من ألفها إلى يائها فأننا لا نعثر إلّا على موضوعة واحدة هي فلسطين، ومن فلسطين يبدأ الشّاعر برسم الصور المتلاحقة عبر شريطٍ سينمائي يبدأ بالدمعة الأولى، ولا ينتهي عند شلالات من حنين، وتتوالى الحركية المتصاعدة إلى الأوجع فالأشدّ وجعاً، وعلى امتداد مئة وستين صفحة، لم تخذله اللّغة في البناء الشعري، وظلّ حماسه مشتعلا ووقّاداً في الحفر بأزاميل الشعر الحادة على تضاريس فلسطين، مظهراً هويتها العربية التي لا شيء يشوبها رغم قسوة الاحتلال ومرارة الغربة. وتتجلّى صورة المكان واضحة مشرقةً ناصعةً في حلم الشاعر بالعودة، وكأنّه لم يزل في تلك البقاع، ولم يغادرْها، ولم َينْسهُ المكانُ أيضاً، فما أن وطئت قدماه أرضه، بادره المكان بالسؤال: « سأل المكانُ هل انطوت أخباري .. وبكى المكانُ وقد تلا أشعاري .. القلبُ كالمزمار يثقبهُ الجوى.. ويئنُّ بين الوجدِ والتذكار.." (ص 30) وما يراه الشاعر لا يراهُ غيره، تقفز إلى ذاكرته وفور وصوله إلى ديارهِ، صورة الطفولة، تستقبله جالسة ًعند الباب، مرحبةً به : « أرى الطفولةَ عند البابِ جالسةً.. تبكي عليَّ وفي صمتٍ سراياها.." (ص 33) فيمسك الشاعر طفولته من يدها، ويجوبان فلسطين حارة حارة، وشارعاً شارعاً، وتلّة تلّةً، فيشتعل موقد الذكريات بلظى الحنين والشوق، وتتشاهق أسماء الأمكنة أمام ناظريه، ليكاد يستذكر اسم كلّ حبة رمل، وذرة تراب، وغرسة زيتون أو برتقال، يقول: « وكانت الجبالُ ذات الطّرق العذراء.. والصّنوبر الذي يسيرُ كالأشباح في مقبرة.. وكان صندلي يسكنهُ جنيّ.. وكان بيتُنا محيطُهُ السّماءْ .. كان للسّماء أنداك دمعها السّخي.." (ص 8) لقد كنّى بهذه الجمل عما تحفظ ذاكرته، ولقد صاغها بقصدية الشاعر المتيقظ، فالفلسطيني يمتلك هذه الأرضَ منذ القدم، بدلالة الطرق العذراء، والسماء دمعها سخي، دلالة كثرة الخير والعطاء، ويسكن حذاءه جنيٌّ، إنّه الولد المتشيطن الذي يقفز عبر السهول والجبال، إنّها أرضه مرتع طفولته وصباه، يخاطب نفسه: « كنّا صغاراً .. حالمين وراعنين وأشقياءْ .. نمشي على جبلٍ إلى جبلٍ .. تحتهُ وادي الحنيّةِ قال جدّي .. فيه نبعٌ من ينابيعِ السّماء.." (ص 52) قال ذلك جدّه، فالأرض له أباً عن جِدّ، وهذا قولٌ رامزٌ إلى أبعد من كلامٍ يقال، إلى تاريخٍ ضاربٍ جذورُه في عمق الأزل، ما حفّزَ الشاعر لأن يتابع المسير في بلاده المغتصبة: « ومشيتُ في البلد القديم لعلّني.. ألقى خديجةَ في الزّقاقِ .. وفي الممرِّ الضّيّقِ .. خفقتْ بقلبي إذْ وقفتُ .. وتلكَ أمكنةٌ تعيشُ بخافقي.." (ص 88) هو سنُّ المراهقةِ إذن، كبر الغلامُ، وصار قلبهُ يخفق لخديجة، هذا الاسم المنسلّ من رحم العربية الصافية، خديجة الجميلة السمراء، القادمة من زمن اليبوسين وأبعد، لمّا تزل هنا، وأنا من يخفق قلبي لحضورها، شاعرنا "البيتجالي" ينتقي المفردة القصد، ويزرعها سندياناً معمّراً في مدماك قصيدته الفلسطينية، إلى أنْ يصلَ دارَه، ويتطلّع بعينين مفتوحتين على جدار البيت: « على جدارِ البيتِ ظِلُّ أمّي مثلما رسمتُهُ .. هكذا نعلّمُ الزّمان والمكان درساً في الوفاء.. هل يُمْنعُ العصفورُ أن يُغنّي..!!؟؟ سرْوةٌ مكسورةٌ أو حائطٌ مهدّمٌ .. هل يحجبُ الجدارُ قوّةَ الغناء..!!؟؟ (ص 39) صورة مؤثّرة شكّلها عوض الله، وأسئلة حادّة رسمها بريشة من لحن، ودمعة من عين، ولكنّها تذهب بعيداً في غور النّفس الإنسانية، فيأخذهُ الغناء على باب داره، ويستغرق ذاته كلّها، وكأنّه نافورة حزن واندلقت صوتا شجيّا، يمشي عبر الحارات والزواريب ويشجنُ : « ويعبرني اللّحنُ .. فأذكر كما يذكرُ الحالمون .. ويحضرني جبلُ الكرمل.. بحرُ يافا.. سوقُ عكّا القديمة.. مرجُ ابن عامرٍ والنّاصريُّ .. ويحضرني الغائبون.." (ص 22) كم مرّ على هجرته وعذابه، كلّ ذلك رغم البعد حاضرٌ، كلُّ شيءٍ حاصل وواقعٌ أمامهَ الآن، وتنشب كلّ الأشواك الواخزة تحت جلد ذكرياته، فتؤلمه حيناً، ويتلذّذ بهذا الألم أحيانا كثيرة، لأنّه يشدّه من ياقة غربته، إلى حواكير داره، وشجيرات بستانه، يسير ويسير في هذه الرّحلة الحلم، تدفعه رجولةٌ مكلومةٌ جريحة ضمادُها الكبرياء: « لا تنحني الجبالُ إلّا للذين يصعدون .. ما زلتُ أمشي نحو جبلٍ مباركٍ تحملني السّتون.. كأنّها أمّي التي تحملني في عين سلوانَ.. وتحت شجْرًة الزيتون.." (ص 155) يُمنّيَ النّفسَ رغم كلّ الصعاب بأنّ أهل فلسطين، سيذلّلون هذه الصعاب، وسيجعلون الجبال تنحني لأهل البأس والشّجاعة، وهاهم يفعلونها الآن في غزّة ويقوّضون أركان الظلم والاحتلال، فهل من المعقول!؟ : « أنَّ عينَ الحَنيّةِ صار منتجعاً .. لسائحةٍ غريبٌ ظلُّها.. لا الأرضُ تعرفها ولا لغتي .. ولا الوادي ولا نجم السّماءْ.." (ص 54) لم يقل الشاعر عن المحتلّة إلّا سائحة، فهم عابرون على هذه الأرض، فاللّغة والوادي ونجم السماء ينكر عليهم وجودَهم ومكوثَهم في هذهِ البلاد، وليرسّخ فكرته الشاعر البيتجالي عوض الله أكثر، يستحضر ابنته المولودة في المهجر، ليحدثها أكثر، ويستنبت أملاً أكثر توهّجاً وسطوعاً : « وقفتُ على سورِ عكّا أنا وابنتي .. فقلت: ترى هل يذكرُ البحرُ .. هنا عبرَ الفاتحون .. هنا كانَ جدّكِ يحرسُ هذي القلاع .. وكان أخوكِ يحبُّ البلاد .. إلى أن طواهُ الغياب.." (ص 24) ترى ما هو الغياب الذي طوى ولده، ولماذا كان والدُه يحرس هذه القلاع، الشاعر في المضمر من الكلام يحكي سيرةَ وتاريخ وطن، تصدى أهله للغزوات المتعاقبة عليه، وصُدّت من على أسواره، وتكسّرت النّصال على النّصال، يحكي سيرة وطن تعطر ترابه بدم الشهداء، الأبناء الذين غيّبهم الموت ليحيا الوطن، ولكن للباطل جولة، وها هو الآن لا يزور وطنه إلّا حالماً، ولكنه الشاعر الحاذق الذي يعلّم الأجيال اللاحقة أنّ لنا وطناً اسمه فلسطين، وبكلّ تفاصيله، ونحفظه غيباً ولو على الخريطة كي لا ننساه، تقول له ابنته: « تقول ابنتي .. في نقطة صغيرة على الخريطة .. رأيتُ قريةً منسيّةً .. على خارطة ممحيةٍ تنام فيها (رأس أبو عمّار..) إلى اليمين باحةٌ وموقدٌ للنّار.. وعند باب الشّرق تستلقي على ذراعها .. مدرسةٌ صغيرةٌ وجامعٌ .. ومخزنٌ للبيت والبذار.." (ص28) هذه التفاتة بارعة من الشاعر تجاه المستقبل، وفيها تحطيم لأماني المحتلين بأنّ الأجيال القادمة ستنسى فلسطين، فإذا بها الأكثر رسوخاً وتجذّراً وانتماء للأرض ومقاومة الاستعمار، وهذا ما يأمله الشاعر في استشرافه للمستقبل وتحقيق حلمه ولو طال به العمر سوف يرجع إلى