أعادت قضية ذبح الطفل عبد الرؤوف بسطيف إلى الأذهان عمليات اغتيال الأطفال، وطفت على السطح أسماء أنيس وعامر وياسر وأوجه ملائكية أخرى اغتالتها همجية الإجرام التي اخترقت كل الأسقف والدرجات وورطت معها مجتمع بكامله. فدم عبد الرؤوف وأترابه يهدد الجميع باللعنة، وما دامت خناجر الكبار تستل من أجل تصفية الحسابات مع الصغار فهذا يعني أن هناك خللا كبيرا في المعاملات واختلالا فظيعا في المفاهيم والتصورات. والسؤال المحير: هل تدرجنا كل عتبات الإجرام وبلغنا الذروة أم أن هناك أسقفا أخرى لم ندركها بعد. مشهد قل نظيره حتى في أبشع أفلام الرعب، صورة أم كانت جالسة داخل سيارة رفقة ابنها بحي شعبي بسطيف فاقترب منها شخص غريب تظاهر في البداية بمداعبة طفلها البالغ من العمر 5 سنوات وفجأة في لحظة جنون خطف الطفل وتأبطه وركض به لعدة أمتار، ولما لاحقته الأم وهي تصرخ توقف هذا الوحش الآدمي واستل خنجرا ودون أي تردد ذبح الطفل أمام عيني أمه وألقى به على حافة الطريق ولاذ بالفرار. الصورة رغم تركيبتها فوق الهمجية وقعت بمدينة اسمها سطيف، وفي بلد اسمه الجزائر، وخلفت وراءها ألف سؤال وسؤال، منها على سبيل المثال لا الحصر كيف يجرؤ ابن آدم على ذبح طفل بهذه الطريقة؟ كيف وصلنا إلى هذا الحد من الإجرام؟ هل هناك دافع لقتل طفل لا دخل له في مشاكل الكبار؟ من يتحمل مسؤولية قتل البراءة؟ لماذا لم يتدخل المارة والشهود لمنع الجريمة؟ ألم يكن هناك "رجل رشيد" بإمكانه التدخل لإلقاء القبض على المجرم أو على الأقل التعرف على الجاني.. هل دخلنا مرحلة الخوف التي لم نعد نأتمن فيها بعضنا البعض؟ هل تسلل الغدر إلى شوارعنا وأسواقنا وبات كل واحد مطالبا بأخذ احتياطاته؟ هل كل إنسان يحمل في قلبه بذرة إجرام قد تتحول إلى شجرة في أي لحظة وهو لا يدري؟
جثث أطفال في الآبار وعلى حواف الطرق لنعد قليلا الى الوراء، بالأمس القريب قتل أنيس وهو طفل من مدينة العلمة بولاية سطيف يبلغ من العمر عامين فقط، وقد تم اغتياله بتاريخ 23 ديسمبر 2007 حيث تعرض هذا البريء إلى الاختطاف بالقرب من منزله الكائن بحي ضحايا الإرهاب بالعلمة فاختفى عن الأنظار فجأة، ولما طال غيابه تلقى والده رسائل عبر الهاتف تطالبه بالفدية مقابل استرجاع ابنه، وفي كل مرة يتم تحديد مكان لاستلام الطفل على طريقة الأفلام الهوليودية، وبعد سيسبانس دام 9 أيام كاملة تم العثور على أنيس جثة هامدة مرمية في بئر. وأما الطفل عامر البالغ من 11 سنة فقد تم قتله بتاريخ 21 جانفي 2006 