دخلنا المؤسسة العقابية الحراش، في حدود العاشرة صباحا، يوم 20 جويلية الجاري، تشهد المؤسسة حركة غير عادية والتي تعد نموذجا لسياسة الإصلاح العقابي التي تستهدف أنسنة أكبر للسجون برعاية النزلاء وإعطائهم حق قدرهم من الاهتمام والعناية. وتزويدهم بالتغطية الصحية المناسبة المكفولة، والتكوين والتعليم السامح لهم بنيل شهادة مهنية، الممر الهادئ للاندماج الاجتماعي مجسدا كل الرهان. حركة غير مألوفة تعطي الانطباع للزائر أن شيء ما يحضر، وأن التدابير اتخذت من أجل الموعد الاعتيادي المألوف في هذا الظرف، تكريم السجناء المتفوقين في شهادتي البكالوريا والتعليم المتوسط، وهو حفل دأب عليه تنظيمه الطيب بلعيز، وزير العدل حافظ الأختام، ويسهر على الإشراف عليه كل عام، والهدف ليس فقط تكريم المساجين الناجحين، بل إعطاء صورة حية للقابعين بالزنزانة بأن مصيرهم بأيديهم، وبأن المجال مفتوح عن آخره من أجل فعل شيء ما للاندماج الاجتماعي، وليس في ذلك بمستحيل! تحصين الذات من الانحراف يسهل الاندماج عند التسلح بشهادة مهنية تبعد من ارتكب خطأ أو انحراف من السقوط ثانية في وكر الجريمة، وتجعله يساهم في تغيير الصورة المرتسمة في الذهن، إن المحبوس مجرم إلى يوم الدين. وهي صورة خاطئة بالتمام، لكنها مخزنة في بعض الذهنيات المعيقة للاندماج الاجتماعي للآسف. وتتطلب مزيدا من حملات التحسيس والتعبئة من أجل إصلاح الوضع وسد الشرخ، وصولا إلى مجتمع آمن عادل يلعب فيه كل الأبناء دورا وظيفيا بما فيهم الذين نفذوا عقوبة الانحراف، ونالوا جزاءهم. وعادوا بعقلية أخرى ترى الاندماج غاية أسمى، تحمل قيمة لا تقدر بثمن. حركة دؤوبة لمسناها ونحن نعبر البوابة الرئيسية لسجن الحراش بغية إجراء ربورتاج عن المتفوقين في شهادتي البكالوريا والتعليم المتوسط. عمليات طلاء وتحسين وجه المؤسسة العقابية جارية على قدم وساق، استعدادا لموعد تكريم الناجحين في الاستحقاق التعليمي، اليوم الأربعاء. الحدث المهم يتوقف فيه عند مسار إعادة التربية والاندماج الاجتماعي، وفعل ما في الممكن من أجل سد الفجوات والتقليل منها إلى أبعد الحدود، بإجراءات عملية مبسطة تحرص عليها سياسة الإصلاحات في هذا القطاع الحيوي الحساس. وهي سياسة تبحث عن حلول جذرية لمشاكل الانحراف والجريمة، بالقضاء عن مسبباتها بعيدا عن الإجراء الردعي والعصا الغليظة المولدة أحيانا مضاعفات وأخطار لا تحمد عقباها. تجاوز الإحباط النفسي والمخاوف في هذا الجو، تعمل المؤسسة العقابية المتواجدة بالحراش، وتخوض معركة على طريقتها من أجل إنجاح سياسة الاندماج الاجتماعي بتخرج نزلاء مسلحين بشهادة مهنية وتعليمية تحصنهم من آفة الجريمة. وتقيهم شر السقوط فيها ثانية،. وتكشف عن نشاطها البنائي، حالة نجاح المساجين في امتحانات البكالوريا والتعليم المتوسط، ناهيك عن الشهادات المهنية في مختلف تخصصات التكوين التي تعرف إقبالا منقطع