تمثل الفلاحة في وقت واحد "مشكلة" لما تستهلكه من موارد الدعم المالي، وهي "الحلّ" بالنسبة لمستقبل الاقتصاد الوطني بفضل قدراتها الإنتاجية غير المستغلة بالشكل والحجم الكافيين، خاصة في ظلّ ارتفاع درجة اليقظة جراء تراجع أسعار المحروقات بشكل يحمل مخاطر في المديين المتوسط والطويل تستدعي الإسراع في إعادة الإمساك بكافة جوانب قطاع الفلاحة وتدقيق ملفاته خاصة من جانبي الاستيراد والاستثمار. وعقب سنة كاملة من النشاط والمرافقة التي تخصصها الدولة لهذا القطاع الحيوي فان الحصيلة ليست بالحجم والقوة المأمولة، حيث لا تزال الفلاحة تعتمد على إجراءات الدعم والتمويل الهائل من الخزينة العمومية، دون أن تحقق بعض الأهداف الإستراتيجية والحيوية، إلى درجة أن وزير القطاع صرّح سابقا أن "استمرار تمويل ودعم الفلاحين بهذا الشكل أمر غير ممكن إذا لم ينعكس ذلك بمؤشرات اقتصادية مقبولة"، ومن أبرزها الحد من استيراد الحبوب وحتى الخضر والفواكه المختلفة، إلا أن الأدهى والأمر أن الاستيراد شمل مؤخرا حتى استيراد البصل من البرتغال وهو مؤشر يحمل إنذارا مبكرا، يقتضي التعامل معه بمسؤولية دون المساس بقواعد حرية السوق. ورقة طريق لتنمية الحبوب يوجد مؤشر جدير بالقراءة، يؤكد استنزاف الخزينة العامة بينما يمكن لبلادنا أن تجود بخيرات معتبرة لو تتوفر الإرادة النزيهة لدى كافة المتدخلين، ويتعلق الأمر بالحبوب، التي بلغت فاتورة استيرادها أكثر من 2 مليار دولار في الأشهر العشر الأولى من السنة الجارية مسجلة ارتفاعا حوالي 10 بالمائة تقريبا مقارنة بنفس الفترة من السنة المنصرمة طبقا لما أوردته أرقام المركز الوطني للإعلام والإحصاء لإدارة الجمارك. وبلغت واردات القمح اللين والصلب 6.27 مليون طن مقابل 5,33 مليون طن لنفس المقارنة. وشملت الواردات مواد أخرى من الحبوب كالشعير بارتفاع قيمتها ب22 بالمائة، (573104 طن بمبلغ 146,85 دولار) والذرى (3,38 مليون طن بمبلغ 828,24 مليون دولار). وقد عرفت حصيلة الإنتاج الوطني لموسم 2013 / 2014، جمع حوالي 34 مليون قنطار بتراجع نسبته 30 بالمائة، بينما حاجيات السوق الوطنية من الحبوب تقدر بحوالي 8 ملايين طن سنويا مما يصنف بلادنا ضمن اكبر البلدان المستوردة للحبوب. وشهدت أسعار الذهب الأخضر في الأسواق العالمية مؤخرا ارتفاعا ليقفز من 155 دولار للطن في سبتمبر إلى 189 اورور للطن في الأشهر الثلاثة الأخيرة طبقا لما أوردته مصادر إعلامية ذات صلة وتقدر الزيادة بنسبة تقارب 20 بالمائة، نتيجة زيادة الطلب من بعض البلدان (مصر أول بلد مستورد للقمح عالميا والجزائر في المرتبة الثالثة). النهوض بالدواوين وحوكمة تسييرها ومن الطبيعي أن يعكف وزير القطاع على تقيم حصيلة السنة - (من حيث بلوغ الأهداف وكلفة الدعم المالي وفعالية الدواوين المتخصصة وكذا درجة التزام الفلاحين بالمخططات، خاصة فيما يتعلق باستغلال الأراضي الزراعية)- من أجل تحديد نقاط القوة ونقاط الضعف قصد التمكن من ضبط خارطة الطريق للعام المقبل الذي يعول عليه في التحسين من الإنتاجية وانجاز نسبة نمو جيدة ليس بالنسبة للقطاع لوحده، وإنما من حيث مدى مساهمته في معادلة النمو الاقتصادي الشاملة وتعزيز قدرات الأمن الغذائي في ظلّ ما يترتب عن تراجع مداخيل المحروقات. وبالفعل ينتظر أن تخضع مختلف الدواوين الفلاحية إلى عملية تقييم للأداء ودرجة متابعة المؤشرات الإنتاجية والتسويقية بهدف إدراجها في المسار الاقتصادي الجديد لتتحول إلى متعامل ينخرط في دواليب الإنتاج بمختلف التركيبات التنظيمية سواء بالاستثمار المباشر في المحاصيل الإستراتيجية أو بالشراكة ضمن مؤسسات قائمة وفقا لمعايير واضحة تخضع لقواعد السوق، ويمكن لمثل هذا التوجه أن يعطي دفعا للفلاحة واسعة النطاق مثلما لا توقف الدولة عن الدعوة إليه، وهو ما يقع على عاتق الفاعلين للنهوض بالفعل الزراعي كطرف يحتل الصدارة في المشهد الاقتصادي، خاصة من خلال الاستفادة من مناخ الاستثمار الايجابي رغم ما يبقى من عراقيل بيروقراطية سوف تختفي بفضل توفر عزيمة العمل على كافة المستويات. فالدواوين المختلفة لا يمكن أن تبقى في مستوى متخلف بالنسبة لوتيرة الاستثمار تنتظر إنتاج الفلاحين دون النزول إلى الميدان بروح فيها عزيمة على قلب المعادلة لصالح الاقتصاد الوطني، وسيكون تحول الديوان المهني للحبوب من مستورد إلى مصدر أكبر تحد يؤكد دخول الفلاحة مرحلة النمو. الطاقة الشمسية لتقليص الكلفة وضمن هذا التوجه أكد معرض الفلاحة الصحراوي وفي السهوب الذي احتضنته الوادي قبل أيام قليلة (15 - 17 ديسمبر) على أن التحدي الأكبر يتمثل في قلب معادلة مصادر الطاقة بإدراج الطاقة الشمسية في برامج الاستثمار. وتمّ إبراز أهم الزراعات التي يمكن أن تعتمد الطاقة الشمسية بديلا للطاقة التقليدية (الكهرباء) المكلفة. وتعد الطاقة أول التحديات التي ستواجه الاستثمار الفلاحي في المديين المتوسط والطويل على مستوى مناطق الجنوب والهضاب العليا، بحيث يمكن حينها إدماج طاقات إنتاجية هائلة، نباتية وحيوانية، في النسيج الزراعي بإبعاد اقتصادية تتقاطع مع برامج التنمية الصناعية (الصناعات الغذائية والتحويلية). ويحتّم هذا الخيار الطاقوي الذي يجب التعامل معه بإصرار بما في ذلك إقحام مراكز البحث الجامعي ذات الصلة والمتعاملين الوطنيين والشركاء في صناعة الطاقات البديلة وبالذات إنتاج الألواح الشمسية وتكنولوجيا التحويل، وهو ما يبدو أن وزير القطاع أدركه خاصة في أعقاب تداعيات تقلبات أسواق المحروقات وشكوى الفلاحين من كلفة الطاقة التقليدية (الكهرباء) وعدم تغطيتها كافة المساحات في الهضاب العليا والجنوب، حيث يتأكد مستقبل القطاع خاصة بفضل وفرة المياه الجوفية وارتفاع عدد السدود، ولكن أيضا جاهزية التمويل عن طريق البنوك العمومية، التي يطالبها الظرف بتركيز وتدقيق الملفات المتعلقة بقروض الدعم ومرافقة الفلاحين خاصة الكبار منهم في تسيير أموال الدعم. ويتوقع أن يدخل القطاع الزراعي السنة الجديدة بوضوح أكثر في الرؤية الاقتصادية، من حيث تحديد للخيارات الإستراتيجية التي تتطلب الاستثمار قصير وبعيد المدى وانتقاء المؤسسات الصناعية التي تثبت جدارتها في الدخول للعمل في الزراعة ليس من زاوية تجارية بحتة، إنما من زاوية الشريك المستثمر الذي تحذوه قناعة راسخة بالثقة في السوق الوطنية ومرافقتها في الاندماج في الاقتصاد الإقليمي، خاصة عن طريق الرهان على إنتاج مواد صافية من أي إضافات كيماوية أو ما يعرف بالزراعة الطبيعية (bio)، التي تعرف طلبا متزايدا في الأسواق الأوروبية بالأساس، حيث يمكن للجزائر أن تكسب معركة المنافسة. ومن ثمة، وتحسبا للمرحلة القادمة، تعد سنة 2015 موعدا حاسما للدفع بالفلاحة إلى التحول من قطاع مستهلك للدعم المالي، إلى منتج للنمو الاقتصادي بحجم يعوض الفارق الذي تفقده الجزائر جراء تراجع موارد المحروقات، وذلك بالانتقال من مجرد تلبية الطلب الداخلي للاستهلاك إلى التصدير نحو أسواق خارجية بالتركيز على فروع إنتاجية تملك فيها الجزائر أوراقا مقوية تضمن لها ربح المنافسة، ويتحمل المهنيون جانبا أكبر من المسؤولية خاصة الغرف الفلاحية. لكن طموح بهذا الحجم لا يتحقق بإعادة إنتاج سلوكات وذهنيات أثبتت محدوديتها بفعل جعل قطاع حيوي كالفلاحة يرتبط بحبل سري بالخزينة العمومية، إلى درجة انه يستهلك احتياطات مالية هائلة، وإنما بارتقائه في التعامل مع الإمكانيات والاحتياجات، بدءا بإنهاء معالجة ملف الأراضي الفلاحية المحوّلة عن طابعها الأصلي، خاصة تلك التي تعرضت لاعتداءات في فترات سابقة كانت فيها الدولة منشغلة بمواجهة اخطر عدوان على الأمة طيلة التسعينات. وقد التزم الوزير عبد الوهاب نوري بمعالجة هذا الملف على أساس معيار الارتباط بالأرض، بل وضرورة التوجه لإدماج الأراضي التابعة للقطاع الخاص في برامج التنمية الزراعية طبقا للأهداف الوطني الكبرى، التي يقتضي بلوغها حشد كامل الطاقات وتجنيد كافة الوسائل بما يعزز قدرات البلاد ويحفظ حقوقيو الأجيال.