بيت جالا، قريته، متعطّراً برائحة الأنبياء على ما درج عليه الشعراء قبله، وأظن بعده : « أقولُ إذا العمرُ طالا.. وعشتُ مليّاً وفيّا .. سأسكنُ شرفةً في بيتِ جالا تطلُّ على القدسِ .. وجارتي بيتُ لحمٍ .. لألمسَ كعبَ النّبوّةِ أو أصيرَ نبيّا.." (ص 42) ولكنّ الشاعر سرعان ما يفيق من حلمه، ويعود من رحلته، والحسرة تملأ قلبه، وتقض مضجعه في غربته، ويلملم أجزاء مشاهداته، ليجمعها في صورة واحدة، هي أنّ أرضه مازالت في قبضة الاحتلال، وقد بلغ من العمر عتيّا : « في عاميَ الثالث والتسعين .. وأعني بعد قرنٍ من قيامِ دولة اليهود .. على بلادٍ سُلبتْ من أهلها .. أرى خارطةً جديدةً .. وعالماً جديدا.." (ص 116) عندها يرى بعين الخبير البصير زمناً مُرّاً مرّ عليه وعبره، ولكن الحلمَ مازال مستمراً رغم كلِّ شيء: « ما أقصر العمر الذي ألفَ الفراقَ .. وطالَ في الإبحارِ .. كيف الرّجوعُ وقد علتني حيرةٌ .. وبكيتُ عند تقاطع الأسفار.." ص 31. حين تنتهي من جولتك وقراءتك الانطباعية في ديوان "رأيت يافا مرّتين" للشاعر سامي عوض الله "البيتجالي" نسبة إلى بيت جالا المولود فيها، تجد أنّ الموضوعة الرئيسة هي الوطن السليب فلسطين، وكلّ هواجس الشاعر تدور حول هذه الموضوعة ولكن بحقل واسع الدلالات من الشوق والحنين واتقاد الذاكرة واستنطاق الأماكن، وإدارة كاميرا رؤاه على كلّ المشاهد التي تورّق شجرة انتمائه، وتكسوها باخضرار الحلم بالعودة، والرجوع إلى الدّيار. حملتْ هذه الموضوعة لغة أنيسة وقريبة من السمع والفؤاد، لا تشوبها أية وعورة، أو أيّ تكلّف في استحضار مفردات ليس لها مكان في البنية التركيبية للجملة الشعرية، فتجاورت الكلمات وتآلفت فأنتجت لنا صياغة شعرية متينة ومتماسكة، مزوّدة بانزياحات دلالية أغنت وأثرت الساحة الشعورية عند المتلقي، "تستلقي على ذراعها مدرسة صغيرة"، "أرى مقعداً يجلس فيه هذا الفراغ"، "سأدخل فوّهة الليل"، "يحرسه الصنوبر من هجوم الريح" كلّ هذه الصور والكنايات منحت الديوان سمته الشاعرة، ووسمته بالشعرية الواضحة، لولا أنّ عدداً من الأخطاء النحوية واللّغوية والإملائية وقعت ربما أثناء التنضيد والطباعة، لأنّها لا يمكن أن تصدر عن شاعر متمكّن مثل البيتجالي، ولعلّ بعض المباشرة التي رافقت السّرد الشعري لتبيان مقصد الشاعر دون أن يزيد من الظلال والألوان، كان موفّقاً فيها لأنّها لم تكن خالية من تنويعات بصرية ضمن هذه المباشرة تثير وتنبّه مدارك المتلقي بمجسّات لفظية واضحة. وقد أضاءت موسيقى الديوان مضمونه، فذهبت به إلى ضحى الاستماع الإيقاعي الجميل، فتناوبت تفعيلات الخليل على قصيدة الشطرين تارة، والتفعيلة تارة أخرى، وحين بدا بعض الارتباك في الجملة الموسيقية للمستمع، كان ذلك ناتجاً عن استخدام الجوازات في نهايات الجمل التي يمكن الاستغناء عنها لو قبض الشاعر بحسّه الإيقاعي على نوتة التفعيلة بشكل أكثر لحناً وأوفى نغماً. ديوان "رأيت يافا مرتين" للشاعر سامي عوض الله، جاء في وقت أحوج ما نكون فيه لأن تكون الكلمة موازية للفعل في تثبيت حقّ أهل فلسطين بفلسطين، والتركيز على هويتها وانتمائها العروبي الأصيل. مبارك لك شاعرنا هذا العطاء، وإلى مزيد من الإبداع والألّق.