أدونيس .. هذا الزائر الخارج عن مألوف وسطنا الثقافي .. صنع الحدث على مدى أسبوع .. بحضوره وهالته وقامته التي دوخت جموعا غفيرة من المثقفين وممن يحسبون أنفسهم على الثقافة، ومن الشعراء وممن يظنون أنهم شعراء .. ممن كتبوا وممن لم يكتبوا "سلة الثقافة في الجزائر تسع الكل" وبكل كلمات التمجيد والمديح والتملق .. وكل ذاك الكم من الانبهار الذي ساح على الوجوه وعلى الكلمات ..لا يمكن لأدونيس " الذي احتار مضيفه، أمين الزاوي في وصفه من فرط الفرحة والدهشة، فقال عنه إنه الشاعر الذي لا يشبه أحدا.. حتى نفسه .. لا يمكن للشاعر الذي "اكتشف صوفية السريالية" إلا أن يحب الحياة ويعتز بتلك الروح الشعرية التي فعلت به كل ذلك وجعلته يرقى في نظر الكثيرين إلى مصاف الأسطورة الحية ووضعته خارج نطاق النقد .. لا يجب أن يفهم من كلامي أني أتحامل على الرجل أو أقلل من شأنه وهو القامة الشعرية التي حطمت قيود العادي وحققتا الاختلاف الحاسم للأشكال الشعرية السابقة .. إلا أن ما أثارني خاصة كجزائرية .. تلك العقد أو تلك الخلطة من العقد النفسية التاريخية الثقافية الاجتماعية وغيرها المستفحلة فينا والتي تجعلنا في مواقف كهذه أو أخرى مشابهة نرفل في التقزم والشعور بالدونية .. نعم هذا أدونيس الذي سحرنا وسحر العرب والعالم برؤاه الفلسفية وصوره الشعرية وأدهشنا بجهده الخاص وقدرته على صياغة حالته الوجدانية .. نعم هو من كسر المقاييس الفنية ورفض مألوف الأشياء فجاء شعره كلاما وحده .. ومصطلحاته تعبيرا وحده .. نعم هو من أسمى الأشياء من جديد ومن نصب نفسه عدوا لكل ما هو ثابت ورفض التسطح والتكرار، ولكن الآخرين أيضا موجودون .. ونحن أيضا موجودون .. ما معنى أن نعرف عنك أدق تفاصيل سيرتك الأدبية .. ونطلع على كل ما كتبته وتكتبه وما قلته، ما فعلته وما تفعله ... نعرف حتى أسماء بناتك الثلاث ودائرة أصدقائك .. وتأتي حضرتك إلينا لأول مرة خالي البال منا .. لا شيء منا في اهتمامك وفكرك .. صرحت أمام زحمة حضورنا لندوتك وأمسيتك في المكتبة الوطنية إنك لا تعرف شيئا عن الإبداع الجزائري وعن الثقافة الجزائرية .. كل ما لديك منا .. من الجزائر ثلاثة أو أربعة أسماء صادفك وجودها الأوروبي .. الجزائر ليست فقط ياسمينة خضراء ولا آسيا جبار ولا صانصال .. في الجزائر جيل ينبض وينتج ويتحرك ويحيى، غير آبه بالرماد المتراكم على كلماته وعلى وجوده.. أنت الذي تدرك جوهر الانسان وتتعاطى معه بالخيال وبالحلم .. أنت الذي تخاطب الماورائيات .. كيف غاب عنك وجودنا ؟.. كيف لا تعلم شيئا عن تلك (المثقفة) التي اعترفت بملء كلماتها وشغفها في مقال بإحدى الصحف أنها رغم عجزها عن فهم أشعارك وعدم قدرتها على فك شفرتها إلا أنها كانت ذات تأثير كبير عليها وكان لها الفضل في توجيه شخصيتها وحسمها لكثير من الخيارات .. كل هذا الاهتمام وكل هذا الإعجاب .. وأنت ولست هنا.. لم تقرأ عمرك رواية جزائرية باللغة العربية .. لم تقرأ عمرك ديوانا شعريا جزائريا .. كنت شحيحا بلحظاتك المثمرة والدسمة علينا .. لا أدري ما الذي يمكن أن نحصده من زيارة صاحب الإحساس الكشفي ونظرية الماورائية .. أنا واحدة ممن لم يرقهم جواب أدونيس عندما سئل عن دور الشاعر أو المثقف عامة في هذا الزمن .. والذي قال فيه إن الشاعر لا يغير شيئا .. هو كسائر الناس فقط يزيد عليهم بامتلاكه رؤية للأمور وإدراك آخر للأشياء .. ولكن ألا يمكنه ذلك على الأقل وحتى لا نقول تغيير الواقع رفقة تفاعلات إبداعية أخرى من تأسيس نواة كيانية سليمة نافعة لنفسها ولوقتها ؟.. قد أبدو على قدر غير هين من السذاجة لأنني أؤمن بالابداع الذي يشرق في وعي القارئ أينما كان وكيفما كان .. وأن القوة الفنية لابد أن تفعل فعلها وإن على مدى بعيد وإن في غير ما توقعته ... ننتظر أشياء أخرى منك يا أدونيس ..