هم يلخصون القضية، ويرسمون تضاريسها بمنعرجاتها وأغوارها ومناخاتها ويعتصرون تاريخها ويلونون أفقها، أسرانا، ذلك أنهم هم الشاهد على رفض الواقع، الواقع الاحتلالي والظلم الكامل الذي يرزح تحت نيره الشعب الفلسطيني والوطن الفلسطيني، والذي يمتد ليشكل ظلما عاماً للشعب العربي ولقيم الإنسان عامة، بما أنه يجافي شرط الوجود الإنساني وبداهة حقه في الحياة والحرية والكرامة والأرض والأمان، ويجافي شرعة الاحتلال وفلسفتها المضمرة المعلنة التي تعتنق موت الآخرين والحياة على أشلائهم وتراثهم وفي بيوتهم، الأسرى هم الدليل المتألم على عناصر المسألة، وهم ذروة تفاعلها مع نقيضها ليكونوا في النهاية أسرى هذا النقيض، ويصبحوا مجالاً مستباحاً له ليفعل بهم كل ما يختزنه لكل شعبهم الذي يمثلونه، وليحقق على حيواتهم وأجسادهم ما يتشهى فعله في كل من يمثلونهم، كل الفلسطينيين، فليس السجن والقهر والتشفي بالتعذيب ومحاولات كسر الإرادة وقتل الروح والإعدام المعنوي إلا ما يخبئونه في صدورهم لكل فلسطيني ويحلمون بنهايتهم جميعاً بطريقة مشابهة، وهم يتماهون مع الوطن في هذه الحال، كما لو أنهم قد عزَّ عليهم أن يكون الوطن أسيراً فشاركوه ما يعانيه، يؤنسونه ربما وبه يستأنسون، أو كأنما يصرون على أنهم والوطن شيءٌ واحدٌ لا ينفصم، فإما أن نكون معاً هكذا كما هو أو أن نكون معاً كما نشتهي أن نكون، وهم ذروة حالة الأسر الفلسطينية العامة والتي يعاني منها كلُّ فلسطيني بطريقةٍ أو أخرى، كلٌّ حسب ظروف زمانه وموقعه ومكانه، كلٌّ أسيرٌ بطريقةٍ ما، وكلٌّ مقيدٌ بطريقةٍ ما داخل الوطن أو في شتات الأسر، ولكلٍّ معاناةٌ من نوعٍ ما تتمازج مع سياقه وتدور معه حيثما دار انعراجا وانحدارا أو صعودا، لكنها في النهاية تقيده وتأسره وتمنعه من أن يكون كما يشتهي أو على الأقل كما يجب أن يكون، وفي أبسط الأحوال تمنعه من التمتع بقبرٍ يرقد فيه بسلام في تربة وطنه وبجوار عظام أجداده، لكنهم وحدهم مع الشهداء يمثلون ذروة الرفض لواقع الأسر، الأسر الفلسطيني العام وأسر الوطن، وهم بهذا يبلورون إرادة الشعب منذ بدء الشعب ويختزلون توقه للانعتاق من ذلك الأسر، وهم الشهادة على حيوية الكيان الجمعي وشهادة استحقاق الحياة يعلقونها على أعمارهم ومجريات أيامهم، ويُشهرها كلُّ الشعب أيقونةً وعلامة على جدارته بالمكان، ويتخذها جمرةً تضاف إلى جمرات السؤال التي يستضيء بها ويقتات في أسرِه لتفكيكِ سلسلةِ الأسرِ والاحتلال.