حيث تعرض هو الآخر للاختطاف بالقرب من منزل والده الكائن بحي 19 جوان بالعلمة، وبنفس الطريقة تلقى والده رسائل نصية عبر الهاتف حدد أصحابها قيمة الفدية بواحد مليار سنتيم، لكن في نهاية المطاف تم العثور على جثة عامر في كيس مرمي على حافة الطريق ببلدية تيزي نبشار الواقعة شمال ولاية سطيف، وحسب تقرير تشريح الجثة فقد تعرض عامر للخنق بعنف وكسرت رقبته. أما آخر قضية فقد وقعت منذ أيام فقط، وبالضبط بتاريخ 24 جانفي 2012، حيث اقترب شخص مجهول من الأم التي كانت رفقة ابنها داخل سيارة بحي بيرقاي بسطيف فتظاهر بمداعبة الطفل عبد الرؤوف وفجأة اختطفه وركض به لعدة أمتار ثم قام بذبحه أمام عيني أمه والناس يتفرجون. هناك ملاحظة غريبة قد تكون غير صائبة، لكن لن نخسر شيئا إذا أشرنا إليها، فبالنظر لتواريخ الجرائم الثلاثة نجد أنها وقعت في نفس الفترة الممتدة بين شهري ديسمبر وجانفي أي خلال نهاية سنة وبداية سنة ميلادية جديدة، ولنقل في فصل الشتاء، بل إن تاريخ قتل عامر كان يوم 21 جانفي بينما قتل عبد الرؤوف يوم 24 جانفي، قد يكون ذلك من باب الصدفة مثلما يقول رئيس قسم علم الاجتماع بجامعة سطيف الأستاذ نويصر، والذي يؤكد في تصريح للشروق اليومي أن الجرائم الثلاث وقعت في فصل الشتاء، لكن تزامنها مع نفس الفترة كان من باب الصدفة، لأنه في هذا الفصل من المفروض أن تنقص جرائم القتل بصفة عامة وتزيد في فصل الصيف الذي يرتفع فيه معدل الهيستيريا بسبب الحرارة. من جهتنا، اتصلنا بوالد عامر الذي فقد ابنه منذ ست سنوات وسألناه كيف تلقى خبر اغتيال طفل آخر اسمه عبد الرؤوف فأجابنا الوالد بأنه يوم الحادثة كان خارج الوطن لكن شقيقه أخبره بالجريمة فقام بتعبئة رصيده خصيصا لمتابعة حيثيات القضية بالهاتف، كما طلب من أهله أن يزوروا عائلة عبد الرؤوف بالحامة. ويقول الوالد إنه تأثر كثيرا للحادثة خاصة أن صورة عامر لم تغادر عينيه كما اهتزت أم عامر للحادثة وكأن خنجرا انغمس في فؤادها من جديد، ويضيف الوالد وعيناه تفيضان بالدمع "إن جرحي لن يندمل إلى الممات". كما اتصلنا أيضا بعائلة أنيس التي فقدت ابنها منذ خمس سنوات فصرح لنا جد أنيس بأنه تأثر كثيرا لجريمة قتل عبد الرؤوف، وعند وقوعها استعاد الأحداث التي عايشها رفقة العائلة عند مقتل أنيس، ويضيف قائلا بكلمات متثاقلة "منذ أن سمعت بمقتل الطفل عبد الرؤوف لم أنم، لا أنا ولا زوجتي ولا ابني ولا أم أنيس وكلنا في حيرة دائمة ولا زلنا نتساءل إلى متى ستبقى مثل هذه الجرائم؟!".
