الجرائم لا تسقط بالتقادم والاعتراف لن يفرض ذاكرة النسيان فرنسا الاستعمارية، بالرغم من المجازر والبشاعة التي مارستها ضد الشعب الجزائري طيلة قرن ونصف بمختلف الأشكال والأساليب، مازالت تتبع سياقات منهجها الحافل بالإجرام وتكبيل الأفواه والاستيلاء على الأرشيف وطمس الحقائق، رغم الادعاءات المشككة في تضحيات وبطولات المجاهدين والشهداء وفي الكثير من الأحيان الاحتفاظ بها للمساومات التاريخية، رغم نعمة الاستقلال التي دفعت الجزائر من أجله ضريبة كبرى وقوافل من الشهداء والمفقودين والمشردين ومنهم من نفي إلى كيانات لا يعلم بمصيرهم أحد، لأن هذا الأرشيف مازال رهين الإدارة الاستعمارية لم تفرج عنه إلى غاية كتابة هذه الأسطر. فرنسا التي تتغنى بالحريات الفردية وحرية الرأي والتعبير، لم تكن في منأى عن أسطورتها الخرافية، خاصة عندما يتعلق الأمر بثورة الجزائر وتاريخ أمجادها، وإلا كيف يفسر أن تكون مطية إخفاق أمام صور التحرر والنضال من أجل الحق في الإعلام وفي التعبير. صورة الكتاب «الاستعمار الفرنسي للجزائر، حصيلة رماد وجمر» لصاحبه المجاهد والبروفيسور محمد الصالح حسناوي، الذي فضح مؤامراتها عند محاولة طبعه الإصدار التاريخي الهام وتحدثه عن مجزرة دموية في حق سكان الزاب البسكري وبالضبط في قرية العامري، أين أبادت قرية بأهلها ولم ترحم فيهم رضيعا ولا شيخا ولا امرأة وعاملتهم بطريقة أقل ما يقال عنها أنها جريمة لا تسقط بالتقادم وتظل وصمة عار في جبينها إلى الأبد، لن تمحوها السنوات مهما طالت. ليس هناك أي تفسير في منع نشر صور لعساكر وضباط فرنسيين من الكتيبة الثالثة - مشاة، رفقة قائدهم ومن خلفهم سكان دوار «البويازيد»، ضمن شهادات حية كتبها مجاهد عايش مرحلة الاستعمار وتعلم عن والده الإمام بقرية العامري القريبة من مدينة الدوسن بولاية بسكرة، وبحكم أن والده كان إماما في تلك الفترة فقد ورث عنه الكثير من الحقائق والشهادات، إلا أنه اصطدم بانعدام المراجع والوثائق والمقالات عن هذه المجزرة الضاربة في طي النسيان، لأن الإدارة الاستعمارية أرادت ذلك. البرفيسور محمد الصالح لم يتوان في كشف خيوط هذه المحرقة الجماعية ضد قرية بأكملها، لكنه في نهاية المطاف يفاجأ برفض دار النشر السماح له بنشر صورة هؤلاء الجنود والضباط بداعي طلب الإذن من أفراد عائلاتهم، وهي حجة «عذر أقبح من ذنب»، وهل يعقل في تاريخ الأمم أن تباد أمة بأكملها، أهون من صورة مجرمين في زي عسكري بائس؟ أمة لا تنسى تاريخها... أمة تكبر رغم محاولات التشكيك لغة الإجرام لم تكن غريبة عن فرنسا الاستعمارية، لو حاولنا كتابة قوافل الشهداء وطرق إعدامهم وقتلهم وتشريدهم ونفيهم إلى العوالم الأخرى الغريبة منها والبعيدة، لانتهت أعمارنا وتاريخ هؤلاء لايزال لم يكتب بعد، فكم تساوي صرخة طفل رضيع وأمه تجر أمام عينه إلى طلقة نارية لا ترحم، وكم تساوي لحظة إعدام شيخ طاعن في السن يعبر الطريق وهو لا يدري، أي مصير ينتظره؟ وكم تساوي آهات سجين أو أسير وقد نسجت له أحكام الفجر مقصلة العمر؟ وكم من مغارة احتضنت أرواح العزل والفقراء والأطفال وقد حولوها إلى قبر كبير، دون شواهد إثبات ولا أسباب مقنعة؟ إن مجازر أولاد رياح والمعاضيد وأعراش الأوراس والأرباع، والقبائل والتيطري والزعاطشة غيرها من مناطق كبيرة من الجزائر، مازالت تحمل أثار هذه الجرائم البشعة، التي لم يلد التاريخ مثلها، ولم تكن إلا النازية مثيلتها أو شبيهها، مجزرة العامري هي أيضا واحدة، من أبشع هذه المجازر المرتكبة في حق شعب أعزل، ذنبه الوحيد أنه ما خلق ليستعبد أو يستعمر، شعب خلق ليكون حرا وسيدا في ربوعه دون قيد أو شرط. ولم يتحدث عنها من قبل، بل لم تأخذ حقها من الكتابة والبحث والتأريخ وإن كانت جريمة كبرى لا مثيل لها، إلا أن طمس الحقائق والتستر عن الجرائم بكل الوسائل والطرق هي من أدبيات الاستعمار واستراتيجيته الجهنمية في عزل القرى والمداشر وتبني سياسة الكيل بمكيالين. فرنسا التي تفنّنت في ممارساتها الإجرامية لم تثنها الفضائح المختلفة في سجلها الحافل المجازر، بل استعملت حتى أسلحتها المحرمة دوليا على جيش التحرير في الجبال والقرى، فأبادت الزرع والحرث ولم تكتف بذلك بل وصل بها الأمر إلى جعل البشر فئران تجارب لقنبلتها النووية، واليربوع الأزرق مازالت أثاره ماثلة إلى اليوم على المواليد الجدد لمنطقة رقان وما جاورها. أي حق تكفله الدساتير الدولية لمطالبة المجرم بالاعتراف؟ وأي قرينة براءة يدعيها دفاع الجلاد؟ وأي عذر تلجأ إليه هذه الإدارة الاستعمارية للفرار من طمس الحقيقة المرة؟