النظير. فقد نال 63 نزيلا البكالوريا هذا الموسم من ضمن 95 مترشحا في شعبة الآداب والعلوم الإنسانية، أول الفائزين نالها باستحقاق وتحد بمعدل 91,14 وأغلبهم توجهوا إلى الدراسات القانونية وما تشمله من أعمال ومهن، ومن ضمن الناجحين في البكالوريا ثلاث نزيلات يراهنن على التعليم العالي في الاندماج الاجتماعي، وتجاوز حقبة الإحباط والقنوط والانحراف. وحسب ع. حليم، عون بإعادة التربية، فإن النتائج المسجلة في البكالوريا تقارب محصلة العام الماضي، المقدرة ب 76 ناجحا من أصل 97 مترشحا. لكن القفزة الملحوظة عرفت في شهادة التعليم المتوسط، حيث نجح فيها 77 سجينا منهم 02 نساء من 95 مترشحا، وأول الفائزين نالها بمعدل 50,,14 مما يكشف عن جدية التحضير وقوة التحصيل التعليمي، فكيف إذن جرت الأمور وهيئت الأجواء التي ساعدت المساجين من تجاوز عقبة الامتحان وفرض الوجود في محيط استثنائي؟ يقول ع. حليم الذي رافقنا في الجولة الاستطلاعية، وزودنا بأدق التفاصيل، أن التحضير الجيد جوهر العملية التعليمية كلها بسجن الحراش، وتمنح المسألة العناية المفرطة إلى حد القداسة. وأضاف عون إعادة التربية أن أغلب المحبوسين يتابعون تعليمهم بالمراسلة، يؤمنها المركز الجهوي للتعليم عن بعد الذي يزودهم بأساتذة في المستوى المطلوب، فضلا عن الدروس التدعيمية في المواد الأساسية من المؤسسة العقابية نفسها، وهي المؤسسة التي توفر لهم الكتب ومستلزمات المطالعة والمراجعة. الدراسة الجامعية بأي طريقة وبعد فترة التحضير، اجتاز المترشحون للامتحانات البكالوريا والتعليم المتوسط، داخل المؤسسة العقابية التي اعتمدت مركزا انتخابيا من مديرية التربية الوطنية التي أطرتهم مائة في المائة. وبقي أعوان إعادة التربية مهتمين بالمراقبة الأمنية والمساعدة. وفي هذا الجو المهيأ للغاية الذي لم يشعر فيه السجين بأنه داخل زنزانة، بل في مركز امتحان عادي متوفر على كل الشروط، جرت مسابقات البكالوريا ومسابقة التعليم المتوسط، وكللت بالنجاح المذكور محل التقدير، فكيف يواصل المحبوسين الدراسة الجامعية وبأي كيفية وصيغة؟ تختلف وضعية كل محبوس، وتتباين حسب درجة العقوبة وآجال التنفيذ، وتدور حول ثلاث حالات. أولها: أن هناك من المحبوسين الذين استفادوا من العفو الرئاسي، الذين أفرج عنهم، وصاروا يتابعون التعليم الجامعي بصفة عادية خارج الحبس. ثانيها: هناك من تتوفر فيهم شروط الحرية النصفية، الذين بإمكانهم متابعة التعليم بالجامعة نهارا والعودة إلى الزنزانة ليلا. ويوجد بسجن الحراش 06 حالات من هذا النوع، ويوجد 13 طالبا مسجلا في نظام الحرية النصفية، يتابعون الدراسة الجامعية في اختصاص علوم إنسانية، وينتظر الالتحاق به 50 حاليا، ريثما تنتهي عملية الفرز والتثبيت وضبط القائمة النهائية. ثالثها: حالة لا يتوفر فيها الشرطان السابقان، ويتابع هؤلاء الدروس الجامعية من خلال جامعة التكوين المتواصل التي أمضت معها اتفاقية في هذا الشأن، ترسل بموجبها أساتذة لتعليم المحبوسين وعددهم إجمالا بالحراش 38 سجينا، منهم 05 سجناء نالوا في جوان 2009 شهادة الأعمال التطبيقية. وجرت مناقشة رسائلهم التي شدت الانتباه في تخصصات الأعمال والاقتصاد، تحت عناوين جديرة بالتوقف عندها. وتخص المؤسسة التشريع الجزائري والإستراتيجية التسويقية، ويتوقع أن يقدم 13 محبوسا رسائل من هذا القبيل العام القادم. هكذا تحدى السجناء ''تقييد الحرية'' أبدى المساجين بالمؤسسة العقابية الحراش، المتحصلين على شهادتي البكالوريا والتعليم المتوسط، ارتياحا أمام الظروف المهيأة لهذا الاستحقاق. وقالوا في شهادات حية لنا بعين المكان، أن الفوز الذي شارك في صنعه مؤطرين من المؤسسة والمركز الجهوي للتعليم عن بعد، يكشف حقيقة ثابتة أن سياسة إصلاح السجون تسير في الطريق السليم وأن الاندماج الاجتماعي ممكن التجسيد بأيسر الأحوال وأقصر مسافة ونهج. وأكد (ب.ع) 32 سنة، حامل شهادة البكالوريا شعبة آداب وعلوم إنسانية، بمعدل 65,,11 إنه مرتاح للغاية لمواصلة التعليم الجامعي في نظام الحرية النصفية في انتظار استكمال نفاد العقوبة التي لم يبق منها سوى عامين ونصف. وأنه اختار في التسجيل الأولي شعبة العلوم السياسية، أو الاقتصاد في حالة ثانية. وأضاف المتحدث أن شهادة البكالوريا فرصة سانحة للاندماج الاجتماعي الذي يعد كل الرهان. ومن جهته شدد، النزيل (ع. م41 . سنة)، حائز على البكالوريا آداب وعلوم إنسانية بمعدل 77,,12 على أهمية النجاح، وقال إنه اختار الترجمة حيث شروط ملفه متوفرة للتسجيل في هذا الاختصاص، سيما وأن معدله في الانجليزية والفرنسية مريح جدا يقدر ب 17 لكل مادة. وواصل، إنه مسرور لمتابعة الدراسة الجامعية في إطار الحرية النصفية في انتظار الخروج النهائي من السجن الذي لم يبق له من العقوبة سوى عامين لا أكثر. واعترف (ش. ف31 . سنة)، بجدوى البكالوريا التي نالها في شعبة الآداب والعلوم الإنسانية بمعدل 55,,11 ورأى أنها منطلق لتصحيح الذات والعدول النهائي عن فكرة السقوط في الجريمة ثانية. وعن الشعبة التي سجل فيها، قال المتحدث إنه اختار الحقوق أولا والعلوم الإسلامية بعدها، وواصل أن شهادة البكالوريا حلم راوده في السجن ليس فقط للاستفادة من العفو الرئاسي، بل الاندماج في مجتمع ليس دائما رحيما بالذي مر بالزنزانة وارتكب خطأ ونال جزاءه. ولم يخف (ب.م38 . سنة) فرحة الفوز بالبكالوريا بمعدل 11,,11 والتسجيل في شعبة اللغة الفرنسية أو الترجمة الفرنسية، وقال أن ارتباك إنتابه في بداية الأمر، لكنه استعاد الثقة رويدا رويدا بوجود مؤطرين من أعلى المستويات، رافقوه في التحصيل التعليمي حتى النجاح، وإن هذه الفرحة تستمر حتى الخروج النهائي من الزنزانة ونفاد مدة العقوبة التي لم يبق منها إلا 27 شهرا. وتتقاسم السجينات نشوة الفرحة بالبكالوريا التي تساعدهن في تحصين الذات بشهادة تعليمية مهمة للاندماج بلا إلتوائية وتعقيد، وبدت هذه الصورة عند النزيلة (م.س35 . سنة)، التي نالت البكالوريا بمعدل 17,,11 وسجلت في شعبة قانون أعمال. ورأت النزيلة وهي حاملة شهادة الليسانس في العلوم الاقتصادية عام 1996 بجامعة الخروبة، أنها وضعت نصب الأعين البكالوريا جريا وراء الحصول على العفو الرئاسي وتقليص عقوبة 5 سنوات قضت منها عام ونصف العام. ولم تتمالك النزيلة (ر30 . سنة) نفسها وهي حاصلة على البكالوريا بمعدل 96,,10 وقالت موجهة نداء عاجلا لمراجعة العقوبة وتخفيفها إلى المؤقت لإعادة لها الأمل الساكن في فؤادها بالعودة إلى أحضان المجتمع والاندماج فيه تجسيدا للسياسة العقابية الجديدة. وذكرت السجينة التي بحوزتها ثلاث شهادات بكالوريا نالتها في الحراش، إنها ما انفكت تطالب المعنيين بهذا الأمر بما فيهم الوزير بلعيز في كل عملية تكريم ولازالت تعيش على أمل أن يسمع صوتها ويستجاب لندائها الملح. واكتملت الفرحة لدى حاملي شهادة التعليم المتوسط، وقال لنا (م.ن32 . سنة) الفائز في الاستحقاق بمعدل 13,,14 إن حلمه مزاولة التعليم الجامعي بعد البكالوريا التي يحضر جيدا لها من الآن، وذكر إنه يأمل في أن يتخصص في الطب مستقبلا. وذكر السجين (ب. س 48 سنة) متحصل على شهادة المتوسط بمعدل 52,12 أنه قطع خطوات في سبيل الاندماج الاجتماعي متسلحا بشهادة ذات قيمة. وقال أن مهمته تعززت بالشهادة المهنية التي نالها في الكهرباء العامة، وتقوية مساره التعليمي الثانوي حيث انتقل إلى الثانية ثانوي شعبة آداب. وذكر المتحدث إنه نال شهادة التعليم المتوسط داخل الزنزانة في حين أخفق ابنه فيها وهو حر طليق. وهذا يؤكد مدى الظروف المهيأة للدراسة بالمؤسسة العقابية الحراش. ووردت البهجة على لسان (ع. ف 38 . سنة) الذي نجح بمعدل 10,,12 قائلا أن الشهادة عامل محفز للتسلح بالمعرفة والمهنة والابتعاد عن كل أشكال الآفات والانحراف. وأثنى (ب. ع. 34 سنة) متحصل على شهادة التعليم المتوسط بمعدل31,,13 على الصحافة التي تعد شريكا قويا في سياسة إعادة الإدماج، وقال إن الفوز يحرر من الاكراهات التي يعيشها السجين بشكل أو آخر حتى النفسية. وأن غايته الذهاب أبعد من الشهادة في حد ذاتها جريا وراء التحصيل المعرفي الذي لا يتوقف نزولا عند ما ذكر به الشاعر المتنبي: ''قل للذي يدعي في العلم معرفة، حفظت شيئا وغابت عنك أشياء''. وختمت النزيلة بالتذكير بقوة الفرحة التي لا توصف، وقالت (ا. ك. صاحبة ال 27 ربيعا)، أن المعجزة حققتها في السجن وعجزت عنها وهي خارجه، وتساءلت بنبرة ابتهاج كيف لا تكتمل الفرحة وسط هذا الجو الاستثنائي الذي ساهمت فيه أكثر من جهة ضمن تقاسم وظيفي غايته الأوحد الذهاب بسياسة الإدماج الاجتماعي إلى الأقوم وإلى الأبعد لا تشوبها شائبة ولا تعترضها عائقة وصعوبة، وما جرى في سجن الحراش الشاهد الحي والصورة التي لا تقبل التعليق.