عندما تكون الجريمة بلا دافع! جرت العادة أن يتعرف المحققون على هوية الجاني من خلال معرفة الدافع لارتكاب الجريمة، لكن قضية اغتيال الطفل عبد الرؤوف تعد من أعقد القضايا، لأن الدافع غير واضح أو ليس هناك دافع أصلا، فوالد الضحية يقسم ويجزم انه شخص مسالم وليس له أعداء ولم يدخل في خلاف مع أي شخص وليست له أي فكرة عن هذا المجهول الذي ذبح ابنه بتلك البرودة. وعندما يغيب الدافع تتعقد عملية التحقيق والجريمة تكون أخطر، لأن هذا يعني أننا بلغنا درجة مفزعة من الإجرام، وفي هذه النقطة صرح لنا الدكتور جمال النوي، وهو أستاذ في علم الاجتماع بجامعة سطيف، أن "الغريب في هذه الجريمة أن المتهم لم يتعاط مع الطفل الضحية ولا مع العائلة، ورغم ذلك تم الذبح بكل برودة". ويقول الأستاذ النوي "إننا بحاجة إلى دراسة علمية للجريمة وإحاطة بكل حيثياتها ونفتح المجال للبحث وعلم الاجتماع الإجرامي المغيب عندنا، بل قبل الجريمة علينا أن نعالج الانحراف المنتشر وسط الشباب، لأن هذا العامل يقود حتما إلى الجريمة. وينبغي الاعتراف أننا نفتقد إلى دراسة علمية للجريمة ومكانها ووقت حدوثها، ونفس الشيء بالنسبة للإحصاءات المتعلقة بالإجرام والمجرمين خاصة أولئك الذين يعاودون الكرَة، فمن المفروض أن يتم إحصاؤهم ومعالجتهم ومتابعتهم بطريقة علمية ولا نكتفي بسجنهم بل لا بد أن نغير طريقة تعاملنا مع الجريمة ونحاول أن ندرسها دراسة علمية."
سلبية جماعية شعارها "تخطي راسي" الغريب أيضا في قضية اغتيال الطفل عبد الرؤوف أن عملية الذبح لم تتم في المريخ وإنما بالقرب من سوق شعبي ومحطة لسيارات الأجرة، أي في مكان يعج بالناس، ورغم ذلك لم يتدخل أحد، وفي اللحظة التي كانت الأم تصرخ فزعا لاختطاف ابنها لم يفكر أي شخص من المارة في تقديم يد المساعدة، مما يعني أن هناك استقالة جماعية وتراجعا رهيبا لمسؤولية الفرد الجزائري اتجاه غيره، ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تعد من ركائز المعاملات في الدين الإسلامي أضحت اليوم شيئا نظريا، وكأن هناك مفاهيم تغيرت وهي بحاجة اليوم إلى إعادة نظر، فلماذا لم يتدخل أحد لإنقاذ الطفل أو لم يحاول أي شخص القبض على الجاني أو الاستجابة لصرخات الأم أو على الأقل تقديم مواصفات المتهم ومعلومات تفيد مصالح الأمن. هذه السلبية يجيبنا عنها أحد المواطنين فيقول إن المواطن الجزائري لم يعد يبلغ عن الجرائم لأنه يخشى الدخول في متاهات هو في غنى عنها، فبحكم التجربة هناك من قدم بلاغا لمصالح الأمن تحول إلى طرف في القضية وتعرض للبهدلة بدل أن يتم التعامل معه كفاعل خير، وينبغي الاعتراف أن الضبطية القضائية تلزم الشخص الذي يتقدم ببلاغ بتقديم شكوى ودخول القضية كشاهد وأحيانا يجد نفسه متهما، الأمر الذي يفسر نفور الناس من التبليغ عن الجرائم. هذا الرأي يرد عليه الأستاذ أحمد ساعي، نقيب المحامين بولاية سطيف، فيقول إن الجرائم في مجتمعنا تطورت بشكل ملحوظ إلى درجة أن الخوف أصبح يخيم على الجميع في الطرقات أو الأماكن العمومية، والعدالة وحدها لا تكفي للحد من الجريمة أو التقليل منها، بل يتطلب الأمر تدخل الأولياء والمدرسة والمسجد والمجتمع ككل، والغريب أن البعض يخاف من تقديم المساعدة مع العلم أن عدم إغاثة شخص في حالة خطر تصرف يعاقب عليه القانون، فمن غير المعقول أن ترتكب جرائم في الطريق والمارة يتفرجون، فنحن في هذه الحالة أمام مجتمع مستقيل، والصمت يعد تواطؤا مع الجريمة والمجرمين.
هل لصرخة الأم صدى؟ طيب هناك وحشية ودرجة خطيرة من الإجرام وسلبية مجتمع، بعبارة أخرى نحن أمام مجمع من الكوارث وكل واحد فينا يحس أنه متورط بشكل أو بآخر، فأين المفر؟ قبل البحث عن مخرج وجب التنويه انه لو وقعت هذه الجريمة في بلد آخر لقامت الدنيا ولم تقعد، فلو حدثت مثلا في دولة أوروبية لشهدنا استقالات على أعلى مستوى وتم طرح القضية على البرلمان وعلى الوزراء والحكومة. أما وسائل الإعلام الثقيلة عندهم فستشكل ضغطا رهيبا على الجميع، وستكون دون شك قضية قتل الطفل افتتاحية لكل النشرات الإخبارية وتنظم لأجلها ندوات وملتقيات وتجمعات ووقفات. المختصون يجمعون أن المسؤولية يتحملها الجميع، وكل مواطن جزائري معني بالقضية، والأصابع موجهة إلى الأسرة والمدرسة والمسجد والحركة الجمعوية، فبالنسبة للأسرة هناك آباء لا يلتقون بأبنائهم إلا صدفة، فلا يتابعونهم ولا يعلمون مع من يجلسون، وأين يقضون أوقات فراغهم. وفي المساجد هناك أئمة لا زالوا يتحدثون عن عبدة الأصنام والقرون الأولى ولا علاقة لهم ،بواقع الناس، بل منهم من يستنسخ خطب السنة الماضية ليلقيها هذا العام والسنة القادمة، وأما أحدث الدروس فيتطرقون فيها إلى خلافهم مع اللجنة الدينية للمسجد ومشكل الميضاء ولواحقها ومشكل المصلين الذين تسببوا في تعطيل الموقد والمبرد وفتحوا النوافذ دون إذن. وأما الجمعيات عندنا فلا حضور لها إلا في المناسبات ولا اهتمام لأصحابها إلا بالدعم المالي. حدثنا الشيخ ابراهيم بودوخة، وهو إمام مسجد العتيق بسطيف، ورجل فقه له برامج إذاعية، فقال: إن الجريمة في السابق كانت مرتبطة بالقيمة، أي أن المجرم كان يقتل أو يسرق بدافع الجوع أو الشرف أو الإهانة، لكن اليوم دخلنا مرحلة جرائم منزوعة القيمة، أي أن المجرم أصبح يقتل بدون سبب، وهو نمط جديد في الحياة تم استيراده من الدول الغربية". وللحد من هذه الظاهرة، يقول الشيخ بودوخة "على المجتمع أن يتشبث بالقيم الإيمانية، ولا يقتصر الأمر على الخطاب العنيف، فالجريمة تنوعت والقضية الحالية ليست سوى عينة من جرائم بشعة عديدة على المسجد أن يلعب دوره بفعالية في توعية الناس". اتصلنا أيضا بالسيد لزهر جيلاني، وهو مستشار دولي في التنمية والتعمير ودرس بأمريكا، فأدلى بتصريح للشروق اليومي يقول فيه "إن سطيف معروفة كولاية آمنة، وإن تحدث فيها جريمة بهذا الشكل فهذا أمر فظيع، فالعنف عامل دخيل ومؤشر خطير، وعلينا أن نعتني بالجيل الحالي، لأنه يعايش ظروفا غير ظروفنا، وعلينا أن نعود إلى هيكلة المجتمع ونقوي دور المجتمع المدني"، ويضيف السيد لزهر جيلاني "إن الجمعيات تشكل عاملا أساسيا لتنظيم المجمع" وهنا يسرد لنا قصة نقاشه مع أحد الخبراء الأمريكيين الذي قال له بأن في الولاياتالمتحدةالأمريكية توجد 80 ألف حكومة، فيقول "استغربت لهذا الكلام، فإذا بالخبير يوضح لي بأنه يقصد الجمعيات، فكل جمعية بمثابة حكومة لما لها من دور في كل القطاعات ما عدا السياسة الخارجية التي أوكلت للرئيس الأمريكي، أما دون ذلك فكل القضايا تشارك فيها الجمعيات وكل الجهات تلجأ إليها وتستعين بها في مختلف المجالات، ولذلك نجد المترشحين للانتخابات يلجأون إليها لأنها عنصر فعال في المجتمع".