هو الذي حفظت كلماته غيباً في قلوب الكثيرين، وأحيانا كنّا نحفظها دون أن نعرف معناها، فكتب لنا أطفالاً وكتب لنا كباراً. هو سليمان العيسى الذي يمكن أن نعتبره ذاكرة وطن مرصّعة بذهب عتيق، وعن تفاصيل وسجل ذاكرته تنقل ''الشعب'' بعضها، التي تحصلنا عن معظمها من وكالة أنباء الشعر العربي، التي كانت جد قريبة من زوجته الدكتورة ملكة أبيض، كونها عايشت حياة سليمان وأبحرت في تجربته الشعرية طويلاً، وكان لها الأثر الكبير في هذه التجربة من خلال التنسيق وإعداد بعض الدواوين والأبحاث لطباعتها، إضافة إلى نقل ما جاء في بعض الواقع لشعراء على ''الفايس بوك''، من الذين رثوا هذه القامة الشعرية الكبيرة التي أسالت حبرها حول مختلف القضايا العربية بما فيها الجزائر. لم يفوّت الشاعر الكبير سليمان العيسى فرصة الاحتفاء بفلسطين عاصمة الثقافة العربية عام 2009 رغم تقدم سنه، حيث كان يبلغ من العمر 88 سنة، حيث شارك في إحياء يوم الشعر العالمي بالمشاركة في أمسية جمعت كبار الأسماء البارزة في الساحة العربية، لتكون هذه الاحتفالية آخر أمسية تشارك فيها هذه القامة الشعرية والثقافية الكبيرة.
''أمّتنا حضارية تغلي بعناصر البقاء كما تغلي بعناصر الموت'' كان المرحوم سليمان العيسى غيورا حد النخاع على ثقافته وحضارته العربية، حيث سال حبره للرد على كل من رأى انقراض الحضارة العربية، من بينها تحقيقه حول ما قاله أدونيس، حيث صرح بعدها لوكالة أنباء الشعر العربي قائلا: ''هذه الأمة منذ آلاف السنين كانت أمة حضارية وتصدّر حضارتها للعالم، فإذا انحسرت في يوم من الأيام هذه الموجة فلابد أن تعود والأمة في طريق العودة إلى دورها التاريخي ودورها النهضوي، وهذه الأمة العربية ليست جامدة فكما أنّها تغلي بعناصر الموت فهي تغلي أيضا بعناصر البقاء، وقُلتها أكثر من مرة وأنا في زمن التشاؤم والخوف، لست خائفا ولا متشائماً فمائة سنة في حياة الأمة مثل سنة في حياتي وحياتك، فلننتظر قليلا ونشاهد وبقناعتي أنّ نهاية القرن الحادي والعشرين ستكون لنا وليس لغيرنا مع بعض النهضات في العالم''. يؤمن سليمان العيسى بالزخم الذي تعرفه الثقافة العربية، التي أنجبت عديد الأسماء التي بإمكانها اقتلاع جائزة نوبل للآداب التي حرموا منها، مرجعا السبب إلى طبيعة بنية لجنة التحكيم، التي تتكون من عشرة صهاينة وسويدي، والتي لا تكلّف نفسها عياء لمنح الجائزة والتتويج لمن لا يمدح الصهاينة، مؤكّدا على المستوى العالي الذي يتميز به ادونيس، هذا الأخير الذي رأى أحقيته لنيل الجائزة، قائلا في هذا الشأن: ڤأدونيس مثقّف كبير ويستحق جائزة نوبل للأداب، لكن لن يحصل عليها أبدا'' ألهب رحيل الشاعر العربي السوري الكبير حبر الأدباء لينثروا عنه عطراً ليكتبوا أبيات وكلمات متنوعة المنابع، ترثي هذه القامة الكبيرة التي تعد خسارة للثقافة العربية عموما. قال الشاعر السوري الكبير حسن يعيتي: ''سليمان العيسى كنا صغارا على مقاعد الدراسة نتعلم أول حرف من حروف الهجاء عندما قرأنا ذلك الاسم للمرة الأولى، كان أول نشيد في طفولة أجيال متعاقبة صار كثير منها الآن من قامات العصر، كتب للأم، للأب، للأرض، للربيع، للحقول، للغيوم، لفلسطين. ساهم إلى أبعد حد في تشكيل ثقافتنا الجمالية الأولى، من منا لم يعرف صغيرا سليمان العيسى صديق الجميع، كان يجلس في جوار كل طفل على مقعد الدراسة في أول تجربة له مع الحياة خارج أحضان والديه. من منّا لا يحفظ: فلسطين داري ودرب انتصاري، من منّا لا يحفظ: ورقات تطفر في الدرب والغيمة شقراء الهدب، ومن منّا لم يسمع كبيراً: ناداهم البرق فاجتازوه وانهمروا..عند الشهيد تلاقى اللّه والبشرُ. سليمان العيسى اليوم ناداك البرق لعلك عند الشهيد الآن، فاذكرنا عند ربك، إنّا نراك من المحسنين''. من جهته اعتبر الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد أن الشاعر الكبير الراحل سليمان العيسى لا يموت وقال في تصريح خاص للوكالة: ''سليمان العيسى هو الشاعر المعلم والقومي العربي الأصيل والذي تعلّمنا على قصائده مجريات الواقع العربي الذي يتقدم والواقع العربي الراكد والواقع العربي المتراجع، وهو القائل: ''سنمد جسومنا جسرا فقل لرفاقنا أن يعبروا، فهذا الشاعر هو من جيل الجسر الذي عبرت عليه هذه الأجيال''. وأضاف أبو خالد: ''سليمان العيسى هو أول شعراء المهرجانات العربية والشعبية وبكلماته كانت تتحمّس الجماهير وهو شاعر الحركة التي أسقطت الأحلاف في الخمسينات من القرن الماضي، وأنا اعتبره الشاعر الذي لا يموت بل يتمظهر بالموت فقط، لكننا لا نرثيه بل نغنيه وهو شاعرنا وأستاذنا ومدرستنا العليا، وهو من جيل شعراء فلسطين كأبو أبو سلمى وعبد الرحيم محمود وابراهيم طوقان، وسيخلد إبداعه ونتاجه إلى الأبد. فسلام لروحك أيّها الشاعر، وجعلك اللّه في جنات الخلد.