العودة من الموت!! عذّبوه وشبحوه وجلدوه، حتى كلّما أقترب من الموت، عالجوه بالملح فضاعفوا آلامه! ثم وضعوه لعام كاملٍ في زنزانة وحيداً تحت الأرض في البرد، إلى درجة أنّ السجّانين كانوا ينتعلون اللباد بأرجلهم كي يعم الصمت المميت المطبق، منعوا عنه كلّ صوت وكلّ ضوء لمدّة عام كامل، لم يتبيّن ليلاً من نهار ولا سمع صوت حتى شكّ وأيقن بأنّه أصيب بالصمم، لم يتبيّن ليلاً من نهار ولم يرى ضوءً حتى ظنّ بأنه أصيب بالعمى!. كان يأكل ما يلقى إليه من علٍ بصمت من بقايا طعام السجّانين، حتى ظنّ بأنّ الرب يجعل الفئران تنقل له الطعام.. قصدوا من ذلك قيادتهُ إلى الجنون، طالما أنّه لم يستنكر الحزب، الذي تمخّض عنه الحزب الذي غير وجه العالم حيناً!. ثم فجأةً أخرجوه للمحاكمة، وحُكم بالإعدام، وحدّدوا له الموعد، وكلّما أقتادوه إلى ساحة الإعدام يؤجّلون. وفي المرة الأخيرة، أخرجوه مع رفاقه، ألقوا إليهم بأدوات حفر(رفش) وأمروهم بحفر قبورهم بأيديهم، وهكذا فعل!. ربطوا أعينهم ووقفوا أمام قبورهم، وبدأؤوا بقتلهم واحداً واحداً، فحسب كم من الوقت يلزمه في الحياة، فأدرك بأنّه ربع ساعة، حتى يصل الدور إليه، وربع ساعة اختزل فيها الكون والحياة، وسأل نفسه، ما أطول الربع ساعه!. كم ربع ساعة يعيش الإنسان، وماذا لو أدركت يوماً بأنّ كلّ ربع ساعة تعني حياة كاملة!، ثم فجأة حين وصل الدور إليه، جاءهُ عفو، وإنزال العقوبة إلى السجن، فنُقل إلى سيبيرياً إلى بيت الأموات، ويوم خرج من السجن، كتب أعظم ما كتب في الأدب النفسي.. ذلك كان دوستوفيسكي الروسي..!!.. وقال حين أقترب من الموت، إنّ تلك الربع ساعة، أطول وأعمق ما عشت في كلّ حياتي..!! قرأت مذكرات أسيرات محرّرات، وأيقنت بأن لن يدرك الأمر وأبعاده إلا من عايش التجربة!، فلا زلت أرتجف بعد قراءتي لمذكّرات خاصّة لأسيرة محرّرة صديقة- سأكتب عنها قريبا-. وفي ذات السياق من كان مثل وليد دقة، الذي لم ينتظر، ولم تمت روحهُ وكتب أدباً عظيماً وهو في السجن (خلال الربع ساعة).. كتب روايتهُ هو، وهو بحدّ ذاته رواية عظمى!. فكيف لو قدّر له الخروج من بيت الأموات كدوستوفيسكي؟؟ رحم الله القائد والمفكر الشهيد والشاهد الأسير وليد